بازگشت

في مكة


استقبال المكيين للامام و رجاله:

يكاد الموكب الحسيني يدخل مكة، حيث يقترب رويدا رويدا من أبواب البلاد المقدسة و يأخذ الامام يردد ما جاء عن الكليم موسي (ع) في القرآن الكريم و يقول: «فلما توجه تلقاء مدين قال عسي ربي أن يهديني سواء السبيل. 22:28 [1] و يتسامع اهل مكة بمقدم ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.. و تهرع


الجماهير لاستقبال (بقية النبوة) و ريحانة حبيب الله محمد (ص) فيكون السرور بالغا للجمهور المكي و غيره ممن حضر مكة من المسافرين و الحجاج. و قد كانت غبطة و سعادة بالغة، ورواح الناس فيما بعد - يكثرون ارتياد مقر الامام الذي استقر فيه و أخذوا يفدون عليه و يزدحمون [2] في مجلسه الشريف ليل نهار، يتفقهون في الأحكام الشرعية و يتلقون الأحاديث النبوية التي لايفقهها و يضبطها غير سبط رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم...

و في ذلك الوقت كان ابن الزبير قد وصلها فدخلها منذ مدة، و أحاط شخصه بالأعوان و بكثير من المكيين بقصد كسب العواطف و الود ثم التمهيد للتجنيد في حركة ضد يزيد. و لم يكن ابن الزبير يهدف لكشف معالم كادت الأموية أن تطمسها، و انما كان يرمي الي تسلم المنصب الكبير.. و لذا لم يتحرك مباشرة لضرب يزيد، بل انتظر متمهلا راصدا، بينما الامام الحسين عليه السلام كان يقصد ضرب صميم الأموية بلا تأخير و لاتريث نظرا لكون الجهاد غير متوقف علي سيطرة سياسية بقدر توقفه علي المعني و المرمي و اصابة ذلك المعني و المرمي... فحلول الامام بمكة كان ايذانا بتلاشي نجم شخصية ابن الزبير، و تفكك سريع اصاب تكتله الذي جهد في صنعه كحاشية بدائية علي طريق الوصول للحكم... فتفرق عنه من كان يتجمع حوله من الناس البسطاء و اتجهوا صوب ريحانة الرسول بلا قوة اجبرتهم أو أغرتهم. فهي ظاهرة من ظواهر البواعث و الحوافز الذاتية لاغير، لأن للامام الحسين في قلوب المسلمين ما لاحظوة، لأحد فيه و لا أدني منافسة عليه، فليس ثمة فرصة واسعة لابن الزبير بعد، كما يؤيد ابن كثير بقوله عنه: «ولا يمكنه أن يتحرك بشي ء مما في نفسه مع وجود الحسين، لما يعلم ماله من تعظيم.» [3] .


فبالرغم مما لابن الزبير من المنزلة يذكر ابن كثير أنه «لايمكنه أن يتحرك بشي ء مما في نفسه مع وجود الحسين، لمايعلم ماله من تعظيم.. ان شأنه قد تعظم، واشتهر أمره، و بعد صيته، و مع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين، بل الناس انما ميلهم الي الحسين لأنه السيد الأكبر، و ابن بنت رسول الله، فليس علي وجه الأرض يومئذ أحد يساميه و لايساويه ولكن الدولة اليزيدية كانت كلها تناوئه.» [4] .

ثم يلمح ابن كثير الي احتفاء الناس بامامهم فيقول:

«فعكف الناس علي الحسين، يفدون اليه و يقدمون عليه، و يجلسون حواليه، يستمعون كلامه.» [5] ثم يعقب الشيخ القرشي بعد اشارته الي هذا النص فيقول: «لقد كان (الامام الحسين) بجاذبيته الروحية مهوي القلوب، وندي الأفئدة و قد حامت حوله النفوس تروي غليلها من نمير علومه التي هي امتداد علوم جده مفجر العلم و النور في الأرض». [6] .

.. و يستاء ابن الزبير لذلك التكتل الذاتي الذي صنعته الحقائق و الكمالات التي اجتمعت فاستقرت بشخص ابن الرسول فتكتله الذي صنعه - ابن الزبير - بيده ليحمي به نفسه، لم يكن ليثبت أمام زخم المعارف و سيل العلوم من (معدن الرسالة) و أمام الاعصار الروحي المتسع بتزايد حول شخص الحسين القائد...

