بازگشت

علم العباس الأكبر و فقهه


[...] و قد كان أبوالفضل العباس عليه السلام معروفا بالعلم، فهذا (الحافظ العسقلاني) الشافعي يصرح في كتاب (الاصابة)، فيمن روي عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام من أعلام


الصحابة و أعيان التابعين، ثم يقول: و من بقية التابعين عدد كثير من أجلهم أولاده: محمد، و عمر، و العباس... الي آخره. و محمد هو ابن الحنفية و عمر هو الأطرف.

علي أن العباس عليه السلام قد صدرت منه أمور يوم الطف، دلت علي وفور علمه، كنفضه الماء من يده تأسيا بالامام - الحسين عليه السلام - و ايثاره له، كما سنذكره في الايثار و المواساة؛ و هذه مسألة فقهية و هي أن الايثار راجح شرعا، لورود الأدلة السمعية من الآيات و الروايات، و ما دلت عليه الأدلة السمعية، فهو راجح شرعا، فهذه من مسائل الفقه، و ما صدرت منه تلك الفعلة الحميدة علي جهة الفطرة و البداهة، بل علي جهة الاختيار للمحبوب المطلوب شرعا.

و كقوله عليه السلام في خطاباته الموجهة تجاه أخيه الحسين عليه السلام، كما يجي ء في آدابه، نحو قوله سيدي يابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و لم يخاطبه بأخي، لعلمه أن مرتبة الامامة فوق كل مرتبة، و مهما كان الأخ، فلا ينبغي أن ينزل نفسه للامام الا منزلة العبد، فيخاطبه خطاب المملوك للمولي بسيدي، و المخاطبة بالأخوة دليل المكافأة، و لا يكافئ الامامة شي ء كالنبوة، و هذا من الفقه في الدين، و الأدب الراقي، و تفخيم ذي الشأن، مستحب شرعا، و مطلوب عقلا [...]

[...] و كقوله عليه السلام لاخوته الأشقاء الذين هم من أمه أم البنين: تقدموا يا بني أمي لأحتسبكم، فانه لا ولد لكم. و هذا القول منه عليه السلام مشهور، رواه عامة أرباب المقاتل، و اختلفوا في ضبط العبارة (فالطبري المؤرخ) هذا لفظه في (تاريخه) ص 257 ج 6 قال: و زعموا أن العباس بن علي قال لاخوته من أبيه و أمه: عبدالله، و جعفر، و عثمان: يا بني أمي تقدموا حتي أرثكم، فانه لا ولد لكم، ففعلوا فقتلوا... الي آخره.

و هذا في ظني تصحيف، و الأصل: حتي أراكم، فصحفه الراوي بأرثكم. و أما - أبوحنيفة أحمد بن داود - الدينوري، فلفظه (في الأخبار الطوال) ص 254: و لما رأي ذلك العباس، قال لاخوته: عبدالله، و جعفر، و عثمان بني علي (عليه و عليهم السلام)، و أمهم جميعا أم البنين العامرية الوحيدية: تقدموا بنفسي أنتم، فحاموا عن سيدكم حتي تموتوا دونه.


فتقدموا جميعا، فضاربوا أمام الحسين عليه السلام بوجوههم و نحورهم... الي آخره. و أما - أبوالفرج - علي بن الحسين الأصهابي، فلفظه في مقاتل الطالبيين عن - الضحاك المشرقي - قال: قال العباس بن علي لأخيه من أبيه و أمه عبدالله بن علي: تقدم بين يدي حتي أراك و أحتسبك، فانه لا ولد لك، فتقدم بين يديه... الي آخره. و مثله ذكر في اخويه عثمان و جعفر. و أما (الشيخ المفيد) أبوعبدالله محمد بن محمد بن النعمان فلفظه في (كتاب الارشاد): فلما رأي العباس بن علي عليه السلام كثرة القتلي في أهله، قال لاخوته من أمه و هم عبدالله و جعفر و عثمان: يا بني أمي، تقدموا أمامي حتي أراكم قد نصحتم لله و لرسوله، فانه لا ولد لكم... الي آخره. و هذا بعينه لفظ (الشيخ المحقق جعفر بن نما الحلي) في مثير الأحزان. و ينتج من جميع هذه الأقوال ثلاثة أمور، كلها تدل علي فقاهته و علمه.

(الأول): قوله: تقدموا لأراكم قد نصحتم لله و لرسوله الي آخره.

جهة الفقاهة في هذا: أنه عليه السلام قد علم أن أفضل الجهاد ما كان بالنفس و النفيس. أما نفسه فعازم علي بذلها لأخيه الحسين عليه السلام، و هو واثق بذلك من نفسه. و أما النفيس، و ليس لديه هناك أنفس من اخوته الأشقاء، فأحب أن يقدمهم و يكون قد بذل في الجهاد نفسه و نفيسه، و لا شك بتضاعف الأجر علي ذلك، و حسبك بقصة الخنساء وحثها أولادها الأربعة علي الجهاد يوم القادسية، فقتلوا جميعا. و اطلب قصتهم من التاريخ، و أرجازهم تشهد لما نقول. و يتفرع علي مسألة تقديم العباس عليه السلام لاخوته من الفروع الفقهية، ما خفي علي كثير من مهرة الفن و أساتذة الصنعة مثل مسألة الشكر علي النعمة.

