بازگشت

تفسير ظاهرة تضحية بعض ذوي الاتجاهات


قبل اختتام الكتاب رأينا أن ننوه الي أمر هام يشغل نفوس الكثير من الشبان و تفكيرهم. فمن الضروري أن نفهم كون الناس جميعا الا النادر يتمكنون من السعي ذاتيا لمآربهم، ولكن الانسان لايسعي الا حينما يتلقي دعوة تجبره أو تغريه، رغم أن المسعي يكون مما يهمه و يعد من مسؤولياته. غير أنه قد يتهاون بشأنه، مدعيا عدم سنوح الفرص تارة و مبررا صعوبته الآن و تأجيله الي غير أوان تارة أخري، و قد يهمله.و ينفيه من اهتماماته مرة ثالثة، بينما يندفع اليه حين الاغراء و عند الاجبار.. فهذه الظاهرة سائدة ملموسة في المجتمع علي شتي الأصعدة...

و كل انسان له القابلية علي العمل الذاتي، و يملك الاستعدادات الذاتية سلفا. بيد أنه ليس كل انسان قيد قابليته هذه، و ليس مرهونا بارادته و وعيه و خصوصا حين ترهنه أهواؤه و رغائبه، بل خصوصا اذا كان العمل المطلوب يستدعي انفاق المال أو السخاء بالروح و الحياة و انفاق الدم. فهنا تبدأ الأهواء، و تظهر غريزة حب البقاء بتجاهل أخطر مسؤوولية و أكبرها.

غير أن السخاء بالحياة هذا ملحوظ لدي بعض الناس ممن قد لايكون له


ذريعة شرعيد أو عقلية، بل ممن يؤمنون بعقيدة سطحية أحيانا.. فما هذه الظاهرة و كيف يمكن فهمها؟.. [1] .

و هذا الأمر ليس صعبا مستعسرا تفسيره حين العلم بأن الارادة يمكن تسخير صاحبها نحو أي منحي يمليه عليه و عيه أو تفكيره مهما اتصف به هذا الوعي و التفكير من سعة أو ضيق و مهما كان الغرض و الباعث.. و قد يستحوذ علي الفرد جانب ما من الجوانب التي تملك عليه اهابه فتدفع به نحو المخاطر و كأنه متفاون ذاتيا في سبيل قضية ما، في حين أن الجوانب الأخري لم تلعب دورها لضبط مساره المتفاني..

ألا يمكن اعتبار من نطالب بالثأر رجلا متفانيا مندفعا ذاتيا نظرا لجعل الثأر في حياته هو القضية الكبري و بدونها فالعار سيلحق به دوما؟!! ألا يعتبر رجال العصابات الارهابية و اللصوص يقومون بدور التفاني الملحوظ؟. و كذلك فان أصحاب الفكرة البسيطة أو العقيدة المحدودة و الاتجاه المستقيم يتفاني الواحد منهم بشكل أوسع نطاقا من طالب الثأر و العضو في العصابات.

فالفكرة أو العقيدة كأمثال ما أشرنا اليه بالتقاء أحدها مع عقل محدود و حماس متصاعد مع تفكير ضيق و طاقة واسعة، تفرز موقفا صلبا للمدافع عنها، و تؤدي الي تضحية قد تدعو للدهشة أحيانا.. هذا فضلا عما في الانسان من محتوي يتمثل بحب المغامرة و المجازفة، و استعداد لنكران الذات عند فقدان الصواب نتيجة استحواذ الفكرة المحدودة التي تتحول الي فكرة كاملة و عظيمة في نطاق وعيه الذي هو قاصر بذاته، فضلا عن القصور في فكرته.. و عليه فان الوهم سيقوم بفعاليته الموثرة، و هو أي الوهم من ممتلكات الانسان الاستعدادية.


و لو علمنا الباعث الداعي للتضحية جيدا، لقررنا كون طالب الثأر، يندفع بباعث اجتماعي عرفي، أو شخصي.. أما المنتمي الي فكرة أو عقيدة فيندفع بباعث سياسي، أو وصولي، أو أضيق من ذلك بكثير حتي لا يكاد يتعلق بالفكرة كمنطلق و باعث، و انما كمحفز ليس الا.. اذن فنعت الاندفاع بالذاتية يسي ء لمفهوم المنطلق الذاتي الذي تقومه أدوار حساسة سبق أن أدرجناها في التمهيد لهذا الكتاب [2] ، و وعدنا بتفصيل بحثها بكتبا آخر عن الأنصار.

فاضطراب تلك الأدوار و نقص بعضها عن محتوي الفرد، أو عدم استيعابها كل ذلك يقصيه عن الاندفاع ذاتيا، و يرميه في أحضان المصالح أو العواطف أو القسر أو الاغراء، و الا و في أهون الاحتمالات فانه يقع أسير قصوره و ضيق ادراكه و انحسار أفق تفكيره، حيث ان ذلك يولد طغيان ما توصل اليه، علي نفسه، و استحواذ القضية عليه، لتسخر قواه و طاقاته فتطلق به الي أبعد المتاهات، ضحية الضياع في المظاهر.

و لو تسني لصاحب ملكة التفاني هذا، أن يطلع علي عدة قضايا و عدة أفكار أو عقائد لانتهي الي حيث الأصلح و الأفضل و الأحسن و الأمثل، و لتوجه بسلاح ارادته ضد أعدائها و لصب قواه و تفانيه فيما يستحق الفناء فيه.

هذا و ان من الأوهام التي نشهدها، كون بعض الناس لا يندهشون لظاهرة


التفاني هذه فقط، و انما يستفيدون منها للاستدلال علي صواب الموقف و صلاح الفكرة الحزبية مثلا.

و بعد، فانه بتقدير اخلاص المتفاني لعقيدته تماما، و اخلاصه علي ضوء و عيه و بحدودها فلا يعني أن تفانيه هو تسجيل الرقم علي صحة عقيدته و صلاحيتها، و انما سجل بذلك مقدار وعيه، و أثبت مستوي طاقاته من أجل ما آمن به أو انبعث متسترا خلفه..

و الحق ان توفر أدوار السعي الذاتي المذكورة آنفا، هي القوة الكفيلة بمنح العطاء للمستقبل. هذا و ان تلك الأدوار لا تتوفر الا عند المومنين بالوحدانية. لذا، فان دور الحس بالمراقبة الالهية علي مسووليات المسلم و واجبات المسلمة، لهو من أوثق الأدوار و أكثرها ضبطا و استحكاما، لتصفية الباعث، و تنزيه النية، ذلك لأن التربية الاسلامية الحقة للشخص، تدعوه ذاتيا لأن يذوب في العقيدة و يفني في القضية.



پاورقي

[1] کتبنا هذا الموضوع الوجيز تلبية لتساؤل أحد الشبان عن تفسير ظاهرة اندفاع بعض الناس و بعض الحزبيين اليوم بتفان و ايثار علي أساس عقيدة غير ناضجة کما نشهد عالميا.

[2] و الأدوار المقومة هي:

آ - دور الفکرة والعقيدة - و نعني بها الصالحة لا الاسمية.

ب - دور القضية المطروحة - و الأزمة المتسأثرة للاهتمام.

ج - دور العدو و الخصم، و أثر مجمل کيانه و مواقفه.

ک - دور القيادة المثبنية للمباشرة العملية أو التوجيه.

ه - دور التجرد و نکران الذات - بوعي و بحضور الشعور.

و - دور الشعور بالانتماء و الشعور بالوجود.

ز - دور الحس بالمراقبة الربانية الراصدة المهيمنة.