بازگشت

الامام يخطب مسرحا كل جنده


و في تلك الليلة، ليلة العاشر، أمسية التاسع من المحرم، سجل التاريخ حالة من أهم حالات المرابطة الذاتية، و كشفا من أهم الكشوف علي البواعث الذاتية السامية لأنصار الحقيقه..

فقد جمع الامام القائد كل شباب محمد صلي الل عليه و آله و سلم، و كافة المجاهدين البواسل ممن جاؤا لنصرته من المدينة و مكة و البصرة و الكوفة و غيرها، فصرح لهم بأنهم أهل بيت و أنصار لا مثيل لهم أبدا - و فعلا لم يسجل التاريخ نظيرا لهم، و سوف لن يسجل لهم شبها مهما امتد الزمن! - ثم أكد لهم أن العدو انما يستهدف شخصه هو، و يروم قتله هو بالذات.. و عليه، فهم في منجاة من الخطر و سلامة من القتل. ثم عمم أمره بالانسحاب للجميع، و رخص بنصراف الكل، لا سيما و قد غشيهم الليل، فلينطلقوا الي مأمنهم تحت جنح الظلام و في ستر ذلك الليل اذا كان ثمة من يستحي أن ينصرف علنا.

ولكن هل كان أولئك الأفذاذ علي صلة بالدنيا و ما فيها؟!! و هل هم علي نية تحقيق ذلك الفعل عمليا؟!! كلا و هيهات..

كيف يكون ذلك، و هم من هم ممن عرفنا عبر هذه الدراسة الطويلة لنياتهم و دوافعهم، و درجات ايمانهم، و تفانيهم في سبيل نصرة الحق؟!!

كيف يكون ذلك، و أسماعهم يطرقها صوت الامام القائد، حجة الله في أرضه و أمينه علي عباده، ينثال لسانه بحمدالله، و لا تفتر شفتاه عن تمجيد الله، و يفيض قلبه بتسبيحه و شكره علي نعمائه التي أفاضها علي محمد و آله صلوات الله عليهم، يقف بينهم في ذلك الجو المقيت المكفهر، مشدودا الي الله وحده، كأنه لا يعنيه من أمر الخطر المحدق به شي ء، أو كأنه لم يخلق الا لأداء رسالة


الشهادة في سبيل الحق - و هو كذلك - يقف وقفة عباد الله المخلصين من الأنبياء و المرسلين، ليقول لأصحابه في خطابه، كلمة التسريح و الترخيص و التحليل من البيعة امتحانا لتلك الصفوة من الخق التي ما سبقها سابق و لا يلحقها لاحق، يقول لها في موقف الامتحان العسير الذي لا يجتازه الا عباد الله المخلصون:

«أثني علي الله أحسن الثناء و أحمده علي السراء و الضراء. أللهم اني أحمدك علي أن أكرمتنا بالنبوة، و علمتنا القرآن، و فقهتنا في الدين، و جعلت لنا أسماعا و أبصارا و أفئدة، و لم تجعلنا من المشركين...

أما بعد:

فاني لا أعلم أصحابا أوفي و لا خيرا من أصحابي، و لا أهل بيت أبر و أوصل من أهل بيتي.. فجزاكم الله عني جميعا خيرا. ألا و اني أظن يوما من هولاء الأعداء غدا.. ألا و اني أذنت لكم، فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام.. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا..

و أضاف قوله: ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم و مدائنكم حتي يفرج الله. فان القوم انما يطلبوني، و لو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري..» [1] .

أجل، خطب الامام في أصحابه.. و استهدف كشف رجال جهاده، المقدس للأجيال، و اماطة اللثام عن أصالتهم العقيدية، و عمق ايمانهم، و مدي تصرمهم في ذات الله. ورمي الامام الي اظهار القوة الذاتية التي بعثت كلا منهم، و بيان عظمة المرابطة ليبين للأجيال حقيقة كونهم جاؤوا بدوافع محض ذاتية،


و ببراعث رسالة بحتة، فيبرز لأمة جده الأعظم (ص) كيف يكون الاخلاص الرسالي عبر مديد مستقبلها، و ليصور لها حوارييه من أهل البصائر، و ذوي الوفاء و الاخلاص لما يؤمنون به...

فقد ذكرهم بدنياهم، و بسلامة أجسادهم، و رغبهم بالسلامة من أجل كشف التفاني الاعجازي العظيم عند كل منهم، و من أجل أن يكونوا مثلا لفدائيي الاسلام، و نورا يستضاء به، لا لأجل اختبارهم كما كرر الكثيرون ممن طرقوا الموضوع و لو أن الاختبار كان يشكل سببا جزئيا. ذلك لأن الأناصر قد مرو بكثير من الاختبارات، و مروا بحالات جمة من الامتحانات التي سمت بهم الي أعلي مراتب القوة النضالية من أجل القضية الحسينية العادلة.

و لقد كرر الامام الحسين كثيرا: أنه يقتل مع أنصاره و أهل بيته.. كررها طوال الطريق أثناء المسيرة المجيدة. و كثيرا ما ردد: «لا مناص عن يوم خط بالقم. رضي الله رضانا أهل البيت.».. بل حين نزل بين النواويس و كربلاء قال: «ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فاني لا أري الموت الا سعادة و الحياة مع الظالمين الا برما..» فالاختبار سبب، ولكنه ليس كل أسباب الخطوة الحسينية تلك...

و هكذا تجلت صور عمالقة كربلاء في ظلام ليلة عاشوراء، حيث رفضوا الدنيا و أكدوا أنهم مرابطون ذاتيا و بايمانهم الخطير...


پاورقي

[1] تاريخ الطبري ج 4 ص 318 - 317 وابن الأثير ج 3 ص 285 وابن کثير ج 8 ص 176 وابن طاووس ص 35 و بحارالأنوار ج 44 ص 393 - 392 و أعيان الشيعة ج 4 ق 1 ص 208 مع اختلافات ملحوظة.