بازگشت

مصرع عمار


وعمار بن ياسر من ألمع أصحاب النبي وأكثرهم جهادا وبلاءا في الاسلام، وقد شايع عليا ولازمه بعد وفاة النبي (ص) فقد أيقن أنه مع الحق والحق معه كما قال فيه النبي (ص) وكان في أيام صفين شيخا قد نيف علي التسعين عاما، ولكن قلبه وبصيرته كانت بمامن من الشيخوخة فقد كان في تلك المعركة كانه في ريعان الشباب، وكان يحارب راية ابن العاص، وهو يشير اليها قائلا: " والله إن هذا الراية قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بارشدهن " وكان يقول لاصحابه لما راي انكشافهم في المعركة: والله لو ضربونا حتي يبلغونا سعفان هجر لعلمنا أنا علي الحق، وانهم علي الباطل. ويقول الرواة: إنه جلس مبكرا في يوم من ايام صفين، وقد ازداد قلبه شوقا الي ملاقاة رسول الله (ص) وملاقاة أبويه، فخف الي الامام مسرعا يطلب منه الاذن في أن يلج الحرب لعله يرزق الشهادة فلم يسمح له الامام بذلك، وظل يعاود الامام مستاذنا، فلم تطب نفس الامام بذلك وراح يلح عليه فاذن له، وأجهش الامام بالبكاء حزنا وموجدة عليه. وانطلق عمار الي ساحات الحرب وهو موفور القوي، قد استرد نشاطه وهو جذلان فرح بما يصير اليه من الشهادة، وقد رفع صوته عاليا:


" اليوم القي الاحبة محمدا وحزبه. " وكان صاحب الراية في الكتيبة التي يقاتل فيها عمار هو هاشم بن عتبة المرقال وكان من فرسان المسلمين وخيارهم وأحبهم للامام وأخلصهم له وكان أعور، فاتجه نحوه عمار فجعل تارة يدفعه بعنف الي الحرب ويقول له: تقدم يا أعور، وأخري يرفق به أشد الرفق ويقول له: احمل فداك أبي وأمي، وهاشم يقول له: رحمك الله يا أبا اليقظان انك رجل تستخف الحرب، واني انما ازحف لعلي أبلغ ما اريد، وضجر هاشم فحمل وهو يرتجز:



قد اكثروا لومي وما أقلا

إني شريت النفس لن اعتلا



أعور يبغي نفسه محلا

لابد أن يفل أو يفلا



قد عالج الحياة حتي ملا

أشلهم بذي الكعوب شلا



وقد دال هذا الرجل علي تصميمه علي الموت، وسئمه من الحياة، وجال في ميدان القتال، وعمار معه يقاتل ويرتجز:



نحن ضربنا كم علي تنزيله

واليوم نضربكم علي تاويله



ضربا يزبل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله



أو يرجع الحق الي سبيله

لقد قاتل عمار بايمان واخلاص المشركين مع رسول الله (ص) وناضل



كاشد ما يكون النضال دفاعا عن كلمة التوحيد، وقاتل أعنف القتال مع أخي رسول الله (ص) دفاعا عن تاويل القران ودفاعا عن امام المسلمين فما أعظم عائدة عمار وألطافه علي الاسلام. والتحم عمار مع القوي الغادرة التحاما رهيبا، وحمل عليه رجس من أرجاس البشرية يسمي أبو الغادية فطعنه برمحه طعنة قاتلة، فهوي الي الارض ذلك الصرح الشامخ من العقيدة والايمان يتخبط بدمائه الزكية،


وقد أضر به العطش فبادرت اليه امراة بلبن، فلما راه تبسم، وأيقن بدنو أجله، وراح يقول بنبرات هادئة مطمئنة: قال لي رسول الله (ص): آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن وتقتلك الفئة الباغية. ولم يلبث قليلا حتي لفظ انفاسه الاخيرة، وانطوت بموته أروع صفحة مشرقة من الايمان والجهاد، وارتفع ذلك العملاق الذي أضاء الحياة الفكرية باخلاصه واندفاعه نحو الحق. وكان الامام أمير المؤمنين (ع) برحا لم يقر له قرار حينما برز عمار الي ساحة الجهاد، فكان يقول: فتشوا لي عن ابن سمية، وانطلقت فصيلة من الجند تبحث عنه، فوجدوه قتيلا مضمخا بدم الشهادة فانبروا مسرعين الي الامام فاخبروه بشهادته، فانهد ركته، وانهارت قواه، وسرت موجات من الالم القاسي في محياه، فقد غاب عنه الناصر والاخ، ومشي الامام لمصرعه كئيبا حزينا، وعيناه تفيضان دموعا، وسار معه قادة الجيش وقد أخذتهم المائقة حزنا علي البطل العظيم، ولما انتهي اليه القي بنفسه عليه وجعل يوسعه تقبيلا، وقد انفجر بالبكاء، وجعل يؤبنه بحرارة قائلا: " إن امرا من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر وتدخل عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. - رحم الله عمارا يوم أسلم. رحم الله عمارا يوم قتل. رحم الله عمارا يوم يبعث حيا. لقد رايت عمارا وما يذكر من أصحاب رسول الله أربعة إلا كان رابعا، ولا خمسة إلا كان خامسا، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله يشك أن عمارا قد وجبت له الجنة في غير موطن، ولا اثنين


فهنيئا لعمار بالجنة... ". وأخذ الامام راسه فجعله في حجره ودموعه تتبلور علي خديه. وانبري الامام الحسن وغيره فابنوا الشهيد العظيم بقلوب مذابة من الحزن، ثم قام الامام فواراه في مقره الاخير، ويقول المؤرخون: ان الفتنة وقعت في جيش معاوية حينما اذبع مقتل عمار فقد سمعوا ان رسول الله (ص) قال في فضل عمار ان الفئة الباغية تقتله، وقد اتضح لهم انه الفئة الباغية التي عناها رسول الله (ص) ولكن ابن العاص استطاع أن يزيل الخلاف فقال لهم: ان الذي أخرج عمارا هو الذي قتله، واذعن بسطاء أهل الشام لما قاله ابن العاص. واشتد القتال باعنفه بعد مقتل عمار، وقد تفللت جميع قوي معاوية وبان الضعف في جيشه.