بازگشت

صورتان متناقضتان والتحرك الذاتي


وفي النهاية ننقل صورة نموذخ ممن شهد الموقف، و نموذجا آخر قد انخرط بين


جند الامام و كان علي العكس من الأول في وعيه و عاقبته...

فالنموذج الأول: يتمثل (بهرثمة بن سلمي) الذي لم يبق في المعسكر الأموي، و لم ينصر الحق بنفس الوقت... و كان هذا أحد جنود جيش بن سعد، وصل كربلاء، فتذكر موقفا للامام علي أميرالمؤمنين حينما كان مارا بكربلاء، أثنا غزوة عسكرية حضرها هرثمة نفسه، و شهد نزول الامام علي بكربلاء عند بلوغها، حيث صلي تحت شجرة هناك، و لما فرغ من صلاته قبض من تراب تلك الأرض و شمه ثم قال متنبئا: «واها لك من تربة.. ليقتلن بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب.».. و تذكر هرثمة أنه يقاتل الحق بمحضه.. و لو مال الي الامام كيما يقاتل الباطل فانه سيكون في عداد من سيقتل، و هذا ما لا يريده و لا ترغب به نفسه!. و لذا فان هرثمة حين وصل الي الامام الحسين كلمه بما تذكره، فسأله الامام عن انتمائه بقوله: «معنا أم علينا؟»

فأجاب الضعيف بقوله: «لا معك و لا عليك، تركت عيالا..» و كأن من ينصر الحق ينبغي أن لا يكون له عيال و بنون أو أموال!!!

ثم ان الامام لطف به حينما نصحه ليولي، و يغادر الموقف الرهيب: «ول في الأرض، فوالذي نفس حسين بيده لا يشهد قتلنا اليوم رجل الا دخل جهنم..»

و انهزم هرثمة هاربا... فلاحظ قلة وعي هذا الرجل و ضعف ارادته و نقص ايمانه و قصور كل مواصفات الشخصية المطلوبة عنده!. فقد رأي أميرالمؤمنين عليا عليه السلام، و سمع منه و لم يبق مجال للشك و الريب بسمو القصد و جلال الغاية و عظيم العاقبة.. لكنه سار في سلوك معوج رغم اعترافه و صراحة قوله.. و لا غرو، فهناك من لم ينصروا، بل لم يؤيدوا الحركة ابتداءا مع أنهم قد سمعوا بحقيقة و حتمية وقوعها من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، كما أشرنا في القسم الأول في موضوع المعارضين والتخلفين عن عمد [1] ...


أما النموذج الثاني: فيتمثل برجل من بني أسد (أهمل المؤرخون اسمه) كما ذكر الشيخ القرشي [2] ... و هذا الرجل علي خلاف هرثمة في الوعي و الادراك وقوة الارادة و الايمان. فقد سمع بأن الامام الحسين سيقتل بكربلاء، فماذا كان منه؟!! لقد رابط في تلك البطحاء، لقد راح يحرص علي مراقبة كربلاء و انتظار النضال و التضحية، لقد صمم علي أن يجاهد مع الحسين، علي أن يقاتل معه حتي يقتل، فأخذ يترقب حلول الحادث الرهيب.. و ينتظر تحقيق الحتمية المتنبأ عنها.. و لنترك ابن عساكر يروي عن العريان بن الهيثم قوله:

«كان أبي ينزل قريبا من الموضع الذي كانت فيه واقعة الطف، و كنا لا نجتاز في ذلك المكان الا وجدنا رجلا من بني أسد مقيما هناك.. فقال له أبي: اني أراك ملازما هذا المكان؟. فقال له: بلغني أن حسينا يقتل هاهنا، فانما أخرج لعلي أصادفه فأقتل معه..»

اذن فالبون شاسع و الفرق كبير بين الرجال، رغم كونهم جميعا يعلمون بالأمر و يصادقون علي مضمونه.. فقد أصر الأسدي علي دوام ترقب الجولة الحسينية المجيدة، و أسهم فعلا في تلك الثورة المقدسة.. ثم جاهد هذا النصير


العنيد في الله حتي قتل...

و لقد صرح العريان بن الهيثم أن والده قد اصطحبه عقيب انتهاء الواقعة ليبحثوا عن الأسدي فوجدوه ممن وفي بما عاهد الله و ما عاهد نفسه و ذاته عليه. فقد أخلص لما وطن معنوياته عليه و رصد طاقاته له...

