بازگشت

بلوغ مستوي محض اليقين


الي هنا، تجلي لنا الكثير من الحقائق الكبيرة الدالة علي العزة و الاباء، و الدالة علي كبرياء النفس المومنة التقية، و قوة الروح الطاهرة، و عزيمة القلب و توطين النفس، و جلال الارادة، و توظيف الطاقات و القوي و بيعها لله تبارك و تعالي اذ «ان الله اشتري من المؤمنين أنفسهم و أموالهم..»

أجل، تجلت لنا معالم عظمة أولئك الذين ندر في التاريخ عددهم، و لم يتكرروا و لا يتكرر نفس موقفهم و جهادهم الأغر فكانوا رمز الوفاء و الفداء، و رمز التضحية و الجود بالنفس بكل سخاء، فكان سموهم دوافعهم، و علاهم من علاء وظيفتهم، و جلالهم من جلال نهايتهم!. فالايمان الكبير، و الصدر الواسع الرحب، و الثبات الخطير، ليمنح المرء كل مقومات الاكبار، و يرفعه من انسان بين الناس الي انسان بلا قياس..

و من ثم فان ايمان الأقوياء بما هو ايمان متميز سوف يولد و يعطي الكثير مما لا


غني للمجاهدين عنه.. يعطيهم رياضة النفس و تهذيبها من علائق الدنيا، و يعطيهم صفاءها لتبلغ درجة عالية من التخلص من الشوائب، فترتقي نحو مدارج العلي، و تصل الي مستوي روحي جليل...

و التحليق الروحي الذي يصحب اليقينين، و المؤمنين بقضايا الأمة و الدين، لا بد أن يرعاه الله برعايته، و يسدده بتسديده، ليمنح المؤمن القدرة علي أن يري مالا يراه الملايين، و أن يتوصل الي ما لا يتصول اليه الا القلة من البشر، و يصبح ممن تتكشف له الخفايا التي لا يراها غيره من رمد العيون و عمي البصائر..

«المأمن ينظر بنور الله..» و هو مكيف لأن يحقق المستحيل شريطة صدق الايمان:

«عبدي أطغني تكن مثلي، تقول للشي ء: كن، فيكون.»

أما حضور الامام الحسين حجة الله علي عباده في ملكوت أرضه بين صفوة

أهل اليقين الذين بلغوا من التحليق الروحي و الصفاء ما نالوا به ملكة الاشراق و أكثر، فانه بحضوره و هو ريحانة النبي محمد (ص) قد نظر الأنصار الي مواقعهم في الجنة تحت اشراف السبط العظيم سيد شباب أهل الجنة.

ففي رواية: أن الحسين صلوات الله عليه جمعهم ليصرفهم ليلا، فما زادهم ذلك الا ثباتا بشكل عظيم.. فاستدعاهم ثانية ليكشف عن أبصارم و يريهم منازلهم في الجنة..

و هذا، لا يصدقه ضعفاء الايمان.. ولكنه منحة ربانية و هبة الهية، لا نستوعبها و لا نسلم فنؤمن بها الا بعد الايمان بالله تبارك و تعالي و برسوله الأعظم (ص) و بالمعاد و الجنة، و بعد أن ندرك مكانة الامام الحسين (ع) عند الله، و منزلة أنصاره الصابرين علي البأساء و الضراء.. فما أضعف و أسخف من يحكم بمحدودية مداركه علي حقيقة أو كذب نظائر تلكم الأخبار!.


أجل، انهم شاهدوا الجنة.. و نظروا الي منازلهم في الفردوس الأعلي و رأوا أنفسهم منها علي قيد خطوات..

و بالطبع لم يكن ذلك من المنهج الحسيني لولا استحقاقهم لذلك، و استيقان الامام بأنهم بلغوا من اليقين ما استحقوا به الكرامة من الله، و تعظيم الأجر قبل الشهادة بحيث ان عدم كشف منازلهم، ما كان ليمنعهم عن الاقبال نحو مصارعهم و مضاجعهم، لسمو بواعثهم و جلال دوافعهم سلفا، اذ ثبتوا ثباتا رساليا خلال مراحل المسيرة و الأيام التي قضوها.. فكانوا صفوة الصفوة في العالمين...

ألم يقل أكثر من واحد منهم كما سبق: «أما والله لو علمت أني أقتل ثم أحيي، ثم أحرق ثم أحيي ثم اذري في الهواء، يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك؟!!»

فهذا النوع من الوفاء و التفاني الفريد، ليؤكد لنا أننا مهما تكلمنا عنهم فلا نبلغ معشار ما في روعهم، و لا نؤدي بعض حقهم!. و كيف، و هم بالعشرات يقفون بصبر، و يرابطون بصمود تجاه عشرات الآلاف، و لا نقول انهم لا يهابون الآلاف؟!! بل كانوا يبتسمون، و يضحكون.. كأنما هم في أوقات مباهج الدنيا المقبلة، حتي أن المزاح و انشراح الصدر مع تصاعد الضحكات من هذا المجاهد أو ذاك، كانا مألوفين تقريبا!.

