بازگشت

السلوك الجميعي الخطير


قبل الختام نشير الي هذا الجانب من جوانب الحياة المعاشة منذ القدم لحد هذا اليوم، و هو هذا الفارق العظيم بين السلوك الذاتي و السلوك الجمعي، في تأدية أي عمل أو أي وجب في حياة الفرد. و كان من المؤمل أن نطيل في هذا للموضوع، ولكن طول لمقام فرض الايجاز...

ان تاريخنا بل كل تواريخ الأمم حافل بالشواهد علي ظواهر السلوك الجمعي في ميادين الحياد الاجتماعية و السياسية و العسكرية، و ذلك لأنه حال بالأحداث و الوقائع و المجاوز و الصدامات البشرية التي اعقبتها أعاصير أهرقت كثيرا من الدماء التي جرت أنهارا.

و التاريخ بوسعه تقديم ركام من الدلائل علي أن كل ذلك الا ما ندر قد فعل فيه السلوك الجمعي دوره البليغ..

فقد عاش الناس بسلام تحت حكم أمراء، ثم عاشوا حالات حرب تحت حكمهم أيضا. و في كلا الحالتين يلاحظ الخضوع والطاعة للأمير - الحاكم - فالعمل وفق أوامره بلا رأي أو نقاش أو وعي و ادراك يكفل حصحصة الحق و بيان وجه الصواب و صيرورة الحياة بشكل آخر...

فالمعالم الرئيسية لحياة الناس في الحرب والسلم هي المتحكم بهم، والارهابات


والاكراهات مشفوعة بالترغيبات و الاغراءات، مدعومة كلها بالجهل و السذاجة و قلة الوعي والغباوات... فبالنسبة للحرب - ان وقعت - فلا يدري الجميع جوهر الأسباب.. بل يجهلون ما يكون عليه الأمير أو القائد من حيث دواخله و سرائره و غاياته، كما أنهم يجهلون بنفس الوقت عدوهم أو مقاتلهم، و أسباب قيامه و غايته.. أما بالنسبة للسلم فيكون أكثر الناس علي غير وعي تام بالسلطان و مدي مشروعية جلوسه علي دست الحكم.. فهم يلعنون من لعن، و يشتمون و يسبون من شتم و سب، و يكرهون و يحبون من كره و أحب، و يهتفون بألسنتهم هتافات لايعون كنهها، و يتظاهرون بمظاهرات في الشوارع و يحملون اللافتات بلا هضم للواقع و لا استيعاب للظروف الراهنة.. يصفقون لمن يأتي و يهتفون بحياته، ثم لا يلبثون أن يصرخوا بنبذه و ينادون بمماته. و لمجرد أن ينفذ لهم مطلبا جديدا يصفقون له من جديد. لا تخلو حياة الناس من تكرار هذه الحالات، و الاندفاع بفعل السلوك الجمعي اللاواعي و العقل الجمعي الغبي..

و بتأثير تلك الغوغاء طالما سار من سار، أو وقع كالأسير ن وقع وانتبه لما كان عليه من عيب و عار.. و يعد الاسلام أول و أكبر من حارب الوقوع بمجاهيل الحياة و أول من قاوم الجهل و السبات. فقد ناشد الاسلام كل من يؤمن به، و وجهه الي اليقظة و الوعي و البصيرة و المعرفة، كيلا يفقد الفرد صوابه فيجرفه تيار السلوك الجمعي و يحوله عن طريق الرشد الي طريق الغي، حين تفقده غوغاء الجماهير شعوره المرهف و احساسه الذي وهبه الله اياه، فيحذره كيلا يقع في شرك المردة من أعداء الانسانية، أو بحبائل الشيطنة الشريرة اذا كان سيره و سلوكه وفق ما يمليه عليه اللاشعور..

و لم يأل الاسلام جهدا، و لم يبخل أقطابه و أئمة المسلمين (ع) بتحذير الشخصية الاسلامية من السقوط بمستنقعات أهل الضلالة و البغي.. و قد شدد القرآن الركيم علي تجنب ذوبان شخصية المسلم و المسلمة في بوتقة من يتربصون بهما الدوائر وأكد ضرورة، بل وجوب التفكر و التدبر لأمور الدين و الدنيا بوعي


و بصيرة و بيقظة و ادراك، كيما يسمو العمل و العطاء الذي يقدمه المسلم أو المسلمة في حالتي السلم و الحرب، فلا يتيهان و لا يضيعان و لا يجرفهما السلوك اللاواعي... و هذا السلوك الجمعي، و هذه المظاهر العالمية و التاريخية، هي التي أشار اليها حامل راية الاسلام: الامام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حينما ندد و استنكر من يمثلون عنصر الجهلة اللاواعين في زمانه: فوصفهم ببليغ كلامه و سديد منطقه اذ قال:

«ألهمج الرعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستنيروا بنور العلم و لم يلجأوا الي ركن وثيق...» [1] .

