بازگشت

فئة المعذورين و فئة اللا معذورين


نبتدي ء بمن لا حرج عليهم و لا جناح، نظرا للمعاذير التي اضطرتهم، و هم القسم الأول حسب التفصيل التالي:

القسم الأول: يتمثل بعدد من جماعة المشفقين، و هم:

أ - محمدبن الحنفية: و قد ذكر بأنه كان مصابا بمرض في كفيه يمنعه فيحول دون تمكنه من ممارسة مستلزمات الجهاد. و لهذا السر جعل الامام الحسين، محمدا، عينا له علي عدوه في المدينة، وسلمه وصيته المذكورة قبل صفحات..:

و قد حز بنفس محمد عدم تمكنه حتي من مرافقة الركب من المدينة الي مكة، لكنه أجبر نفسه علي الوصول اليها فدخلها في ساعات متأخرة حيث كاد الركب


أن ينطلق منها مغادرا فالتقي للمرة الأخيرة بأخيه الامام، و قد ذكرنا أنه ممن اقترحوا الجهاد في غير العراق، فهو من المشفقين.

و عندما رجع لم يكن علي ضعف، أو جبن، اذ أنه هو الذي شهد مع من شهد لهم التاريخ بشدة الباس و قوة الجنان، و هو ابن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) و اخو الحسن و الحسين، و قد أسهم بحروب و معارك تحت راية أبيه، حتي كان الامام علي يقذف به في لهوات الحرب [1] بحيث تقدم له مرة أحد المغرضين فسأله عن سبب دفع أبيه له في سوح مرارة الجهاد دون الحسن أو الحسين، و أراد السائل أن يستفزه ليكره أخويه كما توقع بغشم.. لكن محمدا أجابه بما خيب أمله، و الرواية معروفة، اذ قال ما معناه: انني يد أبي و الحسنان عينا أبي فهو يدفع عن عينيه بيده.

ب - عبدالله بن جعفر بن أبي طالب: و قد كان يومذاك فاقد البصر، فحر بنفسه التخلف عن سبط الرسول، مما دعاه للتضحية بأعز ما لديه، بفلذة كبده، حيث أرسل وليده محمدا و عونا لنصره الحسين، نظرا لاستحالتها عليه


شخصيا.. و كان محمد وعون قد اغتنماها فرصة، لا سعادة من دونها...

ج - جابر بن عبدالله الأنصاري: و هو ذلك الصحابي المخلص الذي كان مسنا كما كان فاقدا للبصر أيضا. و هو من أوائل من زار مواقع صرعي المجد و المبادي ء بكربلاء عقب الاستشهاد بأربعين يوما تقريبا، و كان يقوده في زيارته لسيد الشهداء مولي كان له..

القسم الثاني: و لما كان من ذكرناهم آنفا معذورين لا جناح عليهم، سيما و هم من جماعة المشفقين، فنحن نجد أن بين نفس الجماعة أفرادا لم نطلع لهم علي عذر، و هم.

1- (حبر الأمة) عبد الله بن عباس: الذي كان مؤمنا دونما ريب بمسعي الامام. و مأثور التاريخ منه يأيد ذلك، أما لماذا قعد؟؟ و هل ثمة ما منعه؟؟ و ماذا عن محتملات موقفه؟؟؟ كل ذلك مما لا يمكن البت فيه لفقدان أبسط و ماذا عن محتملات موقفه؟؟؟ كل ذلك مما لا يمكن البت فيه لفقدان أبسط اللمسات و المقدمات التي قد يقوم عليها استنتاج واضح. أما ما نسب لابن عباس من قول و هو: «استشارني الحسين في الخروج. فقلت: «لولا أن يزري بي و بك لنشبت يدي في رأسك». [2] .

