بازگشت

مكيدة ابن العاص


لعل أبشع مهازل التاريخ البشري في جميع فترات التاريخ هي مكيدة ابن العاص في رفع المصاحف، وقد وصفها (راو حوست ميلر) بانها من أشنع المهازل وأسوئها في التاريخ البشري [1] وأكاد أعتقد أنه هذه المكيدة لم تكن وليدة المصادقة أو المفاجئة، فقد حيكت اصولها ووضعت مخططاتها قبل هذل الوقت فقد كان ابن العاص علي اتصال دائم احيط بكثير من الكتمان مع جماعة من قادة الجيش العراقي في طليعتهم الاشعث بن قيس، فهما اللذان دبرا هذا الامر وقد ذهب الي هذا الراي الدكتور طه حسين قال: " فما استبعد أن يكون الاشعث بن قيس وهو ماكر أهل


العراق وداهيتهم قد اتصل بعمرو بن العاص ماكر أهل الشام وداهيتهم، ودبرا هذا الامر بينهم تدبيرا، ودبروا أن يقتتل القوم فان ظهر أهل الشام فذاك، وان خافوا الهزيمة أو أشرفوا عليها رفعوا المصاحف فاوقعوا الفرقة بين أصحاب علي وجعلوا باسهم بينهم شديدا " [2] .

وعلي أي حال فان الهزيمة لما بدت باهل الشام، وتفللت جميع قواعدهم فزع معاوية الي ابن العاص يطلب منه الراي فاشار عليه يرفع المصاحف فامر بالوقت يرفعها فرفعت زهاء خمسمائة مصحف علي أطراف الرماح قعالت الاصوات من أهل الشام بلهجة واحدة. " هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته الي خاتمته، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ ومن لجهاد الروم؟ ومن للترك؟ ومن للكفار؟. " وكانت هذه الدعوي كالصاعقة علي رؤوس الجيش العراقي فقد انقلب راسا علي عقب، فتدافعوا كالموج نحو الامام وهم ينادون: " لقد أعطاك معاوية الحق، دعاك الي كتاب الله فاقبل منه... ". ودلهم الامام علي زيف هذه الحيلة، وانها جاءت نتيجة فشلهم في العمليات العسكرية، وانها لم يقصد بها إلا خداعهم وانهم رفعوا المصاحف لا إيمانا بها وانما هو من الخداع والمكر ومما يؤسف له انهم لم يقرروا حق مصيرهم، ومصير الامة في تلك الفترات الحاسمة من تاريخهم التي اشرفوا فيها علي الفتح والنصر، ولم يبق من دك حصون الظلم ونسف قواعد الجور إلا لحظات. يا للمصيبة والاسف لقد أصروا علي التمرد، والعناد، فانحاز منهم اثنا عشر ألفا وهم أهل الجباه السود، فخاطبوا الامام باسمه الصريح قائلين:


" يا علي: اجب القوم الي كتاب الله إذ دعيت له، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم... ". فكلمهم الامام برقة ولطف ليقلع روح التمرد منهم الا ان كلام الامام ذهب هباء وراح القوم في غيهم يعمهون، وهم يصرون علي ارغام الامام علي ايقاف القتال، وكان الاشعث بن قيس هو الذي يدفعهم الي ذلك وينادي باعلي صوته بالرضاء والقبول لدعوة أهل الشام. ولم ير الامام بدا من اجابتهم، فاصدر أوامره بايقاف عمليات الحروب، وقلبه الشريف يتقطع ألما وحزنا، فقد أيقن أن الباطل قد انتصر علي الحق، وان جميع متاعبه ودماء جيشه قد ذهبت سدي. وأصر المتمردون علي الامام بسحب مالك الاشتر من ساحة الحرب وكان قد أشرف علي الانتصار، ولم يبق بينه وبين الفتح إلا حلبة شاة، فارسل إليه الامام بالقدوم إليه فلم يعن بما امر به، وقال لرسول الامام: " قل لسيدي: ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي اني قد رجوت الله أن يفتح لي فلا تعجلني... " ورجع الرسول فاخبر الامام بمقالة القائد العظيم فارتفعت أصوات اولئك الوحوش بالانكار علي الامام قائلين: " والله ما نراك إلا أمرته ان يقاتل... " وامتحن الامام في أمرهم كاشد ما تكون المحنة فقال لهم: " أرايتموني ساررت رسولي (اليه)؟ أليس انما كلمته علي رؤوسكم علانية وانتم تسمعون؟ ". وأصروا علي الغي قائلين: " فابعث إليه فلياتيك، والا فوالله اعتزلناك.. ". وأجمعوا علي الشر، وأوشكوا أن يفتكوا بالامام فاصدر أوامره المشددة