و شتان بين من يكون عالما بالحقيقة فلا ينصرها، و بين من يدري بها فيستعد لها ثم يزج نفسه في أتون معركة فدائها..

و شتان بين من يعرف أمرا فيؤمن به و لا يطبقه، و بين من يعرفه فيؤمن به ثم يطبقه، متمسكا به مدافعا عنه مخلصا له مضحيا في سبيله بماله و ولده، بل بروحه و بدمه و جسده... فالحسين صلوات الله عليه، من ذا الذي يجهله؟!!! و من لا يدري و يعلم مسبقا بقداسة ثورته و سماوية حركته، و جلال جهاده الجبار؟!!

ألم يمهد الحبيب محمد (ص)، و من بعده الامام علي (ع) للتجنيد تحت راية الحسين بتكرارا لتنبؤات عما سيقوم به السبط العظيم؟!!! و توخيا للايجاز نقول: بلي... و هناك من عرف و عرف جهاده الأغر، و لم ير الا الاستعداد بجد و جهد و جدارة، و كان من هذا الصنف العريق في تفهم أسمي معاني الحرية و الايمان، عدد لا يستهان به من المكيين و المدنيين و البصريين و الكوفيين...

و كان منهم من عرفه جيدا، و لم يتحرك للنصرة أو للتأييد... و كان منهم من عرفه تماما و عرف قيمة جهاده الجسيم من أجل ديمومة وجود الأمة و سلامها، و لكنهم لم ينصروه، بل رأيناهم عارضوه... و منهم من عرف الحسين فزحف أرضا و لحق به بشوق عارم قليل النظير.. و منهم من عرف الحسين و وقف في صفوف الجيش الجرار لعمر بن سعد و هم في خوف و خشية و توجس و وجل لا يرغبون بموقفهم ذاك... و منهم من عرفه معرفة حقة كما زعموا، فقاتله و حاربه علنا، و معلنا بأنه يعرفه حق المعرفة لكنه يحاربه بغضا بأبي تراب؟؟؟


و لطالما احتج الامام عليهم و ذكرهم بنفسه و شخصه لمجرد الحجة ليس الا... غير أنهم تمادوا و استهتروا فكرروا أنهم يعرفونه حقا، لكنهم يريدون منه البيعة ليزيد!. اذا فليس مثل أولئك بعارفين له حق المعرفة كما زعموا، اذ أن المعرفة الحقيقية بالكمال و التمام هي المشفوعة بالايمان المدعوم بالعمل و الفعل. و المعرفة في ذروتها هي التي أحرزها الذين استجابوا لربهم و اندفعوا تحت راية امامهم. و ساروا بلا أغراض و بلا مصالح.. و انما قاموا ثأرا لدينهم، و لم يجبرهم أحد، ولكنهم انبعثوا من تلقاء أنفسهم...


پاورقي

[1] أنظر أنساب الأشراف للبلاذري تحقيق الشيخ محمد باقر المحمدي ج 3 ص 180 و قد فاتنا الاشاره الي نموذج آخر قد ذکره البلاذري و هو يتمثل بشخص (فراس بن جعدة المخزوعي) الذي وصل کربلاء مع من وصلها من ثلة المجاهدين البواسل، غير أنه ما لبث حتي استحوذ عليه الجبن وطغي عليه الخوف فتثبطت عزيمته و أخذه الاضطراب و الوجل الممض... و ما ان أدرک الامام الحسين (عليه‏السلام) ذلک و تفرس بوجه فراس و قرأ ما علي سحنته، و تبين معالم الضعف فيه، حتي أذن له فاتحا له باب الانسحاب علي مصراعيا، فانصرف منهزما تحت جنح ظلام الليل البهيم، بيد أن الليلة التي هرب فيها فراس لم تحدد، ولعلها احدي ليالي الأيام الأخيرة و ليست ليلة المعرکة. و علي کل حال، فان هذا الموقف هو أحد روائع مواقف الامام الحسين الرامية لتصفية عناصر الضعف في جبهة الجهاد ذي الأصالة الرسالية، و هو خطوة حسينية بناءة للحفاظ علي ذوي المنعة العقيدية و القوة و الذاتية، و الاکتفاء بذوي الدرجات التعبوية الخطيرة، و اقصاء من هم دون تلک الدرجات..

[2] الروايتان عن: کتاب ترجمة الامام الحسين (ع) من تاريخ دمشق لابن عساکر، حققه الشيخ محمدباقر الحمودي.