بازگشت

تفسير ظاهرة تجنب تعدد القادة


و يجدر بنا أن نشير الي ظاهرة هامة كانت من خصائص هذه الصفوة من جند الله. ألا و هي ظاهرة التجنيد المشفوعة بتجنب ترشيح قادة علي كل مجموعة من جند الأنصار ضمن القيادة الحسينية العليا..

فان عملية تقسيم الرجال الي وحدات عسكرية تحت رايات متعددة، يجمعها لواء الحسين الواحد، تعد عملية مستساغة، و لربما نراها ضرورية جدا لأنها عملية متبعة في كل التحركات و الثورات، قبل أن يبدأ الصراع الميداني... فلماذا تجنبها الامام الحسين (ع)؟؟؟

لقد رأيناه لا يعير هذه الخطوة الهامة أي اعتناء منذ انطلق من مكة. بل لم يتخذها في الطريق الي الكوفة رغم ظهور معالم الخطر و احتمال وقوع صدام و اشتباكات حينما ظهرت كتيبة الحر الرياحي بألف فارس مسلح!. ثم انه تجنبها حتي في كربلاء اذ رابط مع جنده طوال أسبوع هناك.. و لم يتخذها عمليا الا قبيل بدء الحرب بساعات ليلة يوم عاشوراء، أو فجر اليوم نفسه اذ أعطي راية الميمنة الي النصير المجاهد حبيب بن مظاهر الأسدي و جعل راية الميسرة بيد النصير الحسيني زهير بن القين البجلي فيما حمل اللواء في القلب القائد الهاشمي الكبير أبوالفضل العباس بن علي بن أبي طالب عليهم السلام جميعا.

فهل يرجع سبب تجنب تنصيب القادة مسبقا في تلك المراحل من بمكة فالطريق فكربلاء حتي قبيل يوم عاشوراء الي انعدام الكفاءات القيادية أو الافتقار للقادة؟ أم أن الامام غيب عن باله هذه الناحية الهامة؟. أم كان


مترددا في اختيار الأفراد حتي جسم الأمر عند الحاجة الملحة؟.

أما نحن فنقول، بالنسبة للكفائات فهي متوفرة، و يكاد يكون أغلبم قادة فيالق، و زعماء قبائل، و أبطالا يندر العثور علي شاكلتهم.. و بالنسبة للاحتمالين الآخرين فهما غير واردين بتاتا، لأن قائدا محنكا حكيما كالحسين جل أن يغفل عن أمر في صلب تحركه.. خصوصا و هو بصير برجاله و جند جبهته، و منذ تحرك بهم لا يصعب عليه ترشيح المؤهلين حتي نحتمل تردده في اختيار هام لعملية هي في صميم ممارسة الجهاد..

فلماذا تجنب الامام هذا الأمر الهام و لم يحققه الا في آخر الساعات؟؟ للجواب نقول:

أولا: ما كانت العملية في تلك المراحل ضرورية جدا. فعندما يحين حينها يمكن اتخاذها نظرا لتوفر الشخصيات القيادية. التي يكون تنصيبها بمجرد الاشارة من الامام. فهو مطمئن الي ذلك.. ثم انه تجنبها و لم يهملها الا مؤقتا، بناء علي سلبيات ستنجم عنها، أكثر من الايجابيات. كما سنري.

ثانيا: يعد نصب قيادات فرعية علي الناس، الزاما لهم بمتابعة المسير، في حين كان يوجد من ينوي التقهقر راجعا. و عليه فقد تجنب الامام تشخيص كل سار معه من خلال تضييق دوائر الجمع الغفير الذي رافقه. و التضييق يأتي من التقسيم فتنصيب القادة.. و لهذا كان الكثير من الناس قد ولوا الأدبار و فروا أثناء الطريق عدا خاصته و خالصته..

ثالثا: نري السير كامنا في عدم الزام أي شخص بمسؤولية معينة. لأن تنصيب القائد هو الزام لهذا القائد بالبقاء معه مكرها بحكم ما أنيط به، و بفعل تحرجه في موقفه. و هذا مما يخالف المنهج الحسيني في هذه المسيرة التاريخية.

رابعا: استهدف الامام عدم اغراء بعض الأفراد، سواء الذين ينصبهم، أو غيرهم ممن يأملون الظفر بمنصب قائد فرعي. و هذا من أشد ما حرص عليه القائد


الأعلي بفعل ما للاغراء و الأنانية و المصالح الضيقة الشخصية من أدوار تفسد الأعمال و قد تحيق بأعمال الآخرين المخلصين و تعم المشروع الرسالي، فتشوه معالم الثورة المقدسة.

و قد سبق أن قلنا، و نكرر القول عن حقيقة أن الامام أبا عبدالله الحسين عليه السلام تشدد في المسير، و تشدد علي كل منهم لقضيته المحمدية العلوية، و حرص علي أن لا يتواجد في صفوف جبهتة عنصر شاذ واحد عن قاعدة السمو الرسالي الدافع، و الرقي العقائدي الباعث..

ان تلك الأسباب كما نري جميعا، أسباب موضوعية و مبررات تخص مستقبل الانجاز العقائدي و المكسب المبدئي الذي ضرب الحسين عليه أساس بنيانه حين دق أوتاد هدف قضيته في تربة الطف علي قاعدة كربلاء..

.. فقد وزع الرايات، و رشح القيادات قبيل نحو ساعات... فرأيناهم يتنافسون علي الراية الواحدة، و يتبارون لحملها كي يعطوها حقها.. فللراية معني و مغزي و تعبير.. و من ثم فلها مسوولية.. و العظيم من الرجال اذا أمسكها أعطاها حقها بترجمة معناها لا بالحبر و اليراع.. و انما بالعمل و فعاليات السيف و مهارة حركة الذراع...

و كانت ثمة راية ترفرف.. و كما كلما شاهدها نصير حسيني خفق قلبه لها و هفا اليها و قال: «سيدي يا ابن رسول الله، ائذن لي بهذه الراية. فلأنعمنها عينا ان شاء الله!.» ولكنه قد يرجع، لأنها ليست من نصيبه، حتي يتقدم غيره، و يتقدم ثالث و رابع يتنافسون علي حمل هذه الراية أو تلك بجدارة في سويعات عاشوراء المجيدة!!!

فلو أن الرايات وزعت في مكة مثلا، لتنافس عليها من لا يعطيها حقها.. و لتجنب المؤمن أن يظهر بمظر الكف ء المؤهل.. ولكن بعد أن لاح الصبح، و لمعت السيوف و أبرقت صفائح الأسلحة، أضحي التنافس علي الرايات عملية


نقية نزيهة نبيلة و تامة الشرف لا تشوبها شائبة و لا تحوم حولها الشبهات و الشكوك في القدرات..

.. و جاء المجاهد حبيب بن مظاهر الأسدي ليستلم رايته التي تنتظره، فكانت ككل راية نشرها الامام ليسلمها الي نصير من أنصاره موضع تنافس الفرسان و تباري الأبرار من الأبطال، يتدافعون اليها بالنبل و الدوافع الواحدة الجليلة..

و هكذا تنوفس في كل رايات الحق...