فهذا النصير الحسيني حبيب بن مظاهر الأسدي يخرج من خيمته ضاحكا مل ء شدقيه، فيبادره النصير يزيد بن الحصين التميمي قئلا: «ما هذه ساعة ضحك!.» فيرد عليه حبيب مبتسما هاشا لما ينتظرهم: «أي موضع أحق من هذا بالسرور؟!! والله ما هو الا أن يميل علينا هؤلاء الطغاة فنعالجهم بسيوفنا ساعة ثم نعانق الحور العين!.؟

و هذا برير بن خضير الهمذاني، يداعب صاحبه عبدالرحمن الأنصاري


و يلاطفه هاشا باشا ضاحكا، فينكر عبدالرحمان عليه الضحك ظنا منه بأنه يهزل، فيقول له: «ما هذه ساعة باطل!.»

فيرد عليه برير و كله ثقة و عزيمة و يقين:

«لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلا و لا شابا، ولكني مستبشر بما نحن لاقول.. و الله ما بيننا و بين الحور العين الا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، وودت أنهم مالوا علينا الساعة..» [1] .

فمعارضة التميمي لحبيب، و معارضة الأنصاري لبرير كانتا تعنيان تجنب الهزل الذي يفسد الأمور و يبطل العمل، و تجنب الزاح و اللهو، بقصد البقاء رهن الجد و قيد مستلزمات ما هم فيه.. لكن الجواب الذي رد به حبيب، و جواب برير، أكدا بأن ليس كل ضحك هزل و لهو.. فثمة ضحك يرفد الجد و يدعم المعنوية بما فيه من غرض و هدف.. فضحكهم لا يقلل من قوة الوقوف علي خط المواجهة بجدارة أهل الجد... فضحكهما كان منطلقا من بهجتهما بما هم عليه مقبلون... فيا لها من ساعة فرح و سرور و لذة، لذة تحدي الكفر و الانحراف و عملاء السلطان الجائر، و تحدي الأجلاف الجبناء.. تلك اللذة التي تفوق أية لذة في الدنيا، لأنها تعطي المؤمن المجاهد شعورا طاهرا بكونه رهين ارادته، و حسا مقدسا بأنه ليس عبدا لغيرالله ينفذ مقررات السماء!.

هذا الحس الممتع الفائق، يفسر لنا استعجالهم و تسابقهم للاسراع بتحقيق ما يمليه عليهم اليقين، و طاقة الايمان الكامنة، لينفسوا عما في أنفسهم و يحققوا رغباتهم الايمانية:

«.. و ددت أنهم مالوا علينا الساعة!.»

لهذا هم سعداء في موقفهم و سعداء بترقب مقتلهم و شهادتهم، و هم مشتاقون للتضحية في سبيل القضية الحسينية العادلة التي تشكل محورا يدورون حوله


حيثما دار، و هم في استئناس بالمصير، لاضاءة الطرايق للسالكين من أرباب الجهاد في الأجيال القادمة.. و قد قال الامام القائد لأخته زينب سلام الله عليها مطمئنا اياها عن رجال جبهته:

انهم «يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بثدي أمه!..»

و يصفهم أحد الشعراء:



قوم اذا نودوا لدفع ملمة

والخيل بين مدعس و مكردس



لبسوا القلوب علي الدروع، و اقبلوا

يتهافتون علي ذهاب الأنفس



و يبلغ بهم الايمان و اليقين و قوة التصميم و شدة البأس الي حد أنهم لا يحسون بالماديات و الآلام و الجراح لطغيان الجانب الروحي و الشوق للشهادة، فلا يكان أحدهم يتأثر بالمحسوسات لأنه متفان في القضية الالهية، ذائب فيها لا يشعر الا بالهدف الذي يقدم نفسه من أجله..

لقد قال الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و سلم لولده الحسين يخبره عن جهاده و عن الثوار الذين معه: «... و يستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مس الحديد... و تلا قوله تعالي: «يا نار كوني بردا و سلاما علي ابراهيم.» تكون الحرب عليك و عليهم سلما..» و قال الحسين لأنصاره معقبا علي الرواية.. فأبشروا.. [2] .

أولئك هم الذين اختاروا لأنسفهم موقف الصرامة الجهادي، و اختاروا نيل الشهادة علي البقاء مع أجلاف العرب..

أولئك هم الأحرار حقا.. الذين أبوا علي أنفسهم ما أباه الامام علي نفسه!. أولئك رواد التحرير الذين باعوا لله كل ما يملكون و أنفس ما به يتمتعون.. باعوا كل شي ء بكل سخاء قبل رؤيتهم العيانية للفردوس.. و ما علي كل ناشد للحرية الا أن يبيع نفسه لله و للحق ليتحرر و ينعتق دنيا و آخرة وفق وعد


الله.. «ان الله اشتري من المومنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الانجيل والقرآن، و من أوفي بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم..» 111:9.


پاورقي

[1] تاريخ الطبري، و اللهوف لابن طاووس، و البداية و النهاية بتفاوت و اختلاف.

[2] لمحة من بلاغة الحسين - ط 6 ص 63.