بازگشت

لم لم يأخذ الحذر من العدو


قالوا إن مسلم [1] بن عقيل رجل لم تحنكه التجارب، ولم يأخذ بنصيب وافر من سياسة الأمور العامة، فكيف أرسله الحسين عليه السلام للكوفة نائباً عنه وقائماً مقامه، ولو كان بارعاً في إدارة الشؤون المهمة لأخراج النعمان بن بشير [2] عامل يزيد علي الكوفة من قصر الإمارة [3] ، لأنه عُش الظلم الذي أوي إليه ابن زيادٍ عند دخوله الكوفة فأن مسلماً قطع ذنب الأفعي وترك رأسها، ولو كان حازماً لطوق الكوفة، بالمسالح ونظم العساكر الجوالة في أفواه الطرق المفضية إليها حتي يوصدها في وجه كل داخلٍ فيها ومخوف عليها، وليستبرئوا له البرَّ حتي يُسلم الكوفة لمولاه الحسين عليه السلام بسلام، وقد كتب له بتعجيل القدوم، فلا يتسرب من جراء هذا الأهمال دخول ابن زياد إليها فيأوي الي قصر الأمارة وينظم المسالح ويطوق الكوفة بالطلايع والعساكر وينتهي الأمر بقتل مسلم علي يده، ثم يحلق به سيده الحسين عليه السلام.


هذا ويمكن الجواب عن الأعتراض الأول بأن مسلماً ليس رجلاً سياسياً فحسب بل هو ديني قبل كونه سياسياً، وقد قال عمّه أميراً المؤمنين (وقد يري الحوّل القلب وجه الحيلة ودونها حاجزٌ من تقوي اللَّه. فيدعها رأي العين وينتهز فرصتها من لا حريجة في الدين [4] اجل أن الكوفيين هم الذين قصّروا إذا خلفوا الحسين عليه السلام ما وعدوه في كتبهم إليه، فقد كتبوا إليه فيما كتبوا (ان النعمان عندنا ضعيف لا نحضر معه جمعة ولا جماعة، ولو آتينا لأخرجناه من بلادنا والحقناه بالشام [5] فكان عليهم - وقد اجابهم الحسين عليه السلام - فبعث إليهم نائباً عنه أن ينجزوا له ما وعدوه، فيخرجوا عامل بني أمية صاغراً وذليلاً، وينفوا كل من لفَّ لفَّه في مناصرة بني أمية، ويسجنوا كل من حذا حذوه، ليصفو الجو فيها لعامل الحسين عليه السلام، وإذا خلا القصر احكموا امره، وحصّنوه من دخول ابن زيادٍ [6] ، وإن لم ينزلوا فيه مسلماً لأنه ربيب مسجد النبي، وقد رأي عمّه الوصي لم يبن له قصر إمارة، بل كان مولده الكعبة وسط المسجد الحرام، وسكناه مسجد الرسول، ودكّة قضائه في مسجد الكوفة، ومقتله في محرابه، ولكن إذا جآء القَدَرُ وَعُميَ البَصَر.

امّا مسلم نفسه فإنه لم يرسله الحسين عليه السلام ليشعل نار الفتنة قبل أوانها، فيبدء العدو بالقتال، ويسارع لنشوب الحرب، وإنما ارسله الحسين عليه السلام ليسبر له رأي أهل الكوفة، فإن وجدهم صادقين فيما كتبوا اليه اخبره بذلك وقد قام في مهمته تلك أحسن قيام، فنصح للَّه ولرسوله ولخليفة زمانه واشار عليه بأن يُسرع إليهم بالقدوم، لئلا يطول العهد وتلعب الأيدي الأثيمة في بغيته دورها، فيقلبوا له ظهر


الِمجن [7] لما يعهده فيهم من سرعة غدرهم ونكثهم البيعة، وقد فعلوها والعهد قريبٌ والجرح لما يندمل.

ونقول في الجواب عن الأعتراض الثاني وهو عدم إيصاد الطريق في وجه العدو يا سبحان اللَّه هكذا تخفي الأمور الواضحة، وتنكر الأحوال الجليّة، فأنه لا يمكن أن يغفل عن هذا الأمر من كان أقل تدبيراً من مسلم بمراتب كالمعترض، فكيف يغفل مسلم عنه، ولو غفل مسلم بالعبادة في المسجد أو بأحكام بيعة الحسين كما يظن أو تنظيم الجيش الذي سيقابل جيش الشام به، أو يعدّه للحسين ليسلمه اليه عند قدومه فإن الكوفيين لا يغفلون عن ذلك، بل لا بد أن يكونوا قد استعدّوا للأمر عدته، وطوّقوا مدينتهم بالمسالح والطلايع، من أوّل ما قرروا رفض بيعة يزيد، وحصروا النعمان في قصره، شأن كل حكومة مؤقتة، لا سيما إذا كانت تري الدولة القائمة تتربص بها الدوائر، لتجازيها مغبة تمردها في رأيها دون سائر المملكة المترامية الأطراف.