فهو قول يحتاج الي وقفه و تأمل فالامام الحسين لم يكن متحيرا أو غير مستقر علي رأي حتي يستشير.. انه علي بينه من أمر ربه و واقع أمته، و ما تحتاجه و ما ينبغي فعله. فكلمة «استشارني» غير مناسبة حتي لسياق الرواية و طبيعة جواب ابن عباس (لاحظ جوابه لتري عدم تجانسه مع طبيعة الاستشارة).

فالامام الحسين صلوات الله عليه كان عازما مصمما علي أمر كان مفعولا، و لهذا رد علي ابن عباس بالقول: «لأن أقتل بمكانه كذا و كذا، أحب الي من أن أستحل حرمتها - يعني مكمة - فقال ابن عباس: «و كان ذلك الذي سلي نفسي عنه [3] ...


فهذا العزم لايحتاج صاحبه الي مشير، و لا معني للمشورة و لربما طرح الامام سؤالا علي ابن عباس و افتتح معه حديثا، فجاء ابن عباس فيما بعد لينعته بالاستشارة، و لعل الكلمة زائدة أو مضافة. ذلك لأنها مع منافاتها لمقام الامام و عزمه في ذلك الظرف فهي شاذة لا تتفق و طبيعة الطرح و سياق الرواية و ختام الرواية بقول ابن عباس: «و كان ذلك الذي سلي نفسي عنه» أي حتمية المآل و المصير بما لا مفر منه، لايعطي مبررا موضوعيا لبقاء ابن عباس أو تخلفه؛ لأن تأكده من حتمية مقتل الامام لا يشكل مسوغا لاهماله واجبا شرعيا و فريضة كبري، و لا يدعو لراحة الضمير و تسليه النفس؟!..

و بتقدير كون ابن عباس أعمي فاقدا للبصر يومذاك فان التكليف ساقط عنه قطعا و نحن لنعرف الا أنه قد توفي و هو أعمي، ولكنه لي كان أعمي أيام ثورة الامام؟ ام عمي بصره بعدها؟!. لا نعلم ذلك ولكننا نتعجب من زوال لهم عن كاهل ابن عباس من وجهة و من رأيه: بأن قتل الحسين خارج مكة لابأس به من جهة ثانية، فتأمل..

2 - المسور بن مخرمة: و هو من المشفقين. لم نجد بشأنه شيئا، و أمره الي ربه..

3- ابوبكر المخزومي. 4- عبدالله بن جعده: تري هل كانا كبيرين في السن، و في عجز يحول دون نهوضهما؟؟ ام ثمة مبرر آخر؟؟؟ ام ماذا؟؟؟

أما نحن فنقول: ان كل من تخلف بلا عذر يعد في تقصير جسيم- و لو كان مشفقا -.

القسم الثالث: و هم المعارضون جميعا، كأبي واقد الليثي، و أبي سلمة بن عبد الرحمن، و ابن عمر... الخ، و قد تعرضنا لهم بشي ء من الاطالة، بسبب كونهم من البارزين، و ممن يدعون المعرفة و المسؤولية، ثم لصلة القضية بالموضوع المبتني للبيان عن التحرك الذاتي لأنصار الامام، و القعود و التخلف من قبل الآخرين. لا تجد مهما تبحث أي مسوغ أو عذر لموقفهم التخلفي، و لا أي مبرر


رسالي، او مقدمات مشروعة تسعف في التخريج الشرعي لهم، و الحق انك لتعجز عن تقديم علل لموقف المعارضة بالذات، الموسومة ظاهرا بالنصحية و نحن انما أسمينا الحالة «معارضة» لا «نصيحة» بناء علي ماهية النصيحة، و حصيلتها، مشفوعة بتخلفهم الي الأبد، في حين أن الناصح، يقترح ثم لا ينفك عن الواجب لا سيما ورائده ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.

فبعجزهم عن تفسير معني المعارضة و مبرر التخلف، نكون قد انتهينا للحكم علي انحراف واقعي و تفكير مفاهيمي حاصل عند المعارضين.