واستياؤه، هو الذي دفعه مرة للاقتراح علي الامام بالخروج للكوفه كقاعدة شعبية كما ذكر التاريخ اقتراحه، و هو الذي دفعه أخري للتصريح باستعدادة لأخذ البيعة باسم الحسين اذا خرج - أي الامام الحسين - للكوفة و وكله


علي الحجاز... بيد أن الحسين يدرك كنه و أبعاد أي اقتراح يطرح.. فلم يجبه الي ما طلب «و أسرها يوسف في نفسه».

ولنعد الي الذين كانوا يفدون بشوق علي الامام، و ينتهلون الشي ء من المعارف بلهفة و يرتشفون غيضا من فيض ما عند آل الرسو بغبطة و هؤلاء هم:

أولا: المؤمنون الأقوياة، ممن تابعوا عترة الرسول باحسان، و هم أقل النسب و هم في اشتياق للامام و توجيهاته و قيادته، والشعور بالحاكمية الحقة. و هم من تصدروا المستقبلين، كما أنهم ممن أسهموا في الانخراط دونما تأخر تحت لواء الحق، فيما بعد.

ثانيا: ضعفاء المؤمنين، و بسطاء المسلمين الذين رافقوا الركب من مكة الي مسافات قصيرة ثم تراجعوا القهقري، اذ لم يسعفهم ايمانهم علي ركوب مهمة الجهاد الشاقة، و لم تنهض بهم ارادة الصبر فيهم، فأقعدتهم أرضا و سحبتهم الي الوراء.

ثالثا: مجمل المسلمين - بمجرد الاسم فقط - الذين يتأثرون بالظواهر الاجتماعية فتجرفهم معها، و هم يحضرون مجلس الامام بتأثير السلوك الجمعي الذي ساد (همج رعاع ينعقون مع كل ناعق)

رابعا: فئة من الذين يزدحمون حبا بالتقاط ما يسمعون، و شغفا بالنقل و رواية الأخبار، لاتسمو نفوسهم الي اكثر من ذلك، و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، أي بنقل الرواية و ما فيها من فعل حميد، أو الخبر و ما فيه من واقعة... و هكذا، فالفئات تتفاوت، والفلاح للأولي التي مثلت واجهة لمكة و الحجاز...

هذا و قد كان الامام حريصا متشددا بالصدوع بما أنيط به من قبل الله و جده الرسول. و عليه فهو يتناول القضية الرسالية بمحضر الوافدين اليه و جمهور رواد مجلسه، اذ لا يفتأ يبث الوعي و اليقظة، لأنه يعتبر مهمة طرحه للقضية الجهادية أمام المسلمين من باب القاء الحجة و انطلاقا من هذا الباب المفتوح لالقاء الحجة كان - عليه السلام - ينفذ للتبشير بالواجب المرتقب علي المسلمين. أما هؤلاء


المسلمون فكانوا يتفاوتون بالادراك و الايمان و صلابة اتخاذ المواقف الحاسمة، والعمل ذاتيا، عدا أولئك النخبة ممن ذكرناهم كأول فئة ممن استقبلوا الحسين، و هم أقوي الرجال الذين عاهدوا الله و أنفسهم علي التضامن مع الحق حتي النفس الأخير و الرمق النهائي. «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» 23:33.


پاورقي

[1] الطبري ج 4 ص 254.

[2] الذهبي ج 3 ص 198 سير أعلام النبلاء و قال ابن عساکر: انه نز في دار العباس بن عبد المطلب و قال الدينوري في کتاب الأخبار الطوال: انه نزل في شعبه!.

[3] البداية و النهاية لابن کثير ج 8 ص 151 مطبعة السعادة بمصر.

[4] البداية و النهاية لابن کثير ج 8 ص 151 مطبعة السعادة بمصر.

[5] نفس المصدر و الصحفة. و نجد ابن الزبير - في رواية - يقول لمن يحاوره: انه هو الذي اجتمع عليه المسلمون - کما في تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 22.