بازگشت

الامام و رجاله يتجهزون للرحيل


لم يعد شي ء من الرشد خافيا من سيادة الغي و البغي فبناء علي عزم الامام في الصدوع و الابلاغ، كان علي الرشد أن لاينفك متابعا للرشاد خلف


الحسين تحت راية السداد..، بيد أن الامام مع ما يراه من أهمية المتابعة الذاتيه في نصرة الأفراد، فقد رأي ألا يترك التنبيه و التذكير لكل الجماهير الحضور بمكة، فتعين عليه الايعاز، و ليبلغ الحاضر كل غائب، فكان الخطاب التاريخي الذي ألقاه علي رؤوس الأشهاد من باب الذكري.. و تحريض المؤمنين.. و هنا نقف، و نشير الي ما استدعي الامام لتعجله بمغادرة مكة بحيث ترك الحج، و كان قد عزم علي أدائه، ثم الذهاب الي الكوفة بدعوة مبعوثه الأمين مسلم بن عقيل، الذي سبق أن بلغه أن أهل الكوفة حسبما عاهدوا...

فالذي دعي الامام للمغادرة عاجلا أيضا هو ما بلغه من أن مؤامرة مدبرة ضد شخصه الرسالي اذ أرسل يزيد بن معاوية جماعة من (شياطينه) - بتعبير المؤرخين - و أمرهم باحباط مشروع الجهاد الحسيني الرسالي و ذلك بالاحاطة بشخص الحسين القائد، والتماس قتله بأي شكل من الأشكال، و علي أية حال «و لو كان متعلقا بأستار الكعبة» حسب المنطق الأموي ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان... فابن رسول الله قد رام الحج، و سيكون بين حشود المسلمين، و الفرصة سانحة فاغتنموها ليغتالوه بغتة في غمرة طواف الحجيج و أدائهم المناسك في البيت الحرام بالتماس قتله وسط الزحام و قد ذكر المؤرخون تلك المؤامرة المبيتة.

و فيما يلي مصادقة تاريخية مع تنديد و استنكار تاريخي، وجهه حبر الأمة عبدالله بن عباس الي يزيد - بعد الثورة الحسينية - فيما كتبه اليه فقال حسب نص اليعقوبي:

«... و ما أنس من الأشياء، فلست بناس، اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله (ص) الي حرم الله (يعني مكة) و دسك اليه الرجال لتغتاله، فاشخصته من حرم الله الي الكوفة، و خرج منها (أي مكة) خائفا يترقب [1] . و قد


كان أعز اهل البطحاء قديما، و أعز اهلها بها حديثا، و أطوع أهل الحرمين بالحرمين، لو تبوأ بها مقاما و استحل بها قتالا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحل حرمة البيت و حرمه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فأكبر من ذلك ما لم تكبر،. حيث دسست الي الرجال فيه ليقاتل في الحرم [2] الخ...

ثم تعرض ابن عباس لعدة أمور في الرسالة، و حسبنا ما نقلناه منها تأكيدا لأوامر يزيد باغتيال الامام عليه السلام.

انها أوامر صادره عن السجايا المعلومة، نابعة من خسة العنصر و رجس الأرومة. و لم يكن يزيد بأوامره مبالغا أو مجرد متشدد، فهو جاد كل الجد بهتك حرمة أول بيت وضع للناس «و لو كان متعلقا بأستار الكعبة!...»

فما قدر الكعبة عند يزيد و هي أحجار و جماد!... انها لاتقدر علي شي ء و لا تقوي علي سل سيف بوجهه، فما لها من خطر عنده، طالما أنه يبغي الخلاص من ابن رسول الله مجسدا لرسالة جده.. فهذا هو الخطر، و هو كل الخطر... انه الحسين الروح الكبيرة، و قوة الحق المتحركة بحكم معناه و نهوضه في مسعاه، و ما أدراك ما معناه [3] !...

و من نوافل الكلم، أن نقول بأن أوامر يزيد و فعاله لاتجعلنا نستكثر عليه الأمر بقتل الامام الحسين غفلة. بل لايفوتكم اعتباره أهلا لما قال، و كفأ مكلفا بفظائع الفعال، فهو بهذا المعني صادق بمذهبه و أقواله غير كذوب، اذهتلك


حرمة سبط الرسول، واردف بهتك حرمة الرسول نفسه في المدينة المنورة حين واقعة الحرة.. ثم عطف هاتكا حرمة الله بتدمير الكعبة الشريفة، ولانطيل المقام بدراسة ما فعله يزيد من الأفاعيل...