و قبل الاكتفاء بذلك، نطلع علي رأي رخيص سجله بعض من كتب من المسلمين اذ عجزوا عن تفسير ما اتخذه المعارضون و لم يحظوا بتخريج شرعي لموقفهم، فأدي بهم الامر الي اللجوء للتلاعب بالمصطلحات و معانيها فقالوا - زعما -: انهم تخلفوا اجتهادا منهم!! فبرروا تخلفهم بأنه من باب الاجتهاد!!! و قد يطول بنا المقام معهم ولكن قد نفي بالغرض حين نكتفي بما يلي:

أولا: لا توجد نصوص في شريعة الاسلام، بمثابة مقدمات استند عليا و اعتد بها أي من المعارضين في رأيه و في قعوده، و لما لم تسعفه الشريعة، فكذلك لم تنهض بمدعي المتذرع بالاجتهاد، و هل قوام الاجتهاد غيرالنصوص الشرعية؟؟ و اذن فالمعارض ليس مجتهدا، بل طرح رأيا شخصيا، و هوي نفسيا، و بنفس الوقت نجد الزاعم بالاجتهاد قد وقع أسير الرأي الاعتباطي و الهوي...

ثانيا: كانت مجمل الآراء - السطحية الشخصية - متفقة علي عدة أمور و هي:

1- انتفاء الحاجة للجهاد: فمن أين استنبط هذا الراي أو الحكم لو نعت بالاجتهاد؟

2- التنازل ليزيد و مبايعته: و هذا يلفت النظر الي انه ليس في الاسلام - كمبادي ء - أدني تسامح فيه، فابن الاجتهاد؟.


3 - انهم ركنوا الي الأرض فثبطت عزئمهم.. في حين أن المجتهد اما أن يري في خصوص الجهاد رأيا، فيختبر صحته بطرحه، لا أن يطرحه بصفة النفاذ و عدم التخطئة، بناء علي أن الاجتهاد يحتمل الصواب و الخطأ فلو كان خاطئا لزمه الانخراط فلا يتخلف، كذلك بشأن قضية البيعة ليزيد، و كذلك بشأن التخلف حيث لو اجتهد بأنه غير مقيد بمساهمته أو أنه غير محب للحرب، لزمه الاقرار بحاجة الجهاد و الكفر بالبيعة المذكورة لكنهم انكشفوا علي حقيقتهم، و ذلك أن آراءهم كلها أفادت أنهم علي تجاهل بالواقع، و في اندفاع جلي بأنهم قدموا المبرر علي القعود أولا و الخضوع فيما بعد ليزيد ثانيا... و هذا لعمرك ليس اجتهادا بل هوي قوامه نية سابقة مدعومة بالاصرار علي الرأي حتي لو كان خاطئا، بل حتي لو كان لا مشروعا.

4 - بتقدير كونهم، بمستوي الاجتهاد فبصوابهم قد أخطأوا الامام في وقت وقوف الحقائق ضد ذلك.. أما أنهم اخطأوا فلهم «أجر واحد» كما ذهب بعض من كتب، فهذا زعم يأتي به في وقت فيه المفاهيم قد شوهت، لأنه عين التكلف و فرض الرأي، بلا اجتهاد و لا ورع، و هو لا ينهض بحجة أو يسعف في موقف منحرف. فقد يصح الأحر الواحد لمن اجتهد فأخطأ و أقر بخطئه أولا، أو لم يعلم به، بمعني أنه غير متعمد و لا مصر ثانيا، و أنه يبقي فلا ينشق بتأخره بعد تخطئة رأيه أو اجتهاده ثالثا او يتوب فينيب و يلحق فلا يتأخر رابعا... كل ذلك علي أساس أن الاجتهاد وفق ما أراد الله او بأحكامه أو بما هو منه و لو و علي سبيله من أجل رضاه، سبحانه و تعالي.

