بازگشت

دعوة ابن الحجفي


ثم وصلت المسيرة الي (قصر بني مقاتل) و هو خان الأخيضر حاليا، حيث كان هناك فسطاط مضروب «و أمامه رمح قد غرس في الأرض، يدل علي بسالة صاحبه و شجاعته و قباله فرس» لقد كان صاحبه من شجعان الكوفة، له شخصية معروفة، و هو (عبدالله بن الحر الجحفي). و كان ممن انحرفوا عن الخط المستقيم، تاركا الامام عليا أميرالمومنين. ولكنه رغم مواقفه السلبية فقد لجأ للامام مرة طلبا للعدالة وحلا لأزمة اجتماعية. فأخرجه من مأزق حرج خطير [1] .. فهو عند طلب الحق و التماس العدالة في الأحكام يرجع الي المصدر الاكبر، شأنه شأن كثير ممن شهدهم التاريخ و عهدهم علي غير الخط السوي. فقد خرج هذا من الكوفة تهربا من نصرة الامام الحسين (ع) لأن نصرته لا تجدي منفعة دنيوية!..

أرسل خلفه الامام أحد أنصاره الحجاج بن مسروق الجعفي فدخل عليه بفسطاطه مبشرا له: «قد أهدي الله اليك كرامة.» فسأل عنها، فأجابه الحجاج: «هذا الحسين بن علي يدعوك الي نصرته، فان قاتلت بين يديه أجرت، و ان مت فقد استشهدت..» فقال الجحفي بصراحة: «ما خرجت من الكوفة الا مخافة أن يدخلها الحسين و أنا فيها، فلا أنصره..» لأن سكان الكوفة


كلهم قد انخذلوا و خانوا عهودهم، عدا الشيعة الحقيقيين، ممن سجنوا، و ممن اختفوا، و ممن التحقوا في الطريق..

و لم يكن الامام بحاجة لنصرة رجل واحد أو لضم أي عدد. اذ ما قيمة ما يفعله الواحد أو الآحاد؟! و انما الامام يتابع الدعوة للذين يراهم أثناء الطريق فمن أجل الهداية و القاء الحجة. فلما رجع ابن مسروق و ذكر امتناع ابن الحر الجحفي، قام الامام بنفسه ليدعوه، مبالغة في تأدية مسوولية التبليغ لعظيم الأمر و خطر الدعوة و دخل عليه فدهش الرجل و أخذته الهيبة الحسينية «ما رأيت قط أحسن من الحسين، و لا أملا للعين... الي آخر كلامه هو...» و تعاطي الامام معه الشؤون السياسة العامة، و الأوضاع الراهنة، ثم دعاه الي نصرته، و ننقل نهاية قول الامام عليه السلام حيث ختمه بقوله:

«... يا ابن الحر، فاعلم أن الله عز وجل مؤاخذك بما كسبت و أسلفت من الذنوب في الأيام الخالية. و أنا أدعوك في وقتي هذا، الي توبة تغسل بها ما عليك من ذنوب... أدعوك الي نصرتنا أهل البيت. [2]

فابن الحر يعلم أن نصرتهم هي السعادة الأبدية لكنه يخشي القتل، و نفسه لا تسخو بالموت، و لذلك قال: «والله اني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة، و لكن ما عسي أن أغني عنك، و لم أخلف لك بالكوفة ناصرا، فأنشدك بالله أن تحملني علي هذه الخطة، فان نفسي لم تسمح. بعد بالموت، ولكن فرسي هه (الملحقة) والله ما طلبت عليا شيئا قط الا لحقته، و لا طلبني أحد و أنا عليها الا سبقته فخذها فهي لك. [3]

انه ينصر الحسين اذا كان له أنصار، و ينصره حيث كان له أمل بالقبض علي زمام الأمور في الدنيا و مصالح ما بعد النصر الملموسة... فمثل هذا الرجل


غير مرغوب فيه قطعا، حيث عرف الامام نفسيته و نيته، لا سيما و قد سمع اقتراحه باعطائه فرسه الجيدة. فسخر الامام منه و من هذا العرض الرخيص، فلا حاجة له به ولا بفرسه ان كان بذلك المستوي الضحل، فقال له: «لا حاجة لنا فيك و لا في فرسك، ثم تلا قوله تعالي «و ما كنت متخذ المضلين عضدا [4] . «

و من باب اللطف الحسيني حصل الجعفي علي توجيه و ارشاد، لئلا يهلك بجحيم جهنم، لو حضر الواقعة متفرجا، لا ينصره، أو سامعا لصراخ المجاهدين دون الحق: «فوالله لا يسمع و اعيتنا أحد ثم لا ينصرنا الا هلك.»