بانسحاب مالك من ساحة الحرب، واستجاب الاشتر لامر الامام فقفل راجعا وقد تحطمت قواه، وقال ليزيد الذي كان رسول الامام: " ألرفع هذه المصاحف - يعني حدثت هذه الفتنة -؟ " نعم ". وعرف الاشتر مكيدة ابن العاص فقال: " أما والله لقد ظننت انها حين رقعت ستوقع اختلافا وفرقة انها مشورة ابن العاهرة ". ألا تري الي الفتح، الا تري الي ما يلقون؟ الا تري الي الذي يصنع الله لنا، أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟!! ". وأحاطه يزيد علما بحراجة الموقف والاخطار الهائلة التي تحف بالامام قائلا: " أتحب انك ان ظفرت هاهنا، وان أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم الي عدوه؟.. ". فقال الاشتر مقالة المؤمن: " سبحان الله، لا والله ما أحب ذلك!! ". " فانهم قالوا: لترسلن الي الاشتر فلياتينك أو لنقتلنك باسيافنا كما قتلنا ابن عفان، أو لنسلمنك الي عدوك.. ". وقفل الاشتر راجعا قد استولي الحزن علي اهابه، فقد ذهبت اماله ادراج الرياح فتوجه نحوهم يلومهم ويعنفهم، ويطلب منهم أن يخلوا بينه وبين عدوهم فقد أشرف علي النصر والفتح. ولم يذعن أولئك الممسوخون لمقالة الاشتر فقد اصروا علي الذل والوهن قائلين له: " لا لا ".


" امهلوني عدوة فرس فاني قد طمعت في النصر. " " اذن ندخل معك في خطيئتك.. ". وانبري الاشتر يحاججهم وينقد ما ذهبوا اليه قائلا: " حدثوني عنكم - وقد قتل اماثلكم وبقي ارذالكم - متي كنتم محقين احين كنتم تقتلون أهل الشام، فانتم الان حين امسكتم عن القتال مبطلون، أم أنتم الان في امساككم عن القتال محقون؟ فقتلاكم اذن الذين لا تنكرون فضلهم، وكانوا خيرا منكم في النار ". ولم يجد معهم هذا الكلام المشرق فقالوا له: " دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله، إنا لستا نطيعك فاجتنبنا ". ورد عليهم الاشتر بعنف حينما يئس من اصلاحهم وأخذ يحذرهم من مغية هذه الفتنة وأنهم لا يرون بعدها عزا أبدا. وحقا انهم لم يروا عزا، فقد أفلت من افقهم دولة الحق، وآل أمرهم الي معاوية فاخذ يسومهم سوء العذاب. وطلب مالك من الامام أن يناجزهم الحرب فابي لان العارضين كانوا يمثلون الاكثرية الساحقة في جيشه وفتح باب الحرب يؤدي الي أقطع النتائج فان الامة تقع فريسة سائغة بايدي الامويين. واطرق الامام براسه، وقد طاقت يه موجات من الالام، وأخذ يطيل التفكير في العاقبة المرة التي جرها هؤلاء العصاة للامة ويقول المؤرخون انهم قد اتخذوا سكوته رضي منه بالتحكيم فهتفوا. " ان عليا أمير المؤمنين قد رضي الحكومة، ورضي بحكم القران ". والامام غارق في الهموم، فقد أفلت منه الامر، وتمرد عليه جيشه وليس باستطاعته ان يعمل شيئا، وقد أدلي (ع) بما مني به، بقوله:


" لقد كنت أمس أميرا، فاصبحت اليوم مامورا، وكنت أمس ناهيا فاصبحت اليوم منهيا.. ".


پاورقي

[1] العقيدة والشريعة في الاسلام (ص 190).

[2] الفتنة الکبري 2 / 89.