بازگشت

الامام يدعوا الجيش و يخطبه محتجا


و لم يفوت الحسين تلك الفرصة، فخطب القوم مرة ثانية كما ألمحنا. و لما ولوا منطقة (البيضة) خطب ثالثا، من أجل هدايتهم أو جعلهم علي بينه من الحكم الفاسد، ان لم ينضم اليه أحد، فكان لتلك الخطب الثلاث تأثير ما، ظهر - بعد أيام - في كربلاء، حيث تخلي عدد من أفراد الجيش الأموي الكبير الذي رابط هناك - و بضمنه جيش الرياحي - فمال بعضهم الي جهة الثوار الحسينيين، بل لقد مثل الحر الرياحي نفسه بين يدي الامام، مندفعا كغيره ببواعث ذاتية بحتة، و سنأتي علي ذكر الجميع في القسم الثالث..

أما خطبة الحسين الداعية، في منطقة البيضة. فهي بعد أن حمد الله و أثني عليه قال مبلغا صادعا:

«أيها الناس، ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: من رأي سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد


الله بالاثم و العدوان، فلم يغير عليه بفعل و لا قول، كان حقا علي الله أن يدخله مدخله [1] ... ألا و ان هولاء قد لزموا طاعة الشيطان، و تركوا طاعة الرحمان، و أظهروا الفساد و عطلوا الحدود، و استأثروا بالفي ء و أحلوا حرام الله، و حرموا حلاله، و أنا أحق ممن غير. و قد أتتني كتبكم، و قدمت علي رسلكم ببيعتكم، أنكم لاتسلموني و لا تخذلوني، فان تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم. فأنا الحسين بن علي و ابن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم... نفسي مع أنفسكم، و أهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة. و ان لم تفعلوا، و نقضتم عهدكم، و خلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي و أخي، وابن عمي مسلم، و المغرور من اغتربكم. فحظكم أخطأتم، و نصبكم ضيعتم، و من نكث فانما ينكث علي نفسه، و سيغني الله عنكم والسلام [2] ...

انه احتجاج موضوعي و دعوة هادئة، لا اكراه فيها و لا اغراء يعتريها.. لكنهم لا يفقهون الا قليلا.. فقد سمع الجميع، و أشفق الرياحي بقوله البري ء: «اني أذكرك الله في نفسك، فاني أشهد لئن قاتلت لتقتلن.» أي ان قاتلت فيما بعد، لا يقصد مقاتلة جيشة، اذ لم يكن الحر مستعدا لقتال الامام أبدا.. و سخر الامام من التهديد بالقتل، فالقتل في سبيل الله ليس بعار علي فتيان مجد الاسلام حسب أبيات (أخي الأوس) فمضي الامام و صحبه و الكل يسمع نشيده العزيز:



سأمضي و ما بالموت عار علي الفتي

اذا ما نوي حقا و جاهد مسلما



و آسي الرجال الصالحين بنفسه

و فارق مثبورا و ودع مجرما



أقدم نفسي، لا أريد بقاءها

لتلقي خميسا في الوغي و عرمرما






فان عشت لم أندم و ان مت لم ألم

كفي بك ذلا أن تعيش و ترغما



فذعر الحر و اهتز، ثم تنحي عن المسار. و ظل يماشي الركب عن بعد..

و هكذا ننتهي من تناول معالم مواقف الخطر، و حالاته التي كانت وثيقة الصلة بنفوس السائرين فأبلغت في التأثير بهم، و كانت مرتبطة شدة بتقصي البحث لكيفية مجي ء الأنصار، أو التحرك الذاتي بشانهم.. و لقد تحتاج معالم الخطر الي وقفة مهمة، لا يسع أن نقفها هنا فالي بحث حول الامام الحسين بالذات ان شاء الله...

بيد أن عرض هذه المعالم يكفي - لحد هنا - تبيانا لمئات البشر ممن فروا هربا و تراجعوا لواذا، لا يلوون علي شي ء و لم يبق منهم الا قليل جدا سوف يتقهقرون كذلك..

و يكفي تبيانا لعشرات الرجال من أهل البصائر و ذوي اليقين والتقي، الذين صمدوا و صبروا رغم الخطر بكل معالمه، و رغم هرب من هرب ممن شكلوا بمجرد هربهم مخاطر أخري متتابعة.. لكن المخلصين كانوا لا يبالون بمن هرب حتي ولو كانوا بعشرات الآلاف، لأنهم كانوا يستمدون القناعات من الحسين المعظم و القرآن المكرم: لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا.» 47:9.



پاورقي

[1] هذا الحديث لجده الأعظم، و لا مجال فيه لاجتهاد و تلاعب أو تبرير فمن أنکر بقلبه کان «ذلک أضعف الايمان».

[2] تاريخ الطبري، ج 4 ص 304 و 305، وابن الأثير، ج 3 ص 281.