بازگشت

توطئة، الامام و جنده في كربلاء


تبين مما سبق كيفية السعي للنصرة الحسينية، و كيفية التجمع حول المثل الأعلي للحق ببواعث محض عقائدية ذاتية.. ففي القسمين الأول و الثاني ظهر ما فيه الكفاية عن حقيقة تسيير الأنصار بكيفية سامية القدر جليلة الرفعة عديمة النظير.. و قد بذلنا الجهد من أجل اماطة اللثام عما ذهبنا اليه من بحث و دراسة، و بينا أن ركب الثورة قد بلغ أرض الطف كربلاء علي الشكل الذاتي الرائع الذي كانت تبعث عليه قوة الايمان بالقضية وشدة الاخلاص الديني، ولكن ثمة حالات للثبات الذاتي وقعت هناك في الأيام الأخيرة و الساعات الأخيرة، و سنأتي علي ذكرها بعد هذه التوطئة التي سنعرض فيها الي ترغيب الامام سلام الله عليه، أصحابه بالجهاد: «ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا.».. فقبيل نزول الامام علي بطحاء كربلاء، و قبيل حط الرحال - و لا ندري الوقت و المكان بالضبط - جمع الامام أنصاره و رهطه من عترة سيد المرسلين شباب آل محمد، فنظر اليهم مليا ثم طفق يناجي الله و رمق السماء بطرفه قائلا:

«اللهم انا عترة نبيك محمد و قد أخرجنا و طردنا و ازعجنا عن حرم جدنا، و تعدت بنو أمية علينا. اللهم فخذلنا بحقنا و انصرنا علي القوم الظالمين!.» [1] .

فعدوان أهل الظلم علي أهل بيت الرسالة المحمدية متأت مما يمثله كل عضو فيهم و منهم، و كل نصير لهم، بحكم أحقيتهم بكل حق حقيق بهذا الاسم: (و الحق معكم و فيكم و منكم و اليكم..).. فأهل الظلم «يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله..» 54:4.


.. ثم ان الامام خطب خطبة و جيزة ذات معني عميق حينما قال مما قال: «الناس عبيد الدنيا، و الدين لعق علي ألسنتهم، يحوطونه ما درت عليهم معايشهم، فاذا محصوا بالبلاء، قل الديانون..» ثم حمد الله و أثني عليه.. و صلي علي النبي و آله و خطب قائلا:

«أما بعد: فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، و ان الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها: فلم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء، و خسيس عيش كالمرعي الوبيل. ألا ترون أن ألحق لا يعمل به، و أن الباطل لايتناهي عنه، ليرغب المومن في لقاء الله محقا.. فاني لا أري الموت الا سعادة و الحياة مع الظالمين الا برما..» [2] .

و يعد هذا الخطاب، أول خطاب ألقاه الامام في كربلاء، أو قربها، قبيل النزول...

أما رجاله - الان - فمن المؤمنين المخلصين البواسل، ليس فيهم مصلحي نفعي واحد قط. فنزول كربلاء كان ايذانا بالتخلص من جميع عشاق الدنيا. لذا، فان أسلوب الخطاب هذا، و ما سبقه من الكمات المذكورة وصيغها، جاءت تخاطب العقول و القلوب المؤمنة، متعاملة مع روح المعاني السامية التي يعشقها المؤمن - النصير الحسيني - و يضحي متفانيا في جنبها... فكلماته عليه السلام تهز القلوب، و ترن في الآذان: فنحن عترة نبيك - كما ناجي الرحمن - و الناس عبيد الدنيا.. و أن الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها. و أن الحق لا يعمل به و الباطل لا يتناهي عنه.. و ليرغب المؤمن الحقيقي في لقاء الله علي حقه، لا سيما و الامام القائد لا يري الموت الا سعادة و الحياة مع الظالمين الا برما...

تلك العبارات الصادقة التي خرجت من الصميم الحسيني، لتدخل قلوب


أنصاره الذين ما فتئوا معه منذ انطلقوا، أو التحقوا، أو انضموا.. كلمات دخلت قلوب الأنصار ذلك اليوم.. و تدخل قلوب أنصاره في كل عصر و مصر، الي اليوم، حيث يرددها أتباعه و أنصاره و شيعته و يتغنون بها و هم يستمدون منها القوة العارمة و العطاء السخي..

