بازگشت

و مماشاته لاهل الكوفة


خاطب اللَّه هذه الأمة مبشراً لهم بما لرسوله من كرم الأخلاق معهم فقال - وله المنّة والطول - «لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم» [1] .

ولقد ورثه ولده أبو عبد اللَّه بهذه الصفات وغيرها من كريم الصفات، فاجتهد أن لا يتعجل القوم له بالقتال حِرصاً علي هدايتهم ورجوعهم الي الحق، كلّما جادلهم بالتي هي أحسن، ورأفة عليهم من عذاب اللَّه، ولقد عزّ عليه أن يشقي بقتله هذا الجمّ الغفير من اُمة جده فيكون مصيرهم النار، ولا عَنَت أعظم من دخول جهنّم، حتي أنه إذا أيس من هداية الرجل من أمة جده الي الفور بنصرته أشار عليه أن يبعد فلا يسمع واعية أهل البيت، علماً منه أن من سمع واعيتهم ولم يجبهم أكبه اللَّه علي منخريه في النار، كما اشار علي ابن الحر الجعفي [2] .




وساكني كربلاء من بني أسد، وقد ناقضه في رأيه ابن زياد الشقي، فكان يستحث ابن سعد في المناجزة انتهازاً لفرصة ميل الكوفة اليه، وعلماً منه بأنّهم لا يقيمون علي رأي واحد، ولا سيما إذ طالبهم الحسين بحقوقه عليهم قديماً وحديثاً، وخوفاً أن يلحق به المدد من البلاد البعيدة كابن مسعودٍ وجيشه البصري، فلما طلعت الشمس يوم عاشوراء تحرّش ابن سعدٍ [3] فأطلق سهمه من قوسه، والتفت الي رؤساء جيشه قائلاً إشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمي الحسين عليه السلام بسهم [4] وتبعه رؤساء القوم وقبائلهم، فاستحرّ القتل واصطلي الفريقان نار الحرب، حملةً وحملةً وصولةً وصولةً، حتي استشهد معظم اصحاب الحسين عليه السلام، ثم جعل يخرج لهم الواحد والأثنين، وقد أمر الخطباء منهم قبل الحرب، وفي أبانها أن يذكروا القوم بأيام اللَّه، وينذروهم بطش اللَّه، فذهبت خطب اولئك البلغاء المصاقع كصرخةً في بلاقع [5] ، ولم ينتفع بخطبه وخُطب اصحابه إلا القليل، وما


زاد أكثرهم غير تبتيب وقد قال اللَّه تعالي لجده من قبل ُ «فإنّك لا تسمعُ الموتي ولا تسمع الصمُ الدعاءَ إذا ولّوا مدبرين» [6] .

أجل إن جهد الحسين في إنقاذ اُمة جده من هوة الباطل لقد تجاوز حدود العادة، فقد توصل الي تنبيههم من غفلتهم بشتي الوسائل، وجاءهم من مختلف الطرق، حيث قام فيهم -موقفاً بعد موقف - سبط من اوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب وسليل من سنَّ في الخلق نهج البلاغة في كل باب، فطالبهم بما كتبوا إليه من نصرته، وإلحافهم عليه في إجابته، وبقربه من رسول اللَّه، وليس فيهم أحدٌ من غير أُمته، وبالكلمات المأثورة عنه فيه وفي ذويه، وبما لأبيه من السوابق الكريمة في رفع قواعد الإسلام، وبمحيط نسبه الوضّاح الذي هو مركز دائرته، بل حتي بلباسه ومركبه وسلاحه، فإنها كانت من مواريث النبوة، وقد أعاد لهم إذ تحلّي بها الذكريات العظيمة، ذكريات حامل الرسالة السماوية الخالدة وبغير ما ذكرنا من الآيات البيّنات فما أجدره أن يخاطب:



لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً

ولكن لا حَياةَ لِمنْ تُنادي



ثم ترك حقوقه الخاصة به ورجع الي الحقوق العامة للإسلام، فإنه مسلمٌ دمه وماله حرام، ولم يأت بما يوجب سفك دمه، ثم عرّج علي الحقوق العامة بين المسلم وغيره، بل بين الناطق والصامت من الحيوان، كالماء فقد جعل اللَّه منه كل شيء حي، والأحياء فيه شَرَعٌ سواء، ثم تنازل عن ذلك لأنه استحق منعه بزعمهم إذ ترك بيعتهم، فطلبه لطفله الذي لا اُسوة له بكل هذه الأمور، وقد نهي الاسلام عن قتل أطفال المشركين، لكن القوم طُبع علي قلوبهم فتركوا شرايع الإسلام والشيم العربية، بل العادات الجارية بين نوع الإنسان.