5 - ولكي نزيد القراء - بمختلف مذاهبهم - أكبر تأكيد علي مهزلة الزعم الرخيص بالاجتهاد، نلمح - و التوسيع بعد صفحات - الي كلام دار بين ابن عمر و الامام الذي تألم لما يطرحه ابن عمر، حتي تساهل و صارحه الامام بقوله:

هل أنا علي خطأ؟ فيندهش ابن عمر و يرد بحرج، مبررا رأيه بخشية مقتل الامام فقط و سنذكر الرواية بذكرنا لما في روع الأنصار فلاحظا جيدا... و هل


الامام كان بحر وجه لا يتوقع القتل فضلا عن أنه يستقينه؟؟ و هل هذا اجتهاد في مقابل ما جاء عن النبي (ص).. و ليس علي المجتهد المعتد بقدرته أن يتكلم بما لديه مما هو رفيع المستوي يصلح لأن يكون اجتهادا في مقابل النص، لا سيما و الامام يفتح له باب الحديث بتساؤله المتسامح..

6 - و أكثر من ذلك، فان عبدالله بن عمرو بن العاص هو بمن تخلف في حين أنهم رووا عنه آراء تنص علي سمو الحركة و الجهاد بصراحة و لم ينضم أو يلتحق - و بعد قليل نورد آراءه في ثلاث روايات من مصادرها - و سنؤكد حقيقة أن الاجتهاد المزعوم، محاولة ممن كتب للتموية و التضليل، حيث سنذكر رأي معاوية بمثل ابن عمر (و ذلك بذكرنا لاهمال الامام من تعمد التخلف). علي أن من استعمل هذا الزعم قد أساء احترام مبادي ء الدين النحنيف و مفاهيمه، بجعله قيم لمفهوم الاجتهاد علي ذلك الشكل من المهانة، و هو علي ما هو عليه من الكرامة و القوامة علي مضامين الشريعة العصماء فقد زهدوا بالمفهوم حتي جعلوه صفة لمعاوية فألبسوه مسوح المجتهد في كل ما أسفرت عنه سيرته و وحشيه أفعاله، حتي توصل مجتهدا لتنصيب يزيد و توريثه المسلمين ملكا عضوضا!!! و أي نكاية بالفكر الاسلامي و الأمة أكبر من منح معاوية صفة الوصاية علي كل شي ء و الاجتهاد بالتمرد علي وصي الرسول، ثم التصرف كل يوم و ليلة بشؤون العباد طوال عقود من السنين [4] ؟؟؟ ألم يكن للاجتهاد حد؟؟ ألم نر أن الله بعظمته قد حدد كلي شي ء فقدره؟ أو تصل الحدود و المفاهيم المقيدة شرعا الي يد معاوية فيطلق لها الحرية بعد أن يتحرر منها فيتصرف كيفما شاء و ليس هو علي شي ء، حتي تصل الحدد و حريتها الي يد يزيد فيرثها ملكا يتوارث علي سنة سنها و قررها من قبل أبوسفيان؟؟؟

ما أروع الاجتهاد علي تلك الطريقة لمن لا يرون الاسلام و النبوة و الامامة الا ملكا عليهم باحرازه لهم؟؟؟ و ما أجل الاجتهاد علي الطريقة الأموية بعين


بعض الكتاب المأجورين.

القسم الرابع: و تخلف غير أولئك آخرون و هم من البارزين أيضا، لكنهم ليسوا ممن اشفقوا و لا ممن عارضوا و نشير هنا الي كل من عبدالله بن الزبير، و عبدالله بن عمرو بن العاص، لحصول روايات تدعونا للتحدث عنهم.

ابن الزبير: و هو موتور منذ زمان. اما الآن فبسبب التفكك الذي أصاب تكتله عندما دخل الامام و برهطه و صحبه مكة، و بقي ابن الزبير علي مضض، يتمني لو خرج الامام عنها عله يحظي بناس يحيطون به و يلتفون من حوله، ليمهد لثورة ينتويها.، فهل نيته هذه دعته للتخلف عن ثورة محض مبدئية؟؟ و هل يظن أن ثورته بمستوي عال من الرسالية حتي يفضلها و يتخلف عن ركب الرسالة المقدس؟!..

