بازگشت

لماذا امتنع عن بيعة يزيد


علم يزيد [1] من جاري سيرة الحسين عليه السلام، ومن وصية ابيه معاوية، ومن أمور كثيرة، أن بيعة الحسين له إحدي المستحيلات، فتوصَّل بلفظ طلب البيعة منه بتعجيل الأنتقام له ولأشياخه المقتولين بسيف علي بن ابي طالب من بني هاشم التي لعبت - بزعمه - بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل، فكانت سلامة الحسين عليه السلام لديه من القتل معلقةً علي امر محال ولو قدّر أن اخلفه يقينه فبايعه الحسين عليه السلام وتركه يستبد بالخلافة.

فإنّ سلفه معاوية قد عبّد له الطريق في غيلة المسالم باللّبن المسموم، وملأ مسامعه بكلمته الجارية مجري المثل «إن للَّه جنوداً من عسل» [2] فافتتح الشر بكتابه للوليد، مقترحاً عليه بعث رأس الحسين عليه السلام مع الجواب إذا امتنع عن بيعته، وامتناع الحسين عليه السلام عن بيعته أمر مفروغٌ منه في عقيدته.

ولننظر ماذا صنع سفير يزيد الذي أسند إليه هذا الأمر الخطير، لعمري لقد صدق صاحبُ المثل إذ يقول: «الرسولُ عقلُ المُرسلِ» فإن الوليد [3] زاد في الطنبور نغمةً، حيث لم يكتفِ بعرض كتاب يزيد علي الحسين عليه السلام وكفي به منفرداً لكل احدٍ لإشتماله علي التهديد والتوعيد بالقتل، بل اضاف اليه احضار مروان بن الحكم يستشيره ويستعين به في الأمر، كأنه لم يعلم من سيرته تسرعه في


القاح الفتنة، واضرام نارها بين الناس.

أم لم يدرِ أن عثمان إنما قتله حصائد لسان مروان [4] ، وكم نزع الي عوائل بني هاشم، وأراد التشفّي منهم لأبيه الوزغ طريد رسول اللَّه، مثل رميه لجنازة الحسن عليه السلام بالسهام حيث توهم ان سيدفن بجوار جده رسول اللَّه، ومن اراد نجاح مقصده واحتاج الي الواسطة اختار كاملاً سهل الأعتذار يؤلف بين الماء والنار، محبوباً لدي الطرفين ليكون مقبول الكلام عندهما، غير متّهمٍ بشيء مما تنفر الطباع منه ولكن اختيار والمرء دليل عقله، فاختار الوليد لنجاح مهمته مروان، والطيور علي اشباهها تقع.

هذا ولكن الحسين عليه السلام لم يربه عرض كتاب يزيد عليه، ولا توسيط مروان، ولا إحضاره لديهما ليلاً بل اجاب - مطمئن الجأش - بأنّ أمر الخلافة لعظمه وخطره يجب فيه التثبُت، ويلزم ان يكون حسمه بملأ من الناس وفيهم اهل الحل والعقد، والبقية الباقية من المهاجرين والأنصار، وخيرة اصحاب رسول اللَّه.

وهذا أول ما ينكره المعترض علي الحسين عليه السلام، وليت شعري متي كان الجهر ببيعة الخلافة، وبيان الحقيقة الراهنة في هذا الأمر المُهم من الأمور المنكرة، أفي الشرع ام العرف، اليست الخلافة عقد نظام الدين والدنيا، أليست لا تكون إلا عن نصٍ وإختيار، فأين النصُ علي يزيد، وإذا كانت عن اختيارٍ فمن حضر في ذلك المجلس ليختار يزيد، ام تقولون هو مروان بن الحكم والوليد.

ثم هل يكون بدعاً إذا ظن الحسين عليه السلام أنّه أولي من يزيد بالخلافة، فاستمهل الوليد كي يصدّع بحجته أمام اُمّة جدّه لتنكشف الحقيقة ولا يكون أمر الخلق غُمةً، فإنه وكلّ أحدٍ يعتقد أنه أولي بالخلافة من كل أحدٍ فضلاً عن يزيد، لقُربه من رسول اللَّه، واستجماعه لصفات الكمال، ولتقديم اصحاب النبي له، ولكبر سنّه


- علي الأقل - وهو أكبر حجةٍ لسلف يزيد الطالح علي سلفه الصالح، ولعدم استحقاق معاوية لها حتي يجعلها في يزيد، ولو فرض أنّه مستحق لها فقد كان من شروط الصُّلح بينه وبين الحسن أن لا يعقدها إلا للحسن ثم للحسين بعده [5] ، ثم الخيار للأمّة في اختيار الخليفة بعدهما، وأن لا يعقدها لأحدٍ من ذُريته.

وبعد فلو جعل المعترض إمتناعه من البيعة لهذه الأمور موبقةً قد، ارتكبها الحسين عليه السلام فإنه قد تاب منها سريعاً واستغفر، حيث وعد الرجلين - وهو صادق الوعد - بقوله: «إن مِثلي لا يبايعُ سراً، ولا أظنكم ترضوا بهذا، ولكن إذا خرجتَ غداً وَدعوتَ الناسَ فادعنا مَعهم، وكنتُ أولَ مُبايعٍ» [6] فكان الحزم للرجلين ان لا يجرحا عاطفته في بشي ء حتي يحضراه بملأ من الناس، فإذا هرع الناس لبيعة يزيد كما يظن الوليد ويعتقد مروان ساعدوهما علي الحسين عليه السلام حتي يدخل فيما دخل فيه الناس.