.. و نهض أنصاره بعد انهاء الامام خطبته، ليعقبوا.. و ليؤكدوا له ما هم عليه. و كان أولهم كلاما و أسبقهم قولا النصير المقدام زهير البجلي الذي حمد الله و أثني عليه ثم قال:

«قد سمعنا هداك الله يا ابن رسول الله مقالتك، و الله لو كانت الدنيا لنا باقية، و كنا فيها مخلدين، الا أن فراقها في نصرك و مواساتك، لآثرنا النهوض معك علي الاقامة فيها..» فدعا له الامام و جزاه خيرا، ثم عقب بعد ذلك الخطاب مجاهد آخر، قام برير بن خضير الهمداني فقال:

«والله يا ابن رسول الله، لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك و تقطع فيك أعضاؤنا. ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.» [3] .

فكل من زهير البجلي و برير الهمداني علي أتم الاستعداد للفداء و أكمله من أجل الحسين و رسالة الحسين والله غالب علي أمره...

ثم عقب النصير البطل نافع بن هلال الجملي بقوله المطول نسبيا:

«يا ابن رسول الله، انت تعلم أن جدك رسول الله لم يقدر أن يشرب الناس محبته، و لا يرجعوا الي أمره ما أحب. و قد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر، و يضمرون له الغدر يلقونه بأحلي من العسل، و يخلفونه بأمر من الحنظل، حتي قبضه الله اليه. و ان أباك عليا رحمة الله عليه قد كان في مثل ذلك.. الا قوم قد أجمعوا علي نصره و قاتلوا معه الناكثين و القاسطين و المارقين حتي أتاه أجله، فمضي الي رحمة الله و رضوانه. و أنت اليوم عندنا في مثل تلك


الحالة، فمن نكث عهده، و خلع بيعته فلن يضر الا نفسه والله مغن عنه [4] . فسر بنا راشدا معافي، مشرقا شئت أو مغربا، فوالله ما أشفقنا من قدر الله، و لا كرهنا لقاء ربنا و انا علي نياتنا و بصائرنا، نوالي من والاك و نعادي من عاداك.» [5] .

و هكذا.. فتلك نماذج رفيعة عظيمة من منطق رجال الركب الحسيني و انها لمجرد نماذج اذ لم نحظ بنصوص كلمات باقي عمالقة كربلاء الا أن لمحة تقول: «و تكلم أكثر أصحاب الامام بمثل هذا الكلام، و قد شكرهم الامام علي هذا الاخلاص و التفاني في سبيل الله.» [6] .

ثم تحرك موكب المجاهدين الثابتين حتي بلغوا الساحة الموعودة والميدان المعلوم في السماء كما صار معلوما في الأرض.. انه المكان المكنون في ضمير الغيب.. هو كربلاء التحرير، كربلاء البطولة، كربلاء الاباء و النبل و العظمة.. فقال الامام (ع) ما سبق أن أوردناه: «.. ها نا محط رحالنا.. و مقتل رجالنا.. ها هنا...، أجل هناك سترتفع منائر عمالقة التحرير.. هناك مثوي شوامخ الحرية.. هناك مراقد الذين جسدوا المثل، و كتبوا الاسلام بمداد دمائهم..

فكل من حط الرحال في كربلاء كان مرابطا لله، صابرا محتسبا، ممن أخلص و وفي بعهده، فضلا عمن التحق بالجبهة الحسينية خلال الأيام الأخيرة في أعقاب أحلك الظروف و أخطرها و أقساها ممن سنذكرهم بعد قليل...



پاورقي

[1] بحارالأنوار ج 44 ص 383 و يذکر العلامة (ره) أن هذا جري قبيل نزول کربلاء بيوم.

[2] تاريخ الطبري ج 4 ص 305 و عن أبي جعفر الطبري: فأن ذلک حدث بمنطقة ذي حسم. وانظر ذخائر العقبي لمحب الدين الطبري ص 150 - 149 و اللهوف لابن طاووس ص 30 بتفاوت لفظي في النص.

[3] الطبري ج 4 ص 305 و بحارالأنوار ج 4 ص 381 و ص 31 من اللهوف.

[4] لاحظ هذه العبارة و کلمة الرسول الأعظم (ص) التي سبق ذکرها بهامش سابق.

[5] بحارالأنوار ج 44 ص 383 - 382.

[6] حياة الامام الحسين ج 3 ص 100.