بازگشت

دعوة الامام لزعماء البصرة


و كتب الامام رسالة بعدة نسخ الي بعض زعماء البصرة و أقطابها تذكيرا لهم بالرسالة المحمدية و متطلباتها و واجبات الاسلام. و الجدير بالذكر هو خلو الرسالة من أساليب فرض المطالب و الأوامر، فلا قسر و لا اغراء، لذا نجد نقلها هنا، فلاحظ كلامه الشريف، بعد البسملة و حمدالله.. حيث كتب قائلا:


«أما بعد.. فان الله اصطفي محمدا صلي الله عليه و آله علي خلقه و أكرمه بنبوته و اختاره لرسالته، ثم قبضه اليه، و قد نصح لعباده و بلغ ما أرسل به صلي الله علي و آله، و كنا أهله و اولياؤه و أوصياؤه و ورثته و أحق الناس بمقامه من الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا - فأغضبنا - و كرهنا الفرقة، و أحببنا العافية و نحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه. و قد بعثت رسولي اليكم بهذا الكتاب، و أنا أدعوكم الي كتاب الله و سنة نبيه (ص) فان السنة قد أميتت، و ان البدعة قد احييت. ان تسمعوا قولي، و تطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، و السلام عليكم و رحمة الله» [1] .

و بعث نسخة منها الي الزعيم مالك بن مسمع البكري، و أخري للأحتف بن قيس، و ثالثة لقيس بن الهيثم، و نسخة منها للمنذر بن الجارود العبدي الذي شك بالرسول و الرسالة فتصور.ن ابن زياد بعث الرسول... و نسخة للزعيم المجاهد يزيد بن مسعود النهشلي الذي قم باعداد نفسه وحشود من قبيلته للالتحاق بالامام ولكنه كان بطي ء التنظيم، أو أن الثورة كانت سريعة التنفيذ - قياسا لسير تنظيمه -.

فقد بادر يزيد بن مسعود النهشلي هذا لينهض بعب ء مهامه بعدما قرأ رسالة الامام الحسين عليه السلام، لأنه وجد ضالته بمضمون الرسالة اذ كان مشتاقا للجهاد في سبيل الله تعالي.. و عزم علي تلبية نداء الامام بكل ما أوتي من حول و قوة، امتثالا لاوامر الامام المفترض الطاعة و كانت أول خطوة خطاها هي استدعاء كل من له علاقة بهم ليعرض ما لديه من مشروع حيوي عليهم لا خير لهم بمعزل عنه. فوجه دعوته لهم ليجتمع بهم فورا: بنوتميم، و بنو حنظلة، و بنو سعد. فلما حضروا كان هو علي رأسهم، فقام فيهم خطيبا، فقال:

«يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم و حسبي منكم؟ فقالوا: «بخ بخ، انت


والله فقرة الظهر، و رأس الفخر، حللت في الشرف وسطا، و تقدمت فيه فرطا، قال: «فاني قد جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم فيه واستعين بكم عليه، فقالوا: انما والله نمنحك النصحية و نحمد لك الرأي، فقل نسمع». [2] .

وأصغوا لما سيقوله، و لما سيشاورهم به.. ولكن علينا أن نلاحظ كلام المجاهد النهشلي في أسلوبه، وفي طرحه للمشروع الجهادي، فهو طرح يخلو من عنصري الاغراء والارهاب و لم ينطلق في نشاط المسؤول من قاعدة مخالفة للقاعدة التي ينطلق منها الامام الحسين (ع) كأنه رأي ارادة الامام و طبيعة تعامله، أو أنه استوحي ذلك من مضمون الرسالة بالذات التي التزم بها التزاما رساليا، بحيث لم يستفز فيهم اروح القبلية، كما لم يجبرهم بوصفه زعيما لهم «فقرة الظهر و رأس الفخر». و انما انطلق وفق ما تمليه القناعت آنذاك، و حسب ما يكون عليه الفرد من ايمان و وعي و تقوي. و كتأكيد لذلك علينا أن نقف علي خطابه الذي أردفه بعد تلك الكلمة، فقد قال صادعا:

«ان معاوية مات فأهون به والله هالكا و مفقودا، ألا وانه قد انكسر بابا الجور و الاثم، و تضعضعت أركان الظلم و كان قد أحدث بيعة عقد بها أمرا ظن أن قد أحكمه، و هيهات الذي أراد، اجتهد [3] والله ففشل، وشاور فخذل، و قد قام يزيد شارب الخمور، و رأس الفجور، يدعي الخلافة علي المسلمين، و يتآمر عليهم مع قصر حلم و قلة علم، لايعرف من الحق موطي ء قدمه.