ذكر التاريخ أنه - في مرة - رجح للامام أن يجيب الكوفة فيغادر اليها، و زعم بأنه لو كان له من الجند كالكوفيين لما أبطا عن استجابة طلبهم. بيد أن الامام يدرك مرمي ابن الزبير و الكوفيين معا.

و جاء في التاريخ أن ابن الزبير أحس بأن البعض قد أدركوا أغراضه بمكة، كابن عباس، الذي طرح علي الامام فكرة الجهاد بمكة، فلما استيأس، خرج من عند الامام، و هو كاسف الوجه، يعيش بالأسي، و يتعثر الخطي، فالتقي بابن الزبير الذي يعرف مبلغ سروره بخروج الامام فقال له ابن عباس:

«لقد قرت عينك يا ابن الزبير، ثم أنشد -



يا لك من قنبرة بمعمر

خلالك الجو فبيضي والصفري



و نقري ما شئت أن تنقري

قد ذهب الصياد عنك فابشري



«هذا الحسين يخرج الي العراق و يخليك و الحجاز...» [5] .

فخروج الامام يسهل نشاط ابن الزبير لجمع حشود من البشر حوله، بأساليبه


المتنوعة «و نقري ما شئت أن تنقري». فلما عرف أن واقعه انكشف أو كاد لجأ الي التظاهر بترجيح بقاء الامام بمكة، و تقدم مرة بعرض رخيص ضعيف القيمومة يتمثل برأيه في سيطرة الامام علي مكة..

فيرده الامام، بطرح شي ء من مكنون علمه بمستقبل مكة، فيقول:

«ان ابي حدثني أن بها كبشا يستحل حرمتها، فما أحب أن اكنون أنا ذلك الكبش [6] و يقول ابن الزبير للامام: «أما انك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ههنا ما خولف عليك ان شاء الله». و هكذا يتظاهر بعدم سروره، و نفي فرحه بمغادرة الحسين عليه السلام أرض مكة، غير أن الحسين، ذلك الامام العظيم الادراك، لا يغيب عنه ابن الزبير و من بمكة، كما لا يريد أن يلزم الناس قبل أن يكونوا من الجهاد علي أساس، و رصانة تفكير و صلابة ايمان، و لا يريد الامام القائد، أن يقود أكباشا الي مذبح ليسوا منه علي بينة، و خصوصا ممن كانوا علي غير بينه من دين ربهم!!! كما أنه يمتنع عن اتخاذ من لا ثقة له بهم، و لا خلوص نية عندهم، فابن الزبير معلوم المواقف، مشهود العمل في حرب الجمل.. و قد أوجز الامام بكلامه لمن كان حاضرا حين قال عن ابن الزبير: «ان هذا، ليس شي ء يؤتاه من الدنيا أحب اليه من أن أخرج من الحجاز الي العراق، و قد علم أنه ليس له من الأمر معي شي ء، و ان الناس لم يعدلوه بي، فود أني خرجت منها لتخلو له [7] .

هذه حقيقة مؤكدة. لا سيما و ان ابن الزبير لا يصدق أن الامام يرضي بمكة، و أن - ابن الزبير - سيكون جنديا صغيرا من جنوده. و الحسين يعلم بأنه لا يرضي بالتجنيد تحت رايته بمكة (و لو أظهر ذلك).. و ان تجند فلفترة ثم ينشق بحتمية نفسية متأصلة علي المخالفة. لذا لم يتجند في الركب عند خروجه الي العراق.


