بازگشت

مضايقة الركب الحسيني


بلغ السير منطقة شاطي ء الفرات، أو أرض الغاضريت، تلك البقعة المباركة والموقع الموعود: كربلاء المقدسة..

.. و بينما كان الجيش بقيادة الرياحي يساير الركب الثائر، و اذا بفارس مقبل يحث خطي فرسه، فاتجه نحو الرياحي و سلمه كتابا من ابن زياد ابن أبيه، يأمره فيه أن يضايق الركب و يزعج المسيرة، حتي تحط الرحل بأرض قاحلة تخلو من الماء! و أشار اليه بأن حامل الرسالة يراقب أعماله و تنفيذ الأوامر [1] ..

فاضطر الحر الي مضايقة الركب و تقدم ليصارح الامام الحسين عليه السلام، بأنه مأمور و مراقب فلا بد من الوقوف...

و بادر النصير الحسيني: (أبو الشعثاء الكندي) لمكالمة حامل الرسالة، اذ يبدو أنه قد عرفه، لذا صاح متسائلا: أمالك بن النسير البدي؟!. أجابه: نعم. و كان من كنده أيضا. فقال النصير له: ماذا جئت فيه؟!. أجابه ابن النسير:


«و ما جئت فيه! أطعت امامي و وفيت بيعتي.» فوبخه أبو الشعثاء و أفحمه بقوله: «عصيت ربك و اطعت امامك في هلاك نفسك، كسبت العار و النار. قال الله عزوجل: «و جعلنا منهم أئمة يدعون الي النار، و يوم القيامة لا ينظرون [2] «فهو امامك [3] ...» ثم أخذ أفراد هذا الجيش - و هم ألف مسلح - يحيطون بالمسيرة و يتحامونها ليضايقوا الامام و رهطه و صحبه.. فما كان من أحد الأنصار، و هو (زهير بن القين البجلي) الا أن دنا من الامام و كلمه مقترحا: «يا ابن رسول الله، ان قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم. فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به [4]

لكن الموقف الشرعي المحض يتجنب البدء بالحرب، حسب أوامر الله. لذا أجاب الامام نصيره البجلي بمنطق الرسالة: «ما كنت لأبدأهم بقتال.».. فأضاف زهير قوله: «سر بنا الي هذه القرية حتي ننزلها فانها حصينة، و هي علي شاطي ء الفرات، فان منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجي ء من بعدهم [5] . «

فلاحظ مدي الاستعداد العظيم عند زهير لقتال ألف مسلح، و رجال الركب يعدون بالعشرات، فلا تكافؤ بين قوي الطرفين.. و لا حظ بالغ اقدامه و قوة يقينه بعدالة القضايا الحسينية، لا سيما و هو نصير قد انضم للثورة من عهد قريب قبيل ليال و أيام من زمن هذا الموقف!!! فلم يكن بمجيئه منقادا، و لم ينضم علي مضض، بل بقناعة عالية و يقين كبير، فالحسينية أخذت عليه لب و شغاف قلبه،


فعاوده الايمان الكامل و تمام الهدي الذي تحكم بعقله و تفكيره الثوري!.

.. ثم خطت المسيرة خطوات و خطوات، حتي وقف الامام القائد: سبط النبي (ص) و عملاق السماء.. وقف و كأن موقفه بمقتضي ارادة الله.. أجل وقف عملاق المبادي ء الاسلامية الخطيرة، و حامل لهيب الفكر المتمرد علي الكفر و النحراف و الفساد بشتي صوره... وقف و من حوله خلاصة الرجال من صفوة سيدالمرسلين و عصبة مومني المسلمين المجاهدين، فأمرهم بالنزول قائلا برباطة جأوش و حزم: «... انزلوا ها هنا... ها هنا مناخ ركابنا، و محط رجالنا و مقتل رجالنا، و مسفك دمائنا!.» بهذا حدثني جدي رسول الله صلي الله عليه و آله.. فنزلوا [6] .

.. نزلوا و نصبوا الخيام، واتخذوا مواقعهم، و رابطوا هناك علي اسم الله و علي بركات الرحمان.. في المكان الذي حددته الارادة الالهية و ظللته السماء بسقفها المرفوع، لينتصب فيه بيت من بيوت الله الشامخات، و ليرتفع حرم آمن لصاحب مجد خالد في المكرمات: «في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه..» 36:24.