ولعل المعترض يقول ما بال التاريخ لم يذكر من ذلك شيئاً ولم يسم رؤساء الطلايع كما سمي الحصين بن نمير [8] رئيس طلايع ابن زياد في القطقطانية، وقبله الحر بن يزيد الرياحي [9] في طريق المدينة في الثعلبية، قرب ذي جشم.

ولكنا نقول إن للتاريخ شغلاً بالأمور المهمة عن ذكر الأمور العادية لو أنصف نفسه، وقد ذكر لنا الطلايع والمسالح لو فطنا وأمعنّا به النظر، بل لو تأملناه ادني تأمل، اليس يقول كان دخول ابن زياد الي الكوفة مما يلي البر - أي من الطريق


الذي يقدم منه الوارد من المدينة وعليه ثياب بيض وعمامة سوداء ملثماً كلثام الحسين عليه السلام، وهو راكب بغلة شهباء، وبيده قضيب من خيزران، واصحابه من خلفه [10] ، فلو لم توجد الطلايع وتوصد في وجهه الطرق فلماذا يغير وجهته في المسير فيدخل الكوفة من طريق المدينة دون البصرة وهو قادمٌ منها ولو لم تكن الكوفة مطوقة بالمسالح فلماذا يضطر لتغيير زيّه فيموّه علي الناس أنّه الحسين عليه السلام فيسلمون عليه ويسمونه ابن رسول اللَّه ويرحبون به لأنهم بانتظار قدومه صباح مساء، قائلين له قدمت يا بن رسول اللَّه خير مقدم [11] .

حتي إذا بلغ عدو اللَّه مأمنه وقارب قصر الأمارة حسر عن لثامه وقال لهم وزيره مسلم بن عمر الباهلي (تأخروا يا ويلكم عن وجه الأمير، فليس هو ظنكم ولا طلبتكم) فبهت الذين اتّبعوه الي القصر، وسقط في ايديهم وعلتهم الحيرة والوجوم، ثم رجعوا الخيزلي، وكانوا طبعاً من أذناب الناس وحثالتهم ومن الهمج الرعاع اتباع كل ناعق، لأن قدومه كان يوم الجمعة، وقد انصرف الناس عن الصلاة، وظني أن الخبيث اختار لدخول البلد هذا الوقت، لأن أشراف الناس وأوساطهم في ذلك الوقت قد انصرفوا الي حالهم، واستقروا في بيوتهم، كما يقتضيه نظام البشر، ولو حضروا لفطنوا به وأخذوه قبل وصوله مأمنه، فاشرف عليه النعمان من أعلي القصر، وهو يظنُّ أنه الحسين عليه السلام قد سبق الي الكوفة، فكشف ابن زياد عن لثامه وقال يا نعمان حصّنت قصرك وتركت مصرك، ثم دخل القصر وفكّر وقدّر، فقتل كيف قدّر قم قتل كيّف قدّر.

والخلاصة أن الملوم علي إهمال قصر الإمارة وتركه تحت سيطرة النعمان بن بشير إنما هم أهل الكوفة، وأمّا الكوفة نفسها فلم يغفل عنها مسلم ولا أهل الكوفة ولا التاريخ وقد لوّح بأخذهم الحذر، ولم يدخلها ابن زياد من ناحية الأهمال بل تحيّز الي المكر والخديعة لما علم ان أبواب البلد موصدة في وجه


كل داخل إلا الحسين عليه السلام، فأنه علم أن الكوفة قد فتحت له ابوابها فتشبّه به وموّه علي اوشاب الناس أنه الحسين عليه السلام سبق الي الكوفة فيا خيبة آمال المحبين، ويا لإخفاق رجاء الشيعة المخلصين إذا نصبّ عليهم الشر من ناحية الخير الذي كانوا يشرأبوّن إليه ويعقدون أمانيهم وآمالهم عليه، وهكذا اخذت جذوة الحزن والشجي تتقد في الصدور، وقبستها تذكو في هذه الأفئدة، ولكنها بلغت أشدّها وانفجرت براكينها يوم دخل الكوفة عليهم رأس الحسين عليه السلام نهاراً جهاراً محمولاً علي رمحٍ طويل بدلاً عن دخوله نفسه لواءً لموكبه الكريم الذي كانوا يأملونه، هذا وراسه يرتل آيات الكتاب ترتيلاً: «أم حَسبْتَ أن أصحابَ الكَهفِ والرَقيم كانوا مِن آياتِنا عَجَباً» [12] .



