بازگشت

صبرها وتحملها المشاق و تسليمها لأمر الله


الصبر الممدوح: حبس النفس علي تحمّل المشاق تسليماً لأمر الله تعالي، كحبسها عن الجزع والهلع عند المصاب وفقد الأحبّة، وحبسها عن الشهوات نزولا علي حكم الشريعة، وحبسها علي مشقّة الطاعة تزلّفاً إلي المبدأ الأعلي.

وقد مدح الله تعالي الصابرين في كتابه الكريم، فقال عزّ وجلّ: (وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إذَا ذُ كِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَي مَا أصَابَهُمْ وَالمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)، وقال تعالي: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ا بْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأقَامُوا الصَّلاةَ وَأنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّـئَةَ اُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَي الدَّارِ)، وقال تعالي: (وَالصَّابِرِينَ فِي البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَاُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ)، والآيات كثيرة في الصبر، والأحاديث أكثر.

ولمّا كان الصبر بهذه المثابة عند الله كان الأقربون إلي الله أكثر صبراً من غيرهم، كالأنبياء وأوصيائهم، ثمّ الأمثل فالأمثل.

وهذه العقيلة الطاهرة قد رأت من المصائب والنوائب ما لو نزلت علي الجبال الراسيات لساخت واندكّت جوانبها، لكنّها في كلّ ذلك كانت تصبر الصبر الجميل كما هو معلوم لكلّ من درس حياتها.

وأوّل مصيبة دهمتها هو فقدها جدّها النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، وما لاقي أهلها بعده من المكاره.

ثمّ فقدها اُمّها الكريمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم)، بعد مرض شديد، وكدر من العيش، والاعتكاف في بيت الأحزان.

ثمّ رأت شهادة أبيها أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) بفلق رأسه من ضربة ابن ملجم لعنه الله.

ثمّ فقدها أخيها المجتبي مسموماً، تنظر إليه وهو يتقيّأ كبده في الطست قطعةً قطعةً، وبعد موته تُرشق جنازته بالسهام.

ثمّ رؤيتها أخيها الحسين (عليه السلام) تتقاذف به البلاد، حتّي نزل كربلاء، وهناك دهمتها الكوارث العظام من قتله (عليه السلام)، وقتل بقيّة إخوتها وأولادهم وأولاد عمومتها وخواصّ الاُمّة من شيعة أبيها عطاشي.

ثمّ المحن التي لاقتها من هجوم أعداء الله علي رحلها، وما فعلوه من سلب وسبي ونهب وإهانة وضرب لكرائم النبوّة وودائع الرسالة، وتكفّلها حال النساء والأطفال في ذلّة الأسر، ثمّ سيرها معهم من بلد إلي بلد، ومن منزل إلي منزل، ومن مجلس إلي مجلس، وغير ذلك من الرزايا التي يعجز عنها البيان ويكلّ اللسان.

وهي مع ذلك كلّه صابرة محتسبة، ومفوّضة أمرها إلي الله تعالي، قائمة بوظائف شاقّة، من مداراة العيال، ومراقبة الصغار واليتامي من أولاد إخوتها وأهل بيتها، رابطة الجأش بإيمانها الثابت وعقيدتها الراسخة، حتّي كانت تسلّي إمام زمانها زين العابدين (عليه السلام)، حتّي أ نّها لمّا وقفت علي جسد أخيها الحسين (عليه السلام) مقطّعاً أمام جيش الأعداء رفعت يديها إلي السماء وقالت: اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان، بكلّ صبر حتّي لا يشمت بها الأعداء.

أقول: يكفي في علوّ مقام هذه الدرّة المكنونة والجوهرة المصونة في الصبر وعظيم درجتها في التسليم لأمر الله والرضي بقضائه ما نقله في الطراز المذهّب: أ نّها - سلام الله عليها وعلي جدّها وأبيها واُمّها وإخوانها - لمّا وقفت علي جسد أخيها الحسين (عليه السلام) قالت: اللهمّ تقبّل منّا هذا القليل من القربان.

قال: فقاربت اُمّها في الكرامات، والصبر في النائبات، بحيث خرقت العادات، ولحقت بالمعجزات.

قلت: وهذه الكلمات من هذه الحرّة الطاهرة، في تلك الوقفة التي رأت بها أخاها العزيز بتلك الحالة المفجعة التي كان فيها، تكشف لنا قوّة إيمانها، ورسوخ عقيدتها، وفنائها في جنب الله تعالي، وغير ذلك ممّا لا يخفي علي المتأمّل.

قال أبو إسحاق الاسفرائيني في كتاب نور العين في مشهد الحسين (عليه السلام): روي عن العقيلة زينب اُخت الحسين (عليه السلام) عند هجوم القوم علي الخيام أ نّها قالت: دخل علينا رجال وفيهم رجل أزرق العيون، فأخذ كلّ ما كان في خيمتنا التي كنّا مجتمعين فيها، إلي أن قالت: فقلت له: قطع الله يديك ورجليك، وأذاقك الله النار في الدنيا قبل الآخرة، قال: فما كان إلاّ قليل حتّي ظهر المختار الثقفي طالباً بثأر الحسين (عليه السلام)، فوقع في يده ذلك الرجل - وهو حَولي بن يزيد الأصبحي - فقال المختار: ما فعلت بعد قتل الحسين (عليه السلام)؟ فذكر أفعاله التي فعلها ودعوة العقيلة عليه، فاستجاب الله دعاءها، فقطع المختار يديه ورجليه وأحرقه بالنار.