بازگشت

زهد العباس بن أميرالمؤمنين


ان العباس بن أميرالمؤمنين قد شب و نشأ في صحبة أزهد الخلق، أبيه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، و أخويه الحسن و الحسين عليهم السلام، فاكتسب فضيلة الزهد ببركة صحبتهم. فان الطباع تتأثر بالمصاحبة، و قيل: المرء يأخذ من دين صديقه. و قد قيل ولد الفقيه نصف فقيه. و في الحديث ما معناه اذا خفي عليك مال، فانظر فيما ينفق، و اذا خفي عليك حال شخص فانظر من يصحب [...]

فأبو الفضل العباس أولا كان من بيت خلقهم الله للآخرة، لا للدنيا، فهو بطبعه و جبلته يطلب ما خلق له، و يجانب ما لم يخلق له، فلا يجد لنعيم الدنيا لذة، و لا لزخرفها فائدة. (ثانيا): انه تربية أهل الزهد، و تهذيب أهل النسك، و مربيه و مهذبه من طلق الدنيا طلاقا لا رجعة فيه، و مع ذلك، يدل علي زهده أمور:

(منها) ما سيجي ء في عبادته من بيان أثر السجود بين عينيه. «و منها» ما سيجي ء في بصيرته في دينه، و في فصل ايمانه، و يقينه. (و منها) ما ورد في زيارته عن «الامام جعفر الصادق عليه السلام» حيث يقول: (فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر و الأخ الدافع عن أخيه، المجيب الي طاعة ربه، الراغب فيما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل و الثناء الجميل... الي


آخره). و ليست هذه الرغبة في الثواب المضاعف، و الثناء الدائم، الا الزهد في الدنيا الفانية، و الاعراض عن زهرتها و زهوتها اللذين شغلا طلاب الدنيا و عشاق الشهوات عن اختيار الأعمال الصالحة المنوط بها الثواب و الكرامة.

و (منها) اعراضه عن زهرة دنياه، و هو في ريعان الشباب، و غضارة الصبا، العمر مقتبل و العيش غض و أغصان الشبيبة يانعة، لم يبلغ حد الاكتهال، و لا درجة الاكتمال التي تشرف به علي نقيصة العمر الطبيعي، و هي الأربعون، فأعرض عن ذلك المحبوب الطبيعي، و المرغوب الفطري، فرد الأمان، و استقبل الأسنة و الحداد، و قد قال: من عرف الدرجة الراقية في الزهد هي أن يزهد في نفسه. و قال بعضهم، الزهد: قصر الأمل. و قد صرح كثير من العلماء بأن الجهاد باقبال و جد هو حقيقة الزهد. و لهذا قال الغزالي في احياء العلوم [1] بعد كلام تقدم بعضه: فالحاصل أن الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلها، و مهما رغب عن حظوظ النفس، رغب عن البقاء بها، فقصر أمله لا محالة، لأنه انما يريد البقاء ليتمتع، و يريد التمتع الدائم بارادة البقاء، فان من أراد شيئا أراد دوامه، و لا معني لحب الحياة الا حب دوام ما هو موجود و ممكن في هذه الحياة، فاذا رغب عنها، لم يردها، و لذلك لما كتب عليهم القتال «قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا الي أجل قريب» [2] . فقال تعالي: «متاع الدنيا قليل» [3] ، أي لستم تريدون البقاء الا لمتاع الدنيا، فظهر عند ذلك الزاهدون، و انكشف حال المنافقين. أما الزاهدون، المحبون لله تعالي «ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص» [4] ، و انتظروا احدي الحسنيين، و كانوا اذا دعوا للقتال يستنشقون رائحة الجنة، و يبادرون اليها مبادرة الظمآن الي الماء البارد، حرصا علي نصرة دين الله، أو نيل مرتبة الشهادة الي آخره.


و هذا صحيح، فقد صدر عن كثير من أهل الزهد، فان عمار بن ياسر رضي الله عنه لما عزم علي حرب أهل الشام بصفين، في اليوم الذي استشهد فيه، قال: (الرواح الي الجنة). و قال: الجنة تحت ضلال الأسنة، و في لفظ: تحت ظلال السيوف. و قال: اليوم ألقي الأحبة، محمدا و حزبه. و قال غيره قريبا من قوله، كما في حديث عبدالله بن رواحة شهيد مؤتة، و حارثة الأنصاري شهيد بدر، و غيرهما، فرفض الحياة. و الابتشار بالمنية من أعظم درجات الزهد و اليقين. و قد علم كل أحد أن العباس بن أميرالمؤمنين عليه السلام رفض الحياة و أقبل علي الموت بابتهاج، و قد رد الأمان علي أهل الكوفة كما علمت ذلك في ابائه، و امتنع من قبول الرخصة التي أتتهم من سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام بالانصراف عنه، و طلب النجاة لأنفسهم علي أنهم في حل و لا حرج عليهم و لا اثم [5] .

المظفر، بطل العلقمي، 374 - 372، 371 / 2


پاورقي

[1] احياء العلوم ص 196 ج 3.

[2] سورة البقرة / 79.

[3] سورة النساء / 77.

[4] سورة الصف، 4 / 61.

[5] [ثم ذکر کلام المفيد و السيد و ابن‏الأثير و الطبري، و کما ذکرناه، / 316 - 315] .