4 - بين النواويس و كربلا:

و أخيرا استقر الركب علي أرض كربلاء بعد جهد وعناء، و بعد تصفية و تمحيص و امتحان عسير خضع له الجميع بلا مناص منه و لا محيص عنه، فكان وصوله مع رجال يعدون بالعشرات، مع أن المسيرة بدأت بمكة بمئات الرجال بينهم من ليسوا برجال بل هم: «اشباه الرجال و لا رجال، حلوم الأطفال و عقول ربات الحجال!.»

أما الرجال الحقيقيون فهم الذين نجحوا في جميع مراحل الامتحان،


وانتصروا في كل حالات الاختبار، واجتازوا أشد العقبات و أقسي العوائق، و سحقوا أي اعتبار للمخاوف و الأخطار، فكانوا الصفوة المؤمنة المجاهدة، التي سعت لتقدم درسا للأجيال عن كيفية الاسهام في الجهاد بأخلص النوايا و أتقاها و أكملها و أجداها..

فأولئك الذين واصلوا، كانوا بمعزل عن فرض الرقابة عليهم، أو الالزام لهم أو التشدد لاقناعهم بالانتماء لحسينية الناهضة. فلم يكن عليهم حسيب يمنعهم ان أرادوا الانسلال و الانسحاب و التراجع. و لو أرادوه لتمكنوا منه دونما رقيب يراهم أو يرونه في دجنة الليل و أثناء المسيرة في الطريق. بل لو أرادوا التراجع لما منعهم رقيب لو كان فيهم من رقيب، و لخرقوا طوق الرقابة المفروضة عليهم لو كان في نفوسهم أدني ميل لذلك كالذين تسللوا لواذا.

نعم، كانت هناك رقابة، ولكنها من أي نوع كانت تلك الرقابة؟. و ما كنهها؟ انها الرقابة الكامنة في الداخل، تدفع بصاحبها وحدها.. و لوحده - لتحقيق الهدف.. الرقابة المقدسة الجليلة السمو و السمات... انها رقابة الله و مبادي ء الاسلام و أهداف الحسين الفاعلة مع الذات.. انها الرقابة الذاتية المحضة.. و لعمري انها الأمينة علي الشخصية و الكفيلة - أخيرا - باحراز القوة العنيدة و الفوز الكبير..

و قد ينخذل بعض الرجال و يجبن كلما تهرب و انسحب من جنبه جماعات أو أفراد، لكن أنصار الحسين لم يكونوا علي تلك الحال من المعنوية الخائرة و النفسية المشلولة المنخذلة. بل علي العكس كانوا علي تزايد في المعنوية و الطاقة الروحية المطردة، لا يخيفهم قلتهم، ان لم يسعدهم التفرد وحدهم بتحقيق الهدف بعد التخلص من العناصر السلبية و الانتهازية. فهم علي قناعة تامة من صالح تزاجع هذا أو ذاك، و لذلك يدعونه و يتركونه: «دعوه، ان يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، و ان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»!.


و فعلا، كانوا بعين الله، و بين يديه!. لأنهم خرجوا في سبيله، و علي ملة رسوله (ص) و تحت راية حجته و وليه، فلم يهملهم الله «فلم يتركم أعمالكم» و لا بد من تنزيههم، و تنزيه نتائج ما يقدمونه.. و لن يذر الله من أخلص له النية بتقديم نفسه قربانا، و: «ما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب!.» 179:3.



پاورقي

[1] الطبري ج 4 ص 309 و ابن الاثير. و هذا نص الرسالة: «أما بعد، فجعجع بالحسين حيث يبلغک کتابي، و يقدم عليک رسولي. فلا تنزله الا بالعراء في غير حصن و علي غير ماء. و قد أمرت رسولي أن يلزمک و لا يفارقک حتي يأتيني بانفاذک أمري، و السلام»...

[2] اقتباس قرآني من سورة القصص آية 41.

[3] الطبري ج 4 ص 309 و بحارالأنوار ج 44 ص 380 و قد اختلف بشأن المجاهد العقائدي - أبو الشعثاء الکندي - هل لحق بالامام من الکوفة أثناء الطريق، أو من الکوفة الي کربلاء؟ و سنشير الي ذلک بمکانه في القسم الثالث...

[4] الطبري، و الدنيوري بلفظ آخر ص 263.

[5] تاريخ الطبري ج 4 ص 309.

[6] اللهوف لابن طاووس ص 31.