بازگشت

الفاجعة الكبري


بعد خمس سنوات عاشتها زينب في كنف عائلتها الحنون، وفي ظل أجواء المحبّة والعطف، حيث كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) يظلل بيت زينب برعايته، ويغمر أفراد ذلك البيت بعنايته واجلاله. فلا يكاد يمر يوم لا يلتقي فيه محمد بأهل بيته، واذا ما سافر كان بيتهم آخر محطة ينطلق منها لسفره، واذا ما عاد كان بيتهم أول منزل يدخله.

روي الحاكم في (المستدرك) بسنده عن أبي ثعلبة الخشني: كان رسول الله (صلي الله عليه وآله) اذا رجع من غزوة أو سفر أتي المسجد فصلي فيه ركعتين ثم ثني بفاطمة ثم يأتي أزواجه.

وبسنده عن ابن عمران: ان النبي (صلي الله عليه وآله) كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة، واذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة» [1] .


ويقول الشيخ مغنية: وكان النبي لا يصبر عن بيته هذا، ولا يشغله عنه شاغل، بخاصة بعد ان نبتت فيه رياحينه، فاذا دخله قبل هذا، وشمّ ذاك وابتسم لتلك... ودخله ذات يوم فأخذ الحسن وحمله، فأخذ علي الحسين وحمله، فأخذت فاطمة زينب وحملتها [2] ، فإهتزت أركان البيت طرباً لجوّ الصفوة المختارة، وابتهاج الرسول بآله وابتهاجهم به، وتدلنا هذه الظاهرة وكثير غيرها ان محمداً كان أكثر الأنبياء غبطة وسعادة بأهل بيته» [3] .

وشاء الله (سبحانه وتعالي) أن يكون حظ السيدة زينب من تلك الحياة الهانئة السعيدة محدوداً بالسنوات الخمس الأولي من حياتها، فما ان دخلت السنة الحادية عشر للهجرة، وتصرّمت أيام شهرها الثاني شهر صفر، الا وشمس السعادة في بيت زينب قد آذنت بالغروب، فرسول الله (صلي الله عليه وآله) يلبّي نداء ربه ويفارق الحياة ويلتحق بالرفيق الأعلي في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة (11 هـ).

واذا كان فقد رسول الله (صلي الله عليه وآله) يشكل صدمة كبري وفاجعة مهولة عظمي علي المسلمين جميعاً فانه ولا شك أشد وقعاً وأعظم أثراً علي أهل بيته الملتصقين به والمتنعمين برعايته وعطفه.

وزينب الصغيرة في السن المرهفة الأحساس الرقيقة المشاعر وجدت نفسها في مواجهة هذه الرزية الكبري، ورأت كيف انقلبت الأجواء في بيتها رأساً علي عقب من بهجة وغبطة وسرور الي كآبة وحزن واضطراب.

لقد صحبت زينب أمها الزهراء وهي تنكّب علي أبيها رسول الله عند مصارعته لسكرات الموت نادبة.

«واويلتاه لموت خاتم الأنبياء، وامصيبتاه لممات خير الأتقياء، ولإنقطاع سيد


الأصفياء، واحسرتاه لإنقطاع الوحي من السماء، فقد حرمت اليوم كلامك» [4] .

ورأت زينب أخويها الحسنين حينما القيا بنفسيهما علي جدهما الرسول يودعانه وهما يذرفان الدموع، فجعل يقبلهما وهما يقبلانه واراد عليّ أن ينحيهما عنه، فقال (صلي الله عليه وآله):

«دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فستصيبهما بعدي اثرة» [5] .

وتوالت مشاهد الألم الحسرة أمام ناظري زينب فهذه أمها الزهراء تنكب علي جثمان أبيها رسول الله (ص) بعد وفاته تبكي أمر البكاء قائلة: «واأبتاه، الي جبرئيل أنعاه! واأبتاه جنة الفردوس مأواه! واأبتاه أجاب رباً دعاه!!» [6] .