و لو أسهم فهو أحري بالمصادقة علي ما قاله و أجدر به كداعية لرفض البيعة ليزيد، و كمكافح له و مجاهد. ولكنه تأخر و تخلف عن جهاد متمحض بالرسالية، موثرا التصور الواهم بأهليته كقائد مستقل يروم الاطاحة بعرش يزيد، فلم يمض الي حيث أصدق جهادا و أكثر اخلاصا، لعدم ضمانة تحصيل مصالحه الدنيا مع الامام، الذي يضرب بيد من حديد علي أيدي النفعيين فيقومهم أو ينبذهم علي سواء فيبقي «الذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا 83:28. «و ابن الزبير يدرك ذلك بدوره «و قد علم أنه ليس له من الأمر معي شي ء»

و اخيرا فمع هذا الدليل التاريخي القاطع و ارهان الساطع علي الموقف السلبي لابن الزبير، بل كرهه و بغضه لقائد الحركة الجهادية و زعيم الثورة سبط الرسول، كرهه - بتصريح حبر الأمة عبدالله بن عباس نفسه - فقد أماط عنه اللثام مرة أخري، و ذلك في رسالة بعث بها الي يزيد ردا علي رسالة وجهها يزيد لابن عباس تستهدف استلطاف ابن عباس للحيلولة دون تحرك ابن الزبير، و ثني عزم الامام الحسين عن جهاده، رد عليه ابن عباس بما يلي:

«أما بعد فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين و ابن الزبير بمكة فاما ابن الزبير فرجل منقطع عنا برأي و هواه يكاتمنا مع ذلك أضغانا يسرها في صدره، يوري علينا وري الزناد، لا فك الله أسيرها، فار أفي أمره ما انت راء. و أما الحسين فانه لما نزل مكة و ترك حرم جده... و... الي آخر [8] الرسالة التي ندد فيها بيزيد، و نفي كون الامام الحسين يبغي الفتنة حسبما نعته و أتهمه بها دونما وعي لاستعمال المفردات اللغوية و المصطلحات القرآنية في مناسباتها.

و علي هذا الاساس فان ابن الزبير. لا يمكن ادراج اسمه في قائمة المشفقين و لا في قائمة المعارضين، اذ أن أية كلمة له مما نقلناه أو لم نكثرت بنقله و أية


رواية لاتفيد كونه مع احدي الفئتين. بقي اذن السؤال عما اذا كان مؤيدا لجهاد الامام أم لا. و للحقيقة نقول: انه لم يكن مؤيدا الامام بكل ما لكلمة التأييد من معني علما بأننا لا ننكر تأييده النسبي لكل من يناهض يزيد و يحاربه، لا بغية اسقاطه و التخلص منه، و انما بغية اضعاف شوكة يزيد ليأتي هو - ابن الزبير - فيستولي علي الحكم بواسطة حركة يحضرها و هو و شيك النهوض بها حبا بالوصول للسلطة. فهو اذن لم يؤيد ثورة الامام بلواحقها و انتصاراتها المرتقبة و المحتملة، و انما أحب ذهاب الامام للعراق، كي تخلو له الحجاز بدليل تصريح ابن عباس له وجها لوجه.

و عليه فلم يكن مشفقا و لا معارضا و لا مؤيدا، بالمعني الكامل الذي تنطوي عليه كل كلمة من تلك الكلمات الثلاث، و انما كان في حقيقة موقفه من شخص الحسين عليه السلام، كارها و مبغضا، أو «يكاتمنا مع ذلك اضغانا يسرها في صدره» حسبما عبر حبر الأمة، و أما موقفه من الحركة المجاهدة، فهو موقف الحيرة و الاضطراب، اذ يجهل أبعاد ثورة الامام السبط، كما يخشي ما تسفر عنه مبادرة الجهاد الحسينية هذه.

عبدالله بن عمرو بن العاص: هذا هو المتخلف عما هو مؤمن به بشكل تام. و قد صرح بايمانه ذلك أكثر من مرة في روايات مختلفة دونها التاريخ، و قال كلمته من دون أن يفعل وفقها و بموجبها لا وفق ارادة الامام و لا بموجب مبادي ء الاسلام، و هو الأخلق به..