ولكن هل تدري ماذا كان جواب الكوفة له بعد هذا الإعذار والإنذار، نعم


وربّك لو لم ينزل القرآن ببلاغته الخارجة عن طوق البشر علي السفهاء من قريش وغيرهم، لأكبرنا الحسين ونزّهناه عن تضييع جواهر البلاغة وعرضها علي من لا يعرف قدرها من سفهاء أهل الكوفة، فذهبت خطبه [7] أدراج الرياح وعاملوه معاملة من جعلوا القرآن عضين، فجعلوا بعضه شعراً، والآخر سحراً، ورموا قسماً منه بالكهانة، وقسماً بالأساطير، وما هو إلا وحي يوحي، هكذا كان جواب أهل الكوفة فمرّة بالسكوت، ومرّةً ابرمتنا بكثرة كلامك، وطوراً بالسهام، وطوراً لا نفهم ما تقول، وقد ذهب علي القوم أنه أراد بهم نصحاً وإعذاراً فيما بينه وبينهم، وأخيراً اقترحوا عليه النزول علي حكم يزيد وابن زياد، حين طلب منهم أن يخيّروه بين ثلاثة أمور، أما أن يرجع من حيث أتي، أو يسير الي ثغر من ثغور المسلمين يكون له ما لهم وعليه ما عليهم، أو يأتي يزيد فيضع يدَه في يدِه [8] ، وظني أنهم لو أجابوه إلي ذلك لأختار المسير الي ثغر من ثغور المسلمين، لأنه ترك الفتنة قائمة في المدينة وعلي رأسها مروان بن الحكم مستشار بني أمية، وأما وضع يده في يد يزيد فستعرف أن دونه من مثل الحسين عليه السلام خرط القتاد [9] ، لذلك صمم عليه القوم به بل بالنزول علي حكم يزيد طلباً لقتله، مع


علمهم بأنه لو رجع إلي المدينة أو سار الي ثغر من ثغور المسلمين لا ينفتق عليهم منه ما لا يستطيعون سدّه، لأنهم قد جرّبوه فألفوه صابراً علي الأذي، محتملاً للصبر، وافياً بالعهد أكثر من عشرين سنة، وهو اليوم صاحبهم بالأمس.

هذا ولا يتوهم المعترض في الحسين تناقض الأقوال والأفعال في تنازله هذا لبني أمية أو ما يجري مجراه، فإن ابن رسول اللَّه لم يزل متمسكاً بمبدئه المقدس في الدفاع عن ناموس الإسلام، بنفسه وما ملكت يمينه لا يلوي علي غيره ولا يعرج علي سواه، لكنه في أكثر هذه الموارد يبالغ في تسجيل الحجة علي خصومه، حيث ينقطع رجاؤه من إجابتهم طلبته، ولئلا يقول المعترضون وغيرهم هلاّ تنازل مع مناوئيه بعض التنازل، ليستدرجهم الي استغلال بعض أمانيه.

وإن ضايق المعترض وزعم أن من أمثال هذه الموارد الإرادة الجديّة منه فلنا أن نقول وأي غضاضة علي نصير الحق وسيد المجاهدين اذا ساير الوضع الحاضر، وتحيّز الي جانب آخر من جوانب الدفاع، وشرع خطة غير التي كان عليها، وهي بحسب الظروف الحاضره أهمُ من الأولي، ومن قرأ سيرة جدّه ومصالحته مع المشركين، حتي محا اسمه الشريف من الرسالة باصبع نفسه [10] ، ورجع عن مكة متربصاً سنوح فرصة أخري، أذعن بأن سبطه متممٌ لسيرته ومبتليً بكل ما ابتلي به، من سلف يزيد سُنة بسنةٍ ومثلاً بمثلٍ، لكن رسول اللَّه أوتي سؤله، فصالح ورجع الي مدينته المنورة بجيشه واصحابه، وسبطه لم يرجع الي المدينة إلا نساؤه الأيامي وأطفاله اليتامي، وبقي هو شِلواً في عرصة كربلاء مكبوباً علي وجهه، وأصحابه مجزرين حوله كالأضاحي تصهرهم الشمس، وتجول عليهم خيول الأعداء.



صرعي تُقلِّبهم ايدي الجيادِ وما

لهم بغيرِ وشيج السمرِ تظليل [11] .





پاورقي

[1] سورة التوبة / 128.

[2] لما خرج الامام الحسين من مکة يريد العراق في الثامن من شهر ذي الحجة سنة 60 هجرية انتهي به السير الي قصر بني مقاتل فالتقي في هذا الموضع ب «عبد الله بن الحر الجعفي» فدعاه الامام الي نصرته قائلاً: (يا بن الحر ان أهل مصرکم هذا - يريد الکوفة - کتبوا الي أنهم مجتمعون علي نصرتي وسألوني القدوم عليهم وليس الامر علي ما زعموا وان عليک ذنوباً کثيرة فهل لک من توبة تمحوا بها ذنوبک).

قال: وما هي يا بن رسول الله؟

قال الحسين عليه السلام: تنصر بن بنت نبيک وتقاتل معه.

فقال ابن الحر: والله اني لاعلم ان من شايعک کان السعيد في الاخرة ولکن ما عسي اغني عنک ولم اخلف لک بالکوفة ناصراً فانشدک الله ان تحملني علي هذه الخطة فإن نفسي لا تسمح بالموت ولکن فرسي هذه (المحلقه) فأرکبها فوالله ما تطلبت عليها شيئاً قط إلا لحقته ولا طلبني احد وانا عليها الا سبقته فخذها فهي لک فارکبها حتي تلحق بمأمنک وأنا لک بالعيالات حتي أردها اليک.

