بازگشت

الفواجع التي شاهدتها


ثمّ أين السيّدة سكينة من مجالس الأدب ومطاردة الشعر والحكم بين الشعراء وهي التي عاشت فاجعة الطف المروعة وشاهدت محنة أبيها وأعمامها وإخوتها وأهل بيتها وأصحاب أبيها في جهاد أعدائهم الذين أحاطوا بهم من كلّ جانب والذين بلغوا أكثر من ثلاثين ألف رجل مدجّجين بالسلاح الفتّاك والحقد الأسود الدفين حتّي قضوا عليهم، وشاهدتهم باُمّ عينها مجزّرين عطاشي في ساحة الوغي، وتركتهم مطرّحين علي الثري مسلوبين عراة بلا غسل ولا كفن ولا دفن، وهي لا تتجاوز الثانية عشر من عمرها الشريف.

وأدهي من ذلك مشاهدتها أخيها العليل مطروحاً في خيمته لا حول له ولا قوّة قد أنهكه المرض والنار تشتعل في خيمته كما سرت النار في باقي خيام بيت الرسالة فصارت العلويات المروّعات والأطفال يركضون من خيمة إلي خيمة حتّي فرّوا بأرواحهم إلي البيداء والنار تلاحقهم بعدما أحرقت كلّ شيء في الخيام بعد السلب، وتري عمّاتها واُمّها وأخواتها حائرات كما شاهدت عمّتها العقيلة زينب التي شاطرت الإمام الحسين في محنته، وتحمّلت من بعده في تدبير اليتامي والأرامل.

وقد أثّرت مصيبة الرضيع تأثيراً عظيماً فكلّ شيء كان يدور في خلدها إلاّ قتل عبد الله الرضيع فقد كانت تنتظر أن تستقبله، بعد أخذ أبيها الحسين (عليه السلام) إلي القوم ليسقيه وقد ارتوي، فإذا هو مذبوح من الوريد إلي الوريد بسهم حرملة لعنه الله.

أذهل سكينة قتل أخيها والمصائب التي تحمّلتها طيلة ذلك اليوم حتّي أ نّها ما استطاعت أن تقوم لتوديع أبيها الحسين (عليه السلام) الوداع الأخير الذي لا لقاء بعده في الدنيا، حيث حفّت به بنات الرسالة وكرائم الوحي يتصارخن في توديعه، فقد ظلّت في مكانها واجمة، ولحظها أبوها وهي بهذا الحال فوقف علي رأسها يصبّرها وهو يقول:



سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحِمام دهاني



لا تحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً

ما دام منّي الروح في جثماني



فإذا قُتلت فأنت أولي بالذي

تأتينه يا خيرة النسوانِ [1] .



وبعد مصرع أبيها الحسين (عليه السلام) ومجيء جواده إلي الخيام محمحماً، وسرجه ملوياً خرجت سكينة مولولة صارخة، فنادت: وا قتيلاه، وا أبتاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا غربتنا بعدك، فلمّا سمع باقي الحرم خرجن فنظرن الفرس، فجعلن يلطمن الخدود، ويصحن: وا محمّداه [2] .

وحصلت السيّدة سكينة علي فرصة اُخري لتوديع أبيها (عليه السلام) والتزوّد منه، وذلك في الحادي عشر من المحرّم بعدما حملهم القوم أسري يريدون بهم الكوفة، وقد جعلوا طريقهم علي ساحة المعركة.

ولمّا شاهدت سكينة جسد أبيها علي الصعيد فألقت بنفسها عليه، تتزوّد من توديعه وتبثّه ما اختلج في صدرها من المصائب.

ولم يستطع أحدٌ أن ينحّيها عنه حتّي اجتمع عليها عدّة وجرّوها عنه بالقهر [3] .

ناهيك عن ما شاهدته وعاشته من فجائع الأسر وذلّ الموقف، والسير علي الجمال في الصحراء من كربلاء إلي الكوفة ومن الكوفة إلي الشام، والمواقف الرهيبة التي وقفتها مع عمّاتها وأخواتها في مجلس ابن زياد، ومجلس يزيد لعنهم الله.

هذا وصف بعض ما شاهدته السيّدة سكينة من فجائع يوم عاشوراء وما بعده.

فهل تري أ يّها الأريب اللبيب بعدما شاهدت هذه الفجائع أن تركن السيّدة سكينة مجالس الأدب ونظم الشعر؟! وهي التي شهد بحقّها حجّة الله أ نّها غلب عليها الاستغراق مع الله، لا والله وألف كلاّ.

وجاء في كتاب (السيّدة سكينة) للسيّد عبد الرزّاق المقرّم (الصفحات 63 - 66) ما يلي:

والسيّدة سكينة حضنتها الحجور الزاكية وتلقّت من أبيها سيّد الشهداء التعاليم الراقية والآداب الإلهية ودرست القيم الإسلامية وجارت في المجاهدة والرياضة جدّتها الصدّيقة وعمّتها العقيلة حتّي حازت أرقي مراتب العبادة التي يرضاها ربّ العالمين ومن هنا منحها الإمام الحجّة الواقف علي نفسيات البشر ومقادير أعمالهم أرقي صفة تليق بامرأة كاملة تفانت في الطاعة لله تعالي وهو (خيرة النساء).

من هذا وذاك صحبها (أبي الضيم) إلي محلّ شهادته في جملة من انتخبهم الباري سبحانه دعاة لدينه فشاهدت بين تلك الثنايا والعقبات الآيات المنذرة بتدابير النفوس وتخاذل القوم عن نصر الهدي واجتماعهم علي إزهاق نفس ريحانة الرسول (صلي الله عليه وآله) وإراقة (دمه الطاهر) وأ نّهم قادمون علي عصبة لا ترقب فيهم إلاًّ ولا ذمّة فلم تعبء بتلكم الأهوال التي يشيب لها فؤاد الطفل تسليماً للقضاء وطاعة للرحمن عزّ شأنه.