تيقن الناس (و منهم ابن عمرو بن العاص) بمقتل الامام المسبوق - بداهة - بجهاد مسؤول فقال افرزدق:

و كان اهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر (أي تاكيد مقتل ابن رسول الله) و ينتظرونه في كل يوم و ليلة. و كان عبدالله ابن عمرو (بن العاص) يقول: لا


تبلغ الشجرة و لا النخلة و لا الصغيرة حتي يظهر هذا الأمر قال (الفرزدق) قلت له (لابن عمرو) فما يمنعك أن تبيع الوهط قال: فقال لي: لعنة الله علي فلان (يعني معاوية) و عليك... الي آخر الرواية [9] .

و الوهط حائط يملكه ابن عمرو في الطائف. و قد أراد الفرزدق بقوله ما يمنعك أن تفدي الحسين بملكك و انت علي يقن بجهاده المرتقب. ولعله أراد أيضا أين يبين شدة احتفاظ ابن عمرو بملكه ثم تعلقه بمتاع الحياة مما يمنعه من السعي لرضي الله تبارك و تعالي.

و كان قد وصل الفرزدق مكة، بعد أن التقي بركب الامام في الطريق فالتقي بابن عمرو بن العاص و تحادثا بما ذكرنا. و هناك محادثة ينقلها الطبري أيضا عن الفرزدق عندما دخل علي ابن عمرو فروي قوله: «فسألني (ابن عمرو بن العاص) فاخبرته بلقاء الحسين بن علي فقال لي: و يلك فهلا تبعته، فوالله ليملكن و لا يجوز السلاح فيه و لا في أصحابه، قال فهممت والله ان ألحق به، و وقع في قلبي مقالته ثم ذكرت الأنبياء و قتلهم فصدني ذلك عن اللحاق بهم فقدمت علي أهلي [10] .. الخ..

و لما عرف الفرزدق مقتل لامام لعن ابن عمرو بن العاص، و قيل انه لقيه فتلاعنا معا..

... و ثمة رواية تاريخية ثالثة يرويها الذهبي في (سير أعلام النبلاء) تعطي نفس المعني بشأن ابن عمرو، و تمتاز عن الثانية بذكر أن الفرزدق قد لحق بالامام و لم يدرك الأمر. و هي مروية عنه. قال الفرزدق:

«لما خرج الحسين لقيت عبدالله ابن عمرو (ابن العاص)، فقلت: ان هذا


(الحسين) قد خرج فما تري؟ قالي أري أن تخرج معه، فانك ان أردت الدنيا أصبتها، و ان أردت الآخرة أصبتها، فرحلت نحوه، فلما كنت في بعض الطريق (بمضي أيام) بلغني قتله فرجعت الي عبدالله و قلت له أين ما ذكرت؟ قال كان رايا رأيته» و يعقب الذهبي بقوله: «و هذا يدل علي تصويب عبدالله بن عمرو للحسين في مسيره [11] .

و نحن ها هنا لا نقدم الدليل علي صوابية سير الامام و حركته، و لم نستشهد بها علي حقيقة خافية. فلو أن مئات المعارضين و غير المستصوبين، قالوا، لما قلت قيمة الحركة و انما ذكرنا ذلك بغية الاطلاع علي ما كان يضمره بعض المتخلفين كابن عمرو بن العاص و غيره.

و قد تخلفوا و هم - ككل - علي مثل ما عليه ابن عمرو، و بالرغم من يقينهم بصواب المجاهدة، كانوا قد لازموا الأرض، و الحق أن رأي الاسلام بعدم التصرف في الحكم و المصير قد فرضه علي كل من يقول: انني من المسلمين بكلمة صدق و اخلاص أي أنهم في يقين لا يشوبه سوي ما يحول من كره لتحقيق الحقائق و عجز عن تحمل الأعباء، فتذرع بعضهم بما هو من العظائم و الأعاجيب!.