و العباس عليه السلام يري من أتم نعم الله عليه و أفضلها عنده، الشهادة في سبيله، و من اتمامها أن يرزقها الله تعالي لاخوته الذين هم أعز ما لديه من حاضري اخوته بعد الحسين عليه السلام، فاذا تفضل الله عليهم بالشهادة، و رزقهم اياها، فقد أسعدهم و أنالهم كرامته، فوجب عليه الشكر الذي يجب عقلا و شرعا عند تجدد كل نعمة، اذ شكر المنعم واجب بالأدلة العقلية و النقلية.

(الثاني): الاحتساب؛ فقوله عليه السلام تقدموا لأحتسبكم، و في هذا الاحتساب يتضاعف


الأجر، لعلمه أنه اذا توالت الفوادح، و تواترت المصائب، و صبر عليها الصابر محتسبا، فقد تضاعف أجره عند الله. و لا اشكال أنه اذا شاهد مصارع اخوته الأشقاء واحدا بعد واحد، فقد تضاعف له العناء و الأسف، و لو أنهم قتلوا قتلة واحدة، كان لها حكم المصيبة الواحدة، و لكن المصائب تتعد بقتل الواحد تلو الواحد، فتتضاعف لذلك الأحزان. و من فروع هذه المسألة الفقهية مسألة الصبر، فان الذي يبتلي بفقد الأعزاء، و أنفس الأشياء و أغلاها عنده، ثم يصبر و يحتسب، يكون له الأجر المضاعف، و يجزيه الله تعالي أفضل جزاء الصابرين. و قد حصل لأبي الفضل العباس عليه السلام في هذه القتلة ثلاثة أشياء توجب الكرامة، و مزيد الحباء عند الله تعالي: الشهادة و الشكر و الصبر. و هذا من عجيب الفقه الذي يتحراه الفقيه العليم في مثل ذلك الموقف الحرج و المقام الصعب، ذي الأهوال و التهاويل الذي طارت منه الأذهان، و اندهشت فيه الفكر، و حارت الألباب.

(الثالث): المسألة الفرضية الميراثية، و هي المشهورة عند الفقهاء؛ و هذه مسألة فقهية مقترنة بفكر ثاقب يجري مجري الاعجاز في التهكن بالحوادث المستقبلة، و ذلك أن فقه هذه المسألة علي مذهب أهل البيت عليهم السلام، و العباس عليه السلام منهم، أن الأم هي الوارثة لبنيها المفقودين، و الأخ منها أو من غيرها محجوب عن الميراث بها، و لا يرثون مع الأم الا بشروط اعتبرها الفقهاء، و ان فقدت الأم، فابن الأخ الشقيق يحجب الأخ لأحد الأبوين، هذا مذهب العباس و أهل بيته؛ فهو عليه السلام يعرفه و يعلمه. و عند القضاة من أهل السنة، أهل التعصيب: أن الأخ يحجب الأم هكذا كانت الحال في الدور الأموي طيلة حكومتها الجائرة. فنظر العباس عليه السلام و أصاب بفكرته الثاقبة، أن الأمر في ميراث اخوته ان قتلوا بعده، سينزع من يد أمه قهرا، و لا ينظر الي مذهب أهل البيت عليهم السلام، و انما يؤخذ بفتوي قضاة العامة، فرأي من الحزم أن يقدم اخوته أمامه فيقتلوا، فاذا قتلوا، ورثهم هو، لأنه الأكبر، و الأولي من (عمر الأطراف) لتقربه اليهم بالأبوين، فاذا حاز ميراثهم حيا ورثه ابنه عبيدالله بعد قتله فتضعف حجة المخاصم لابنه عبيدالله حتي علي مذهب فقهاء السنة.

و قد وقع الأمر علي مقتضي حدس العباس عليه السلام، فان (عمر الأطرف) نازع (عبيدالله


ابن العباس) الي قضاة العامة، و أعانته السلطة الأموية الجبارة، ثم صولح علي شي ء يسير رضي به، و هذا جور في الحقيقة، و تحامل، لم يعضده مذهب من جميع فرق المسلمين. أما علي مذهب أهل البيت عليهم السلام، فواضح أن الميراث لأم البنين، و علي مذهب السنة أيضا لا يجوز أن يعطي (لعمر) الأطراف شي ء، (و محمد بن الحنفية) أكبر منه، و هو حي، و عبيدالله ابن النهشلية حي أيضا، و نسبتهما الي ولد علي عليه السلام كنسبة عمر الأطراف، و لكن تلك العصور مات فيها الحق و العدل، و أحيي الجور و العدوان، و قد عرفت صحة فراسة العباس عليه السلام في النزاع علي ميراث الاخوة الشهداء.