فقال الحسين عليه السلام: (أما إذا رغبت بنفسک عنا فلا حاجة لنا في فرسک ولا فيک وما کنت متخذ المظلين عضداً ولکن فر فلا لنا ولا علينا فوالله لا يسمع واعيتنا احد ثم لا ينصرنا إلا أکبه الله علي وجهه في نار جهنم).

وبودي أن أذکر هنا أن هذا الرجل الذي لم يستجب للحسين ورفض الانضواء تحت لوائه لان نفسه لم تسمح له بالموت - کما مر عليک في جوابه له عليه السلام - ندم بعد ذلک وتأسف وتلهف علي ما فاته من نصرة الحسين وأنشأ أبياتاً رقيقة ضمنها أسفه وندمه وحسرته وهي:



فيا لک حسرةً ما دمت حياً

تردد بين صدري والتراقي



حسينٌ حين يطلب بذل نصري

علي أهل الضلالة والشقاق



غداة يقول لي بالقصر قولاً

أتترکنا وتزمع بالفراق



فلو فلق التلهف قلب حرٍ

لهم اليوم قلبي بانفلاق



ولو واسيته يوماً بنفسي

لنلت کرامةً يوم التلاقي



مع بن المصطفي نفسي فداه

تولي ثم ودع بانطلاق



لقد فاز الاولي نصروا حسيناً

وخاب الاخرون ذوو النفاق.

[3] هو عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري ممن انزعت الرحمة من قلوبهم.

کان قائداً أعلي للقوات المسلحة التي زحفت لقتال سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليه السلام عام 61 هجرية.

أخبر الرسول الاعظم عن سوء عاقبته مراراً فقد روي الرواة أنه اجتاز يوماً علي النبي فلما رآه قال: (يکون مع قوم يأکلون الدنيا بألسنتهم کما تلحس الارضَ البقرةُ بلسانها).

دعا الحسين عليه السلام ربه تبارک وتعالي أن يسلط عليه من يذبحه علي فراشه فاستجاب اللَّه دعائه فذبحه ابو عمره علي فراشه...

تجد تفصيل ذلک ضمن قصة المختار حشره اللَّه تعالي مع الائمة الاطهار.

[4] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 8.

[5] کخطبة زهير بن القين التي افتتحها بقوله: (يا أهل الکوفة نذارِ لکم من عذاب اللَّه نذار...).

وکخطبة برير بن خظير الذي قال فيها (يا معشر الناس ان اللَّه بعث محمداً بشيراً...).

وکخطبة الحر بن يزيد الرياحي التي استهلها بقوله (يا أهل الکوفة لامکم الهبل والعبر إذ...).

وبوسعک - أيها القاري‏ء الکريم - أن تقف علي هذه الخطب وغيرها في کتب المقاتل.

[6] سورة الروم / 52.

[7] للحسين عليه السلام ومنذ نزوله کربلاء والي أن استأثرت بروحه الرحمة الالهية في العاشر من شهر محرم من الخطب ما يلي:

1 - الخطبة التي ألقاها علي أهل بيته وأصحابه بعد وروده کربلاء بساعات قليلة والتي قال فيها (أما بعد فإنه قد نزل بنا من الامر ما قد ترون وإن الدنيا...).

2 - الخطبة التي خطبها بعد أن جمع أصحابه ليلة العاشر قال فيها: (اثني علي اللَّه احسن الثناء وأحمده في...).

3 - الخطبة التي خطبها يوم العاشر علي جند عمر بن سعد قال فيها: (أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتي اعظکم...).

4 - الخطبة التي خطبها بعد أن رکب فرسه وأخذ مصحفاً ونشره علي رأسه ووقف بإزاء القوم قائلاً: (تباً لکم أيتها الجماعة وترحاً حين...).

هذا مجموع خطب الامام الحسين عليه السلام التي نقلها لنا أرباب المقاتل والسير منذ أن وطأت قدماه أرض کربلاء وحتي ساعة شهادته روحي فداه.

[8] وإن صح أن هذا الشق افتراه ابن سعد کما يخبرنا به عقبة بن سمعان / المؤلف.

[9] قال الميداني في کتابه مجمع الامثال ج 1 ص 276 بعد ذکره لهذا المثل: الخرط قشرک الورق عن الشجرة اجتذاباً بکفک والقتاد شجر له شوک أمثال الابر يُضرب للامر دونه مانع.

[10] يشير المؤلف طيب اللَّه ثراه الي ما حصل في صلح الحديبية وذلک في السنة السادسة من الهجرة.

انظر السيرة النبوية لابن هشام ج 3 ص 331، والمغازي للواقدي ج 1 ص 610.

[11] من قصيدة لمؤلف الکتاب عطر اللَّه تربته وقد مرت الاشارة اليها آنفاً.