فقد قال له عليه السلام: «... و اني أنصحك: ان استطعت أن لا تسمع صراخنا و لا تشهد واقعتنا فافعل، فوالله لا يسمع و اعيتنا أحد و لا ينصرنا الا أكبه الله في نار جهنم!» فأطرق الحر برأسه الي الأرض و قال بصوت خافت حياء من الامام: «أما هذا فلا يكون أبدا ان شاء الله تعالي.»

بعدها ندم عبدالله بن الحر الجعفي ندما عظيما علي ما كسبته يداه، حتي صرح بذلك من قريحته و من صيم فؤاده و أعماقه، فعبر عن أن قلبه يكاد يتفطر أو ينفلق من شدة الندم الممض، و من وطأة الحسرات و ثقل الآهات و حرارة الزفرات... و قد رثي الامام و أنصاره بأبيات موثرة حينما زارهم بعيد الثورة مباشرة و ضمن أبياته عبارات آلامه المعربة عن ندمه و شعوره بآثامه [5] .





پاورقي

[1] راجع: مقتل الحسين لسيد المقرم هامش ص 202 - 201

و المأزق الحرج الخطير هو أن زوجته قد زوجها أخوها و هي في عصمته و دون علمه.

[2] الفتوح لابن اعثم ج 5 ص 131.

[3] الطوال للدينوري ص 263 -262.

[4] الوثائق الرسمية ص 92.

[5] قال مثلا:



فيا لک حسرة ما دمت حيا

تردد بين حلقي و التراقي‏



حين حين نطلب بذل نصري

علي أهل الضلالة و النفاق‏



غداة يقول لي بالقصر قولا

أتترکنا و تزمع بالفراق‏



ولو أني أواسيه بنفسي

لنلت کرامة يوم التلاقي‏



مع ابن المصطفي روحي فداه

تولي ثم ودع بانطلاق‏



فلو فلق التلهف قلب حي

لهم اليوم قلبي بانفلاق‏



لقد فاز الأولي نصروا حسينا

و خاب الآخرون ذوو النفاق‏



کما عبر حزنه البالغ علي الامام سيد الشهداء، و نفس عن کمده و کبته بقوله:



يبيت النشاوي من أمية نوما

و بالطف قتلي لا ينام حميمها



و أضحت قناة الدين في کف ظالم

اذا اعوج منها جانب لا يقيمها



فأقسمت لا تنفک نفسي حزينة

و عيني تبکي لا يجف سجومها



حياتي أو تلقي أمية خزية

يذل بها حتي الممات قدومها



و حينما أرسل عليه ابن زياد و أبلغته الشرطة بطلبه أجابهم قائلا:

«أبلغوه عني أني لا آتيه طائعا أبدا.» ثم اجتمع حوله زجاله فتحرک بهم نحو کربلاء فألقي نظرات علي بطحاء الطف، حيث رقد ريحانة الحبيب محمد (ص) و صفوة أهل البيت و أعاظم الرجال الأنصار، فقال هذه الأبيات التالية حيث ما برح الندم يلازمه أبدا:



يقول أمير غادر و ابن غادر

ألا کنت قاتلت الحسين بن فاطمة



فيا ندمي أن لا أکون نصرته

ألا کل نفسي لا تسدد نادمه‏



و اني لأني لم أکن من حماته

لذو حسرة ما ان تفارق لازمه‏



سقي الله أروح الذين تأزروا

علي نصره سقيا من الغيث دائمه‏



وقفت علي أجداثهم و محالهم

فکاد الحشا ينقض و العين ساجمه‏



لعمري لقد کانوا مصاليت في الوغي

سراعا الي الهيجا حماة ضراغمه‏



فان يقتلوهم کل نفس تقية

علي الأرض قد أضحت لذلک واجمه‏



و ما ان رأي الراؤون أفضل منهم

لدي الموت سادات و زهر قماقمة (قماقمه: مفردها قمقام. معناه: السيد الذي يجود بکثير العطاء..)



أتقتلهم ظلما و ترجو ودادنا

فدع خطة ليست لنا بملائمه‏



لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم

فکم ناقم منا عليکم و ناقمه‏



أهم مرارا أن أسير بجحفل

الي فئة زاغت عن الحق ظالمه‏



فکفوا و الا ذدتکم في کتائب

أشد عليکم من زحوف الديالمة (الديالمه: نسبة لأهل الديلم...).