و قد رأي بعض من يدعي الفقاهة، و هو بعيد عنها، كذب القضية، لأنه يزعم أن قدر العباس الأكبر عليه السلام أجل من أن يلحظ أمر الدنيا، فيطلب من اخوته الميراث، و أنكر أن يكون قال ذلك، و قال، انما قال: أحتسبكم فقط، و غفل في ذلك غفلة عظيمة من حيث ظن أن كلما تعلق بأمور الدنيا، بعيد عن طلبه الصلحاء الأخيار، و أهل الفضل من الأتقياء البررة، فليس لهم غرض بكل شؤونها و مطالبها.

و لم يدر المغفل أن بعض الأمور الدنيوية هي أمور أخروية، لأن بر الصلحاء و أهل الفضل و الديانة، من أفضل الطاعات، و أجل القربات، و هي انما تقع بالأموال، فتكون المسألة دنيوية دينية. ألم يدر هذا المغفل أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و هو سيد الأتقياء و قدوة الصلحاء، و من لا تسوي عنده الدنيا ذرة من الذر، كيف اهتم في أمر فدك و بقية أملاكه في وادي القري و غيره، حتي جعلها طعمة لابنته فاطمة الزهراء عليهاالسلام، و لم يترك ذلك سائرا علي ما يقتضيه حق الوراثة الشرعية، لعلمه صلي الله عليه و آله و سلم أنها ستدفع عن الميراث، و تمنع منه، فاحتاط لها باعطائها ذلك نحلة، و جعله لها طعمة، لكي تنقطع عنه أطماع الطامعين، و يتوفر علي ابنته الكريمة حقها، و لا تكون عالة علي أحد من الناس، و مع ذلك، فقد حدث ما حدث.

و هذا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أزهد أهل الدنيا قاطبة بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و أبعدهم من حطام الدنيا، و هو الذي كان يكنس بيوت الأموال، و يصلي فيها، و يختم علي جراب قوته لئلا ينخل، و قد انتهت اليه عامة طرق الزهاد، و أخباره متواترة


في العزوف عن الدنيا، حتي طلقها ثلاثا. و قد اهتم في أمر البغيبغة، و عين أبي نيزر، حتي جعلهما و قفا لنوائب الحسن و الحسين عليهماالسلام دون سائر بنيه؛ هذه سنة الصلحاء و سيرة الأتقياء.

فأبو الفضل العباس عليه السلام أعلم من هذا الغبي المتمحل و المغفل المتكلف لما لا يعلم، فانه عليه السلام قد سار سيرتهما، واقتفي أثرهما، فاهتم بأمر ولده الطفل، و احتاط في مدافعة خصمه، و هو عمه الشحيح الطامع بغير حق، حتي أنه ترك مذهب أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام، فسعي في حرمان ورثة أخيه الطفل الصغير، و المرأة الضعيفة التي بقيت بلا كاسب، اعتداء منه عليهما و بغيا، بعلة أنه الابن و أنه العم، و يتعصب له الأمويون أهل الجور و العدوان في حرمان ذرية من حاربهم و قام بالسيف عليهم حتي تصبح ورثة العباس عليه السلام عالة يتكففون.

فاحتاط العباس عليه السلام لهم بهذا، و لو لا ما فعله عليه السلام، ما قبل عمر بن علي المصالحة علي اليسير، و يترك ما تشبث به في الحكم الجائر. و ليس هذا مما ينافي الاخلاص، أو يخل بالتقوي و الورع حتي لا ينبغي أن ينسب اليه. فقد كان الزهاد و الأتقياء يعلمون في مصالح صالحي الورثة، بأن يوصوا لهم بحصة معينة من أموالهم لتقويتهم علي طاعة الله تعالي، فنعم العون علي طاعة الله المال، و قد عرفت ما صنعه أميرالمؤمنين عليه السلام في تخصيص الحسن و الحسين عليهماالسلام و قد نقلها علماء الفريقين الشيعة و السنة، و لو لا الاطالة لأوردناها، و لعل الكثير من القراء له المام بها و اطلاع، و اذا كانت هذه سيرة - رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم - و سيرة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و بقية الأتقياء و أرباب الديانة، فأي غضاضة في هذا الأمر الذي أراده العباس عليه السلام، و الحق يشهد أنه عليه السلام قد قصد السنن الثلاثة المؤكدة في الشريعة الاسلامية و هي: الشكر الصبر و صلة الأرحام، لقوله تعالي «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين...». و قد جاء في المثل «و لد الفقيه نصف فقيه». و أنا أقول الفقه كله مجتمع عنده، و منسوب اليه، لأنه ابن أعلم الناس، و أخواه هما أعلم الناس و أفقههم.

فهذا علم العباس عليه السلام، بالعلوم النقلية، و يأتي بعضها في فصاحته.


المظفر، بطل العلقمي، 191 - 186، 185 - 184، 182 / 2