فأقسم بالله قسما مبرورا لجهاده علي الدين أفضل من جهاد المشركين. و هذا الحسين بن علي بن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ذوالشرف الأصيل و الرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، و علم لاينزف، و هو.ولي بهذا الأمر،


لسابقته و سنة و قدمه و قرابته، يعطف علي الصغير و يحنو علي الكبير، فأكرم به راعي رعية، و امام قوم وجبت لله به الحجة، و بلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحق، و لا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم الي ابن رسول الله (ص) و نصرته، والله لايقصر أحد عن نصرته الا أورثه الله الذل في ولده والقلة في عشيرته...

«وها أنا قد لبست للحرب لامتها، و ادرعت لها بدرعها. من لم يقتل يمت، و من يهرب لم يفت، فاحسنوا رحمكم الله رد الجواب». [4] .

والحق أنه قد أحسن ختام الخطاب، فكان أسلوب المؤمن المجاهد و طرح اليقيني المسدد، و موقف الورع التقي و قرار الفدائي المتفاني اذ «من لم يقتل يمت، و من يهرب لم يفت». فكان أن ألهب حماسهم و جعلهم أمام الأمر الواقع لاعطاء اجوبة مسوولة، وردود تجسد حضور العزم و الهمم و رصد القوي و حشد الطاقات علي طريق المواجة. فصرح كل من مثل بني تميم الناطق بلسان بني حنظلة باستعدادهم لخوض الجهاد المسلح مهما كانت عواقبه.

وقف الناطق من بني تميم مخاطبا الزعيم النهشلي بقوله:

«يا أبا خالد! نحن بنو أبيك و حلفاؤك، لانرضي ان غضبت، ولا نقطن ان ظعنت، والأمر اليك فادعنا نجبك، و مرنا نطعمك، و الأمر اليك اذا شئت». [5] .

بينما خاطبه الناطق بلسان بني حنظلة فقال:

«أبا خالد! نحن نبل كنانتك، و فرسان عشيرتك ان رميت بنا أصبت. و ان غزوت بنا فتحت، لانحوض والله غمرة الا خضناها، و لاتلقي والله شدة الا


لفيناها، ننصرك بأسيافنا، و نقيك بأدينا، اذا شئت [6] «.

ولنلاحظ بعض الفوارق: فهو قد كلمهم بمنطق عقائدي كما اتضح جليا من سياق خطابه حتي ختامه، فأجابوا بالايجاب و بما لايتكافأ و منطقه هو فكان منطقهم عاطفيا قبليا. فاستحوذ علي جواب كل منهم الاشفاق العشائري و العطف القبلي، و تلك سجية لازمت المسلمين طويلا [7] .

أما بنو سعد فقد كانوا علي جانب كبير من الانهزامية، الأمر الذي يفسر ترددهم لما ندبهم اليه زعيمهم، اذ قال قائلهم:

«أبا خالد ان أبغض الأشياء الينا خلافك، و الخروج من رايك، و قد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال (يقصد في حرب الجمل) فحمدنا أمرنا و بقي عزنا فينا، فأمهلنا نراجع المشورة و يأتيك رأينا.» [8] .

و كأن ابن مسعود النهشلي، خشي الجبن و الخذلان منهم فأوحي اليهم بمغبة عاقبة تقصيرهم و حمل عليهم بكلمات قصيرة محذرا اياهم بقوله:

«والله يا بني سعد لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبدا، ولا زال سيفكم فيكم. [9] .


... و مضي القائد ابن مسعود النهشلي في نشاطه الكبير، رغم احداق الخطر، وضيق الظروف، اذ أن اقليم البصرة قد وضعت عليه رقابة مشددة في داخله و علي حدوده، و ذلك من قبل عبيدالله بن زياد و أخيه عثمان الذي تركه علي البصرة قبل مغادرته لها الي الكوفة بايعاز من يزيد، فبات من الصعب تحقيق اي نشاط سياسي و عسكري لصالح ثورة الامام و جهاده الميمون. بيد أن النهشلي واصل تجهيز جماعته وسط الكتمان الشديد، لضمان الوصول بسلام و احراز مناصرة الامام.

و تجاوز العقبات و المعوقات فتم له تنظيم عدد كبير من الرجال، بالرغم من تردد و تخاذل بني سعد، هذا التخاذل الذي يشكل درسا و تحذيرا لنا من أداء نفس أدوار الخذلان و ضعف الايمان القائد للانحراف فالكفر.. و هو درس لا غني عنه لطلاب الصبر و الصمود و المرابطة، و التربيد الجهادية و التعبئة الفكرية و المعنوية.