و بعد، فلا تنسوا عدم فوات شي ء عن بصيرة الامام الحسين، أو غياب ماهية الخلق البشري... فالحسين عليه السلام أعرف بيزيد و الأموية و ما ترمي اليه بنشوة و شوق فتبادر بالتلذذ في اقتراف ما تصبو اليه من ضربه عليه السلام، و ضرب البيت الحرام... و بهذا المظهر توجه الامام للكوفة عاجلا ليفوت عليهم فرصة هتك الحرمين معا، في وقت واحد و مكان سوي... فأحبط الحسين مؤامرة كادت تنفذ، و تذهب بمعالم مباشرة جهاده العنيد في الله... حيث أن مقتله المقدس لو كان بتلك الكيفية، و في مكة لذهبت صفة الاقتحام طلبا للحق ولأمكن للجاهليين و الناصبيين القول بأن الامام ما كان ينوي الجهاد في سبيل شرعة جده، و لذا لجأ الي مكة فقتل غيلة، و هذا ما يريده الأمويون الذين يلتمسون طمس جمال الحقائق الجوهرية بعداوة موروثة يفرضها التعصب الديني. و هكذا كان يقول أنصارهم ليتخذوا من هذا القول ذريعة للتشنيع علي نهوض الحسين و اذن: «لقالوا مثل ما قال الأولون.»

و عليه فقد كسب الامام الفرصة لصالحه و صالح صفة الحركة. فكان هو المقتحم المتحرك، المهاجم، الذي أوغل داخل العراق بأوضح الدلائل علي كونه يرمي لدك عروش الطغيان و سحق التيجان، فما سمح لهم بأن يباغتوه أو يهاجموه، بل سبقهم فباغتهم و هاجمهم، و بادر بقوة فاصابهم، و أنزل الطعنة في كبد حقيقة وجودهم.. فالمؤامرة و ارادة احباطها حسينيا كانت سر سرعة خروجه من مكة، ذلك الخروج الذي سبقه الخطاب الحسيني التأريخي، البليغ الوجيز الذي قرع به أسماع جماهير غفيرة حين قال:

«الحمدلله، و ما شاء الله، و لاقوة الا بالله، و صلي الله علي رسوله... خط


الموت علي ولد آدم مخط القلادة علي جيد الفتاة.. و ما أو لهني الي أسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف، و خير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا... لامحيص عن يوم خط بالقلم، رضي الله رضانا أهل البيت. نصير علي بلائه، و يوفينا أجور الصابرين لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقربهم عينه و ينجز وعده. ألا و من كان فينا باذلا مهجته، موطنا علي لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فاني راحل مصبحا ان شاء الله تعالي.» [4] .

ثم ان الامام سلام الله عليه، طاف بالبيت و صلي و سعي بين الصفا و المروة و أحل احرامه، نظرا استثنائه أداء فريضة الحج، و جعلها عمرة مفردة...

و كان الخطاب خاليا بالمرة، من دعوة الذين يتعاملون مع الحياة الدنيا، أو من يسير بأدني دفع نفعي و مصلحي أناني، بل حفل الخطاب الخالد بروح التصعيد للجهاد و بقوة الدوافع الذاتية المختارة. و تميز بتنبية شديد القرع لقلوب من يجنبون فحذرم، و قلوب من يؤمنون فوطنهم، وامتاز بتلافي كثير من أفراد الجمهور الذين قد يخرجون بفعل من مؤثرات السلوك الجمعي (و سنذكر هذا السلوك في آخر الكتاب) فالذي يخرج معه، عليه أن يبيع نفس لسمو جلالة الله، و ينذر روحه و جسمه لمرضاة الله، بمعني أن لايضع احتمال ديمومة الحياة و توقع العيش، و كأنه سوف لايعود، و لن يرجع، موطنا نفسه توطينا بثقة و عزم صلب، و في طمأنينة و تضامن، علي حسني الاستشهاد، علي احدي الحسنيين، كما عبر القرآن الكريم.. و ذلك لا يتأتي الا لمن آمن واتقي و خشي الرحمان بالغيب و لم يخشي الناس، سواء بسيوفهم أو قوادح ألسنتهم، و انما الله وحده، والله في كل حال: فلا تخشوا الناس واخشون و لأتم نعمتي عليكم 150:2. و أولئك: «الذين لايخافون في الله لومة لائم..» و غير ذلك ممن يتحتم توفره كقوة قاهرة يتمتع بها


الفرد أو الجماعة كيما تتأتي لهم سهولة الانخراط و يسر الاسهام في الجهاد المرتقب.