وشاهدت اُولئك المناجيد مضرّجين بالدماء مقطّعين الأوصال وبينهم علّة الكائنات ومدار الموجودات أبو عبد الله (الحسين) (عليه السلام) وقد مثّلوا فيه بكلّ مثلة:



ووجّهوا نحو في الحرب أربعة

السهم والسيف والخطي والحجرا



فقابلت تلكم الفوادح برباطة جأش وهدوء بال ولولا انخراطها في الاستغراق مع الله تعالي وتفانيها في الطاعة له كما أخبر أبوها الحجّة (عليه السلام) بقوله: «الغالب عليها الاستغراق مع الله» لانهدّ قواها وساخ صبرها وتبلبل فكرها وفقدت مشاعرها ولكنّها بالرغم من ذلك لم يرعها ذلّ الأسر ولا شماتة العدوّ وتراكم الرزايا وأنين الأطفال وبكاء الفواقد فلم يصدر عنها ما لا يتّفق مع الخضوع للأصلح المرضي لله تعالي.

ولو كان (أبيّ الضيم) يعلم بضعف عزمها وتفكّك صبرها لما رافقها إلي محلّ تضحيته لئلاّ يستبّب من تلكم الأهوال الوقوع في خطر عظيم.

إنّ ذلك المشهد الدامي الذي لم يمرّ علي نبيّ أو وصيّ وقابله شهيد الدين بصبر تعجّبت منه ملائكة السماوات كما في نصّ زيارته ترك الجفون قرحي والعيون عبري والقلوب حرّي إلي يوم الانقضاء علي حدّ تعبير الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، ويقول رسول الله (صلي الله عليه وآله): إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً، والسيّدة سكينة أبصرت كلّ ما جري في ذلك اليوم وسمعت صرخة أبيها المظلوم واستغاثته وشاهدت حرائر النبوّة ومخدّرات الإمامة يتراكضن في تلك البيداء المقفرة حين شبّت النار في مضاربهم ولا محامي يلذن به إلاّ زين العابدين وقد أنهكته العلّة.



فلو أنّ أيّوباً رأي بعض ما رأي

لقال بلي هذا العظيمة بلواه



فلم يتضعضع صبرها ولا وهي تسليمها للقضاء الجاري ولم يتحدّث المؤرّخون عمّا ينافي ثباتها علي الخطوب في الكوفة والشام مع ما لاقته من شماتة ابن مرجانة وابن ميسون ونكته بالعود رأس الحسين وأهل المجلس يشاهدون الأنوار تتصاعد من أسارير جبهته والروائح العطرة تفوح منه وهو يرمق حرمه بعينيه ولمّا أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم لأ نّه أنكر عليه فعلته نطق الرأس المقدّس بصوت جهوري (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله).

فأخذت الناس الحيرة وراح الرجل يحدّث جليسه بالضلال الذي عمّهم وتحدّثت أندية الشام بهذا الحادث الذي لم يسمع بمثله قبل يوم الحسين ولمّا رجعت السيّدة الطاهرة سكينة إلي المدينة أقامت في بيت أبيها أبي عبد الله مع نساء قومها لابسات السواد يبكين الحسين والبهاليل من آل عبد المطّلب ليل نهار.

ويحدّثنا أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) عن حزن الفاطميات بقوله: ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولا رؤي الدخان في بيت هاشمي خمس حجج إلي أن قُتل عبيد الله بن زياد.

عاشت السيّدة سكينة في بيت أخيها السجّاد (عليه السلام)الذي لم يزل ليله ونهاره باكي العين علي سيّد شباب أهل الجنّة وكان جوابه لمن يطلب منه التخفيف لئلا تذهب عيناه: إنّي كلّما نظرت إلي عمّاتي وإخواني إلاّ تذكّرت فرارهن من خيمة إلي خيمة وكان هذا دأبه في البكاء علي (قتيل العبرة) إلي أن استشهد صلوات الله عليه سنة 95 وإذا كان عميد البيت لا يفتر عن النياحة مدّة حياته فما ظنّك بمن حواه البيت من النساء ومن شأنهنّ الرقّة والجزع والسيّدة سكينة تأوي هذا البيت المفعم بالحزن والشجاء وفي مسامعها نشيج أخيها الحجّة وتبصر تساقط دموعه علي خدّيه فتشاركه في الزفرة وتجاوبه بالعبرة ولا تبارح فاكرتها الهياكل المضرّجة بالدماء وقد شاهدتهم صرعي مقطّعين الأوصال.



قد غيّر الطعن منهم كلّ جارحة

إلاّ المكارم في أمن من الغِيَرِ



فهل تبقي لها لفتة إلي لوازم الحياة فضلا عن عقد مجالس الاُنس والفرح بلي كانت السيّدة العفيفة مدّة حياة أخيها الإمام وبعده باكية نادبة علي أبيها المظلوم الممنوع من الورود وأبو عبد الله حياة الكون وريّ الوجود.

[والماء يصدر عنه الوحش ريّانا]

ولكن آل الزبير تحدّثوا وافتعلوا وأكثروا (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَـبُوا حَتَّي يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).


پاورقي

[1] سکينة بنت الحسين للفکيکي: 123.

[2] زينب الکبري للشيخ جعفر النقدي: 109.

[3] تظلّم الزهراء: 224.