وتقول أيضاً: «واأبتاه وارسول الله، وانبي الرحمتاه، الآن لا يأتي الوحي، الآن ينقع عنا جبرئيل، اللهم إلحق روحي بروحه، واشفعني بالنظر الي وجهه، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة» [7] .

وهذا أبوها علي بن أبي طالب (ع) وهو الجبل الأشم في صموده وبطولته لكنه تذوب نفسه أمام هذه المصيبة، فيقول: «إن الصبر لجميل الا عنك، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك، وان المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل» [8] .

وقال أيضاً وهو يلي غسل رسول الله (ص) وتجهيزه: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد انقطع بموتك مالم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء، خصّصت حتي صرت مسلياً عمن سواك، وعممت حتي صار الناس


فيك سواء، ولولا انك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، لأنفذنا عليك ماء الشئون، ولكان الداء مماطلا، والكمد محالفاً، وقلا لك، ولكنه ما لا يملك رده، ولا يستطاع دفعه بأبي أنت وأمي! اُذكرنا عند ربك، واجعلني من بالك!» [9] .

ويتحدث الامام جعفر الصادق (ع) عن مدي وقع المأساة علي بيت زينب، فيقول: «لما مات النبي (صلي الله عليه وآله) سقط سطران؟؟ خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس، فتقول: «ها هنا كان رسول الله، وها هنا كان المشركون».

وقال ابن شهر اشوب في (المناقب) روي أنها مازالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهذة الركن باكية العين محترة القلب يُغشي عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحمكما مرة بعد مرة؟ أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان علي الأرض ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما علي عاتقه كما لم يزل يفعل بكما.

وروي أنه لما قبض النبي (صلي الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان، وقال: لا اُؤذن لأحد بعد رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وإن فاطمة قالت ذات يوم:

(أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي بأذان).

فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الاذان فلما قال: الله أكبر الله أكبر. ذكرت أباها وأيامه، فلم تتمالك من البكاء، فلما بلغ الي قوله: أشهد أن محمداً رسول


الله).

شهقت فاطمة وسقطت لوجهها وغشي عليها، فقال الناس لبلال: امسك فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا.

وظنوا أنها قد ماتت، فلم يتم الاذان. فأفاقت فسألته اتمامه فلم يفعل، وقال لها: يا سيدة النسوان إني أخشي عليك مما تنزلينه بنفسك اذا سمعت صوتي بالاذان.

فأعفته من ذلك.

وعن علي (عليه السلام) قال: غسلت النبي في قميصه فكانت فاطمة تقول: أرني القميص. فاذا شمته غشي عليها، فلما رأيت ذلك غيبته [10] .

ورأت الزهراء (ع) يوماً أنس بن مالك، فقالت: يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا علي النبي التراب؟ [11] .

ولك أن تتصور حالة السيدة زينب وهي طفلة ذات خمس سنوات من العمر لابد أنها كانت ملتصقة بأمها الزهراء (ع) وتعايش معها هذه الصدمة العاطفية الكبيرة.



پاورقي

[1] (أعيان الشيعة السيد محسن الأمين) ج 1، ص 307.

[2] (بحار الأنوار) المجلسي ج 10، ص 58.

[3] (مع بطلة کربلاء) محمد جواد مغنية ص 22.

[4] (حياة الإمام الحسن) باقر شريف القرشي ج 1، ص 133.

[5] المصدر السابق، ص 134.

[6] المصدر السابق، ص 136.

[7] (حياة الإمام الحسين) باقر شريف القرشي ج 1، ص 221.

[8] (نهج البلاغة) الإمام علي، قصار الحکم، رقم: 292.

[9] المصدر السابق، الخطبة رقم: 235.

[10] (أعيان الشيعة) السيد محسن الأمين ج 1، ص 319.

[11] (تاريخ الاسلام) الحافظ الذهبي «السيرة النبوية» ص 562.