فمن هم أولئك الذين رشحوا أنفسهم لخوض غمار حرب ضروس تنتظرهم بين النواويس و كربلاء؟؟؟ و من هم أولئك الذين ما امتدت اليهم يد القيادة لتنتقيهم من بين حشود المسلمين فتنتخبهم؟؟. و انما انتخب كل منهم نفسه و انتقي شخصه و قاد ذاته و قادته ذاته، فأخذ يده بيده، متترسا بحديد المبادي ء و العقيدة، مرتديا لباس الرفض بلا تراجع ماضيا للحرب بلا أدني أمل للعودة.. الي حرب لاهواة فيها، في قضية تتنزه عن التسامح أو الهوادة..

اولئك هم: خلص التابعين باحسان لأهل بيت النبوة و موضع الرسالة، و هم نسبة قليلة في مكة اذا ما قورنوا بالناس - ركام البشر من أولئك الذين خالفوا الحق بحرية شخصية لامثيل لها و لا نظير. فحاموا حول الحسين و أحاطوا لايلوون علي شي ء سوي السعي معه، مع كل معناه في مركب جهاده حيثما أرساه...

و خير تعريف بهم أن نقول: انهم الذين خرجوا و ما في روعهم الا الاخلاص لله بالوفاء للحسين حجة الله. و ما كانوا يملكون غير عظمة الطاقة العقيدية الموطنة علي المضي للنهاية الحتمية، حتمية أداء المراسيم الرسالية والمطالب الربانية.

فما قيمة الحياة بعد، و هذا سبط الرسول، ريحانة حبيب الله، يعلن قائلا: «كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء»؟؟. وراح الأنصار يتفانون و هم لم يشتبكوا مع العدو المنحرف الكافر بعد. يتفانون و هم في مكانهم، لشدة تأملهم، اذ اعتملت العقيدة في صدورهم و انفعلت طاقات حب الله و رسوله و أهل البيت في قلوبهم بحيث كانوا علي استعداد لشهر السيوف و ضرب السلطة المحلية بمكة، أي «فتح مكة مجددا» و لعب الانفعال في تهيج التفاني و تصعيد الذوبان في الله بفداء الحسين.. اذ «.. خط الموت علي ولد آدم مخط القلادة علي جيد الفتاة..» وزاد أوار


الانفعال من أجل الشريعة».. لامحيص عن يوم خط بالقلم!..»

و لما كان النصير المكي و المدني و غيرهما في اقتداء بالامام القائد و تأس به فكيف لايختار بنفسه و بحريته وموقع مصرعه و مختتم حياته، قدوة فأسوة باختيار فكيف لايختار بنفسه و بحريته موع مصرعه و مختتم حياته، قدوة فأسوة باختيار الامام «.. خير لي مصرع أنا لاقيه..» فمثل ذلك لايستسيغه جاهل لجواهر الحقائق، بل لأبسطها، فلا يعرض نفسه لخطر جهادي كقربان لله، بزعمه أنها تهلكة.. ألا خابت العقول و خسرت الصفقة.. «.. رضي الله رضانا أهل تهلكة.. ألا خابت العقول و خسرت الصفقة.. «.. رضي الله رضانا أهل البيت..» و كان علينا أن نتابع الركب في خروجه و مواصلته الطريق، لكننا سنتأخر عن المتابعة قليلا لدراسة مرتبطة بالدوافع الذاتية بشدة، ولكي نكشف عن أبرز الذين تخلفوا ممن كانوا أبرز شخصيات امة المسلمين و منهم من كان معذورا و منهم من لا عذر له، فلندرسهم علي ضوء البواعث و ماهيتها.


پاورقي

[1] لايعني أنه خائف علي نفسه، فهذه الآية تلاها الامام عليه‏السلام نفسه تأسيسا بکليم الرحمان موسي (ع) عندما خرج من مکة اذ قال سبحانه و تعالي: و خرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين») فهذا الخوف و الترقب، خوف سام، و ترقب رفيع بما ينطوي تحته من ألم علي الأهداف الکبري، و حذر علي مستقبل الأمة و مبادي‏ء دينها و الا فهل يخاف الحسين علي نفسه أو يخشي موسي علي شخصه؟!!!.

[2] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 222 - 221 طبع النجف الاشرف سنة 1358 هجرية...

[3] سيکون من جملة الکتب حول الامام کتاب (معني الحسين) و هو دراسة هامة لجوانب موضوعية راقية بحول الله...

[4] اللهوف في قتلي في قتلي الطفوف لابن طاووس ص 24 - 23 طبعة بيروت و بحارالانوار صح 44 ص 367 - 366.