فلو نظرنا لابن عمرو، و نظرائه، فماذا نقول عن الاجتهاد اذن؟؟؟ هل كان ابن عمرو مجتهدا، و هل يسمي مثله، و هو علي ما هو عليه من رأي مجتهد؟؟؟ ما كنا نعتقد أن الجهل يقود الي وصف من يقول بما لا يفعل: انه مجتهد!! و لم يكن الأنصار يجهلون المبررات المصطنعة، و لا التظاهر بالأعذار مع اخفاء الحق. اذ لا تأخر عن مقررات رسالة حان وقت أدائها و تنفيذها علي يدحجة الله، و بعد طويل صبر علي حلول وجوبها منذ السنوات المنصومة


و هكذا تخلف بارزون و مبرزون و هم يتفاوتون، فمنهم من أقر و سكت، و تظاهر بعكس ما أقر. و منهم - كابن عمرو - من سكت علي اقراره، حتي اذا خرج الركب، لم يستطع حولا الا اظهار ما اضمر ثم لم يلتحق و كأنه ليس من المسلمين، و لم يقرأ في كتاب الله المبين: «أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم؟» 44:2.

«كبر مقتا عندالله أن تقولوا ما لا تفعلون!» 3:61


پاورقي

[1] و قد يکون من المناسب تعزيز الاشادة ببطولته لتأکيد أنه غير ضعيف الايمان و لا کليل البدن ذکر ما قاله العقاد أثناء ذکره لبطوله الامام علي و شجاعة أولاده «و منهم من کان يلوي الحديد فلا يقيمه غيره، و منهم محمدبن الحنفية الذي صرع جبابرة القوي البدنية بين العرب و العجم... ثم روي العقاد حادثة عجز أحد کبار ابطال الروم عن مجاراة قوة محمد خلال مباراة بين الاثنين و لما أقر البطل بعجزه جاء دور محمد بابداء قوته و ضعف البطل - الهرقلي - فاختطفه محمد من الأرض و رفعه الي أعلي، ثم جلد به الأرض مرات» (أبو الشهداء ص 150 ط 2)

ثم يأتي الکتاتب المصري: علي جلال الحسيني فينقل الرواية التي تقول: «کان عبدالله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية، و کان يحسده علي أيده - أي قوته الشديدة جدا کداود ذي الايد - و يقال أن عليا استطال درعا فقال: لينقص منها کذا و کذا. فقبض محمدبن الحنفية علي الموضع الذي حده أبوه.. فکان ابن الزبير اذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه الافکل..» اي الرعدة و الرعشة. (الحسين، لعلي جلال الحسيني) ج 2 ص 177 نقلا عن الکامل للمبرد.

و يقول الزهري عن محمدبن الحنفية: «و کان محمدبن أعقل الناس و أشجعهم و أعلمهم و کان ذلق اللسان، رابط الجنان (البيان الأول لثورة الحسن، لطاهر الخطيب ص 124)...

[2] سير أعلام النبلاء للذهبي ج 3 ص 196.

[3] نفس المصدر و ذخائر العقبي لمحب الدين الطبري.

[4] حتي انه صلي «الجمعة» يوم الأربعاء... و بلا معارضة...

[5] المحاسن و الأضداد للجاحظ ص 86 طبعة 1969 و الرواية مطولة عنده فراجع و البلاذري ج 3 ص 162 - و الدينوري ص 257 و الذهبي ج 3 ص 200 و ابن کثير ج 8 ص 160 و 165... و غيرها.

[6] تاريخ ابن الأثير - ج 275، 3 و تاريخ الطبري ج 4 ص 289.

[7] تاريخ الطبري - ج 4 ص 288 و الشبلنجي في نور الأبصار ص 128 و ما في هذا المعني ابن الأثير ج 3 ص 276.

[8] تذکرة الخواص لسبط من الجوزي ص 249 ط النجف 1369 ه.

[9] تاريخ الطبري، ج 4 ص 291.

[10] تاريخ الطبري ج 4 ص 291 - 290.

[11] سير أعلام النبلاء ج 3 ص 197.