لكنَّ هذا لا يروق في نظر مروان، دون أن يخف لسجيته فيأمر الوليد بقتل الحسين عليه السلام، ولا أراه يجهل أن مع الحسين عليه السلام رِدأً من فتيانه يمنعونه من القتل وربما كانت الدائرة عليه وعلي صاحبه، غير أنّ الرجل نزاعٌ الي اضرام نار الفتنة، وإن أحرقته ومن يُحبُ، شروي ما عمل يومَ الدار، حيث قُتِل بفتنه عثمانُ. وضرب هو علي عُنقه فصار أصور مائل العنق.

وأما الحسين عليه السلام قفد تذكَّر سوابق مروان مستشار بني أمية مع أهل بيته فنفر من الوليد واخذ بالتدابير اللازمة لما فيه صلاح نفسه وإصلاح أُمة جَدهِ، فإنه عن وصول غائِلتهما إليه أمنع من عُقاب الجو [7] ، بفتيانه الصيد البواسل، وإذا بايع


يزيداً الكافر الفاجر - وهو علي ما هو عليه من المنعة - فقد باع ظميره ووجدانه وباع أُمة جده التي ضحّي بمهجته لبناء كيانها علي يزيد لينتقم منها ويثأر بها من نبيّها.

وقد قرأ عامّة الناس عن سيرة الوليد هذه الكلمة هكذا «وكان الوليدُ رجلاً يُحبُ العافيةَ» [8] وظني أن هذا اشتباه من قرأة القلم الكوفي وصوابه يخشي العاقبة، فإنه لم يعص مروان في عدم معاجلة الحسين عليه السلام بالقتل لعلمه أن الحسين عليه السلام قد أخذ منه الحذر بخلافه، فلو أطاع مروان وتعرض للحسين بسوءٍ لقضت عليهما سيوف بني هاشم في الحال، فكانا لهم لقمة سائغة ولكنّه تواري بالتقوي واظهر النُسك، يُخادع به نفسه وصاحبه.

ومما يبرهن علي ذلك أنّه لمّا اجتمع شياطينه حوله، وثاب إليه أباً لستة طلب قتل الحسين عليه السلام اشدّ الطلب ثلاث ليالٍ سويّاً ولم تخطر له، التقوي ببال، لكن منع منه الأجل، وقد اصحر بالحقيقة، حيث قال: «الحمد للَّه الذي اخرجه - أي الحسين عليه السلام - ولم يبتليني بدمه» [9] وكان الحسين عليه السلام إذ ذاك يقلب خده الشريف علي ضريح جدّه رسول اللَّه ويشكو له ما لاقي من أُمته قائلاً: (ضمّني عندك يا جدّاه، في هذا الضريح الخ) [10] .



پاورقي

[1] هو يزيد بن معاوية بن صخر بن حرب بن اُمية بن عبد شمس... فرع الشجرة الملعونة.

کان لعنه اللَّه کما تنطق بذلک سيرته فاسقاً فاجراً سکيراً يضرب بالطنبور ويلعب بالفهود والقرود.

قال الذهبي وهو من علماء الجمهور في ج 4 ص 37 من «سير أعلام النبلاء» «کان يزيد بن معاوية فضاً غليظاً جلفاً يتناول المسکر ويفعل المنکر افتتح دولته بتل الشهيد الحسين وختمها بوقعة الحرة فمقته الناس ولم يبارک في عمره».

[2] قال الميداني في ج 1 ص 14 من کتابه «مجمع الأمثال» ما نصه «قاله معاوية بن أبي سفيان لما بلغه أن الأشتر قد سقي عسلاً فيه سم فمات».

يضرب عند الشماتة بالعدو.

[3] هو الوليد بن عتبة بن أبي سفيان استخلفه معاوية علي المدينة علي أثر عزله لمروان بن الحکم سنة 57 أو 58 وبقي والياً عليها الي ما بعد وصول يزيد الي سدة الحکم سنة 60 هجرية.

[4] هو مروان بن الحکم بن أبي العاص بن اُمية... الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون.

قال الحاکم في ج 4 ص 479 من «المستدرک» «کان لا يولد لأحد في المدينة ولد إلا جي‏ء به الي النبي (ص) فلما ولد مروان اُدخل علي النبي (ص) فقال بعد أن نظر اليه: هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون».

[5] نعم إن من أهم بنود الصلح - ولا شک - هو إرجاع الخلافة الي مولانا الحسن المجتبي عليه السلام ومن بعده الي أخيه الحسين عليه السلام بعد هلاک طاغية عصرهما معاوية غير أن معاوية الذي عرف بالغدر والمکر ونکث العهود صمم علي عدم العمل بهذا البند بعد أن صفا له الملک وراح يعمل وبشکل دؤوب علي جعل الخلافة وراثة في أهل بيته...

انظر «صلح الحسن» للعلامة الکبير الشيخ راضي آل ياسين قدس سره.

[6] تاريخ الطبري ج 4 ص 251.

[7] مثل قاله عمر بن عدي لقصير بن سعد في قصته مع الزباء.

انظر «مجمع الأمثال» للميداني ج 2 ص 280.

[8] تاريخ الطبري ج 4 ص 251.

[9] مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 186.

[10] هذا هو الصدر وأما العجز فهو «علّني يا جد من بلوي زماني استريح». والبيت جاء في ضمن قصيدة عامرةٍ طويلة وهي من نظم الشيخ حسن الدمستاني البحراني المتوفي سنة 1181 هجرية.