والاسلام أيضا طلب من مريديه كشف أنسفهم، و معرفة ذواتهم، و محاسبة الفرد نفسه ليفهم نفسه و يعرف شخصه، و يعثر علي ذاته، فينطلق انسانا صلبا أبيا، يعطي الحق حقه، و يأخذ لنفسه ما يراه بحاجة اليه و في عوز له، ثم يتعامل مع نفسه و ذاته و يتشاور معها فيصارحها بما عليه من مسؤولية و واجب، كيما ينطلق لتأديته و تنفيذه.. هكذا الفرد المسلم المومن يتحرك بقناعات مبدئية و عقائدية و رسالية، و غيره لا يتمتع بمواصفاته الجوهرية و لا يشاركه بأية خاصية من خاصياته المثالية.

فمن يأثر بالتسيير الجمعي والسلوك اللاشعوري، انسان خارج علي ذاته بجهله لنفسه و اقصائه الهدي الفكري، لايدرك قناعاته، و سيان عنده العمل مع الأحرار أو العبيد، طالما أن هدفه منبعث عن دوافع لا يدريها هو نفسه..

لقد خلت الثورات و الحركات التاريخية من النزاهة و تجنب اسهام عناصر ممن يأتون بفعل المؤمرات الجمعية، لا بفعل الايمان و القوة العقيدية و أصالة المبادي ء و عناد العزيمة و التصميم علي الصبر و التوطين علي الجهاد حتي النهاية، اذ لم يقض بذلك غير هولاء الكرام النبلاء أنصار الحسين بكربلاء


و أمثالهم... أجل لقد استحال تكرار النظير للتحرك الذاتي لأنصار الحسين عليه عليهم السلام.

فقد تنزهت تلك النخبة العملاقة عن دخول واحد بينها علي الأقل قد جاء ليحارب بفعل السلوك الجمعي اللاشعوري غيرالواعي..

فلم يقنع أحدهم نفسه بوفرة الجند و الرجال و الفرسان و وفرة العدة فضلا عن العدد، اذ كان لا يهتم كل منهم بكثرة أو بقلتة بين من سينصرون الامام عليه السلام، اذ عليه بنفسه، هو، فاتفق معها و تحالف مع ذاته، فانطلق منهما حرا دونما تأثير غاشم خادع.

فهم كلهم، انما كانوا ينصرون الحسين و ينصرون الله... هذا ما كان في روعهم بلا اعتبارات أخري...

لقد هرب الكثيرون ممن لحقوا بالركب من مكة، فلم يهتم الأنصار لذلك، رغم كون عدد المنسحبين الضعفاء يربو كثيرا جدا علي عدد الصامدين. و بالمقابل فقد ازداد عدد أفراد جيش الحكم الفاسد يوما بعد يوم حتي بعد الآلاف المولفة، فلم يكترثوا لذلك أيضا، و هم لا يزيدون عن المائة رجل الا قليلا!!! هكذا تكون نزاهة البواعث، و الا، فلا...

لقد أجابوا داعي الله و نداء السماء بحي علي الجهاد تحت لواء الحق، أملا بالبذل و الاستشهاد، و هم موفورو الايمان، علي أتم الاستعداد لبوغ أعلي ما ينشهده المومن الكامل اليقين.. فمنذ انطلقت المسيرة المجيدة من المدينة فمكة حتي بطحاء كربلاء، و حتي تمت عدة كل النبلاء، كانوا متترسين بالعقيدة متدرعين بالمبادي ء من أجل الكلمة الحرة، و من أجل مستقبل أجيال الأمة المتقادمة...

لقد كانوا علي أعظم معنويات و أرفع طاقات شهدها تاريخ الأبطال البواسل!. لم يستوحشوا من قلتهم، أو يخشوا كثرة العدو اللدود.. و لم يستاؤا لندرة عددهم «و انما تكون الندرة هنا أدل علي جلالة المرتقي الذين تطيقه


النفس الواحدة أو الأنفس المعدودات، و لا تطيقه نفوس الأكثرين.» [2] .

«و لقد أبرزت بطولات كربلاء شرف التضحية علي نحو باهر و جليل، لنكاد نحسب أن الأقدار انما أرادت ذلك اليوم بكل أهواله و تضحياته لتؤكد شرف التضحية في وعي البشرية كلها، و ليضي ء بمغزاه العظيم ضمير الحياة...

«من أجل ذلك، اختارت لها في يوم كربلاء، نماذحج رفيعة، بالغة الرفعة.. و قضية عادلة، بالغة العدالة، و نضالا باسلا بالغ البسالة..» [3] و قبل ذلك قال هو نفسه خالد محمد خالد و لعله قصد كيفية تسييرهم و تجمعهم: «والمثوبة العظمي التي ينفرد بها أبطال و أبناء الحق هي، انتماؤهم العظيم للتضحية و للحق.» [4] .


پاورقي

[1] نهج‏البلاغه: محمد عبده.

[2] أبو الشهداء، للعقاد، ص 22.

[3] أبناء الرسول في کربلاء ص 199 - 198.

[4] أبناء الرسول في کربلاء ص 199 - 198.