و رغم حرص النهشلي علي الكمية، فلم نطلع علي عدد الذين أعدهم. و احصائية الرجال الذين جمع كلمتهم من أجل الجهاد والثورة تحت راية سبط سيد المرسلين.. و قد وجه - قبل تحركه - رسالة للامام الحسين عليه السلام، هذا نصها:

«بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فقد وصل الي كتابك 7 و فهمت ما ندبتني اليه و دعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك و الفوز بنصيبي من نصرتك، و ان الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها بخير أو دليل علي سبيل نجاة، و أنتم حجة الله علي خلقه، و وديعته في أرضه، تفرعتم من زيتونة أحمدية، و هو أصلها و أنتم فرعها، فاقدم سعدت بأسعد طائر..

ثم أضاف قائلا: فقد ذللت لك أعناق بني تميم، و تركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الابل الظماء لورود الماء يوم خمصها و قد ذللت لك رقاب بني سعد


و غسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استح برقها فلمع..». [10] .

فهو لم يذلل رقابهم بالمعني السطحي المتعارف و انما ذللهم بما أرشد هم للطاعة كما يؤيد ذلك نفس السياق

«و تركتهم أشد تتعابا في طاعتك» فلا تفيد الرسالة أنه أكرههم و أجبرهم، بل عبأهم و أعدهم فشوقهم للقاء الامام و الانتصار للدين الاسلامي العظيم تحت قيادة الحسين.. هذا و ان النهشلي يدرك كون الامام بالذات ضد الاجبار و التجنيد الاكراهي و الاستنفار غير الحكيم للجهاد المصيري...

ولم تصل الرسالة الي الامام و هو بمكة أو في الطريق و انما وصلته و هو بكربلاء، لا في الخامس من محرم أو السادس أو غيرهما و انما في يوم العاشر، حيث عاشوراء الصراع الدامي. وصلت علي يد رسولين - سيأتي ذكرهما فيما بعد - فقرأها الامام، و عقب بقوله:

«ما لك، آمنك الله يوم الخوف، و أعزك و أرواك يوم العطش!..»

والذي يبدو واضحا أن سعي النهشلي ما كان يتناسب و سرعة سعي الثورة. و اذا كان سعيه بطيئا فهو نتيجد طبيعية لضغط الظروف عليه، و لربما كان بطيئا قياسا لسرعة سير الثورة الحسينية المجيدة. فقد تحرك و هو يقود رجاله، فساروا مسافة ثم ما لبثوا أن وافاهم نبأ انتهاة الصراع و مقتل الامام السبط و من معه، فصدم النهشلي صدمة عظيمة أودت بحياته كما روي، أو كما عبر التاريخ بالقول «فجزع من انقطاعه عنه..»

و قد وصلت عصبة من رجال البصرة و سنذكرهم ضمن الذين التحقوا بالامام في الطريق، وهم سبعة، أقوياء أشداء انطلقوا بسرعة حالما عرفوا الأمر بواسطة الرسائل، فلم يتأخروا...



پاورقي

[1] تاريخ الطبري، ج 4 ص 266 و الارشاد و أعيان الشيعة ج 4 ق 1 ص 1063.

[2] بحارالانوار ج 44 ص 338 - 337.

[3] مورد کلمة «اجتهد» هنا، و کما ارادها ابن مسعود النهشلي، و هي المعني اللغوي لها أي بذل جهدا جهيدا، و ليس معناها الاصطلاحي، أي فکر واجتهد وفق اعتبارات شرعية، لذا قال «اجتهد والله ففشل» و لا لقال «اجتهد فأخطأ» لو أراد المعني الاصطلاحي.

[4] بحارالانوار ج 44 - ص 338 و أعيان الشيعة ج 4 ص 164 - 163.

[5] بحارالانوار ج 44 - ص 339 - 338.

[6] بحارالانوار ج 44 ص 338.

[7] نلمس من خلال مواقف تاريخية لبعض المسلمين أنهم حينما يتکلمون فان ظاهرة الروح و النزعة القبلية ملازمة للتعبير عما يستجيشهم. و قد تکون الاهداف اسلامية و ليست مجرد قبلية، و لعل السبب يرجع الي أنهم يلتقون علي مستوي العشائر و مستوي أقطاب القبائل. ثم انهم يعتبرون ذلک من أهم مظاهر الحمية و الغيرة و المروءة. کما أنه من مالم الحماس العربي المتأصل، و دليل المبالغة في الطاعة و تأکيد کامل الاستعداد في التضحية.

[8] بحارالانوار ج 44 ص 338.

[9] بحارالانوار ج 44 ص 339.

[10] بحارالانوار و أعيان الشيعة ج 4 ث 1 ص 165 - 164.