مرتِلاً آي أهل الكهف وهولها

بحملِه فوقَ رأسِ الرمحِ تأويلٌ [13] .



يتلو الكتابَ علي السِانِ وإنما

رفعوا به فوقَ السِنانِ كِتاباً





پاورقي

[1] هو مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام سفير الحسين وممثله في الکوفة جليل القدر عظيم الشأن رفيع المنزلة ويکفيک - برهاناً - علي سمو شخصيته قول الحسين فيه «إني باعث إليکم - والخطاب لأهل الکوفة - أخي وأبن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل...»استشهد عليه السلام في الکوفة بعد أن خذله أهلها في التاسع من شهر ذي الحجة سنة 60 هجرية.

[2] انظر ترجمته في ج 5 ص 22 من کتاب «اُسد الغابة» و ج 8 ص 36 من کتاب «الأعلام».

[3] الي القاري‏ء الکريم نبذة مختصرة عن هذا القصر الميشوم قرأت في کتاب «تاريخ الکوفة» للسيد حسن البراقي المتوفي سنة 1232 هجرية ما يلي:

لما أمر سعد بن وقاص أبا الهيجاء الأسدي بتخطيط الکوفة سنة 17 بعد عودته من فتح المدائن وخططها وخطط المسجد الأعظم بني لسعد قصراً بحياله فکان هذا القصر يعرف بقصر سعد وبقصر الإمارة وبدار الإمارة وکان منزلاً خاصاً للخلفاء والملوک والامراء بعد سعدٍ ولم يزل علي بنائه وإحکامه حتي هدمه عبد الملک بن مروان وسبب ذلک هو أن عبد الملک جلس يوماً وقد وضع رأس مصعب بن الزبير بين يديه فقال له عبد الملک بن عمير يا امير المؤمنين جلست أنا وعبيد اللَّه بن زياد في هذا المجلس ورأس الحسين بين يديه ثم جلست أنا والمختار فإذا رأس عبيد اللَّه بن زياد بين يديه ثم جلست أنا ومصعب هذا فإذا رأس المختار بين يديه ثم جلست مع أمير المؤمنين فإذا رأس مصعب بين يديه وانا اُعيذ أمير المؤمنين من شر هذا المجلس فارتعد عبد الملک وقام من فوره وأمر بهدم القصر....

[4] نهج البلاغة الخطبة / 41.

[5] اللهوف علي قتلي الطفوف ص 104.

[6] هو الجلف عبيد اللَّه بن زياد بن أبيه کان شريراً قاسياً سفاکاً للدماء.

قال عنه البلاذري في ج 4 ص 81 من کتابه «أنساب الأشراف» «کان مملوءاً شراً».

وقال عنه ايضاً في ص 84 من نفس الکتاب «کان ابن زياد إذا غضب علي أحد ألقاه من فوق قصر الإمارة».

[7] المِجن: التُرس وهو مَثَلٌ لتبدل الصداقة بالعداوة / المؤلف.

[8] هو الحصين بن نمير التميمي من الذين طلقوا الدين والمرؤة ثلاثاً کان علي شرطة عبيد اللَّه ابن زياد.

[9] هو الحر بن يزيد بن ناجية بن قضب... التميمي اليربوعي الرياحي من أشراف العرب وشجعانهم کان من کبار القادة في جيش عمر بن سعد غير أن العناية الإلهية أدرکته صبيحة يوم عاشوراء فالتحق بمعسکر الحسين عليه السلام فجاهد بين يديه جهاد الأبطال حتي استشهد رضوان اللَّه عليه فمشي الحسين لمصرعه وأبّنه بعد وقوفه عليه بکلمته المعروفة «انت حرٌ في الدنيا وسعيد في الآخرة».

[10] انظر «مقتل الحسين» للخوارزمي ج 1 ص 200.

[11] نفس المصدر.

[12] سورة الکهف / 9.

[13] من قصيدة عصماء في رثاء سيد الشهداء لمؤلف الکتاب طاب ثراه مطلعها:



المجد عند حدود البيض مکفول

ولا يتم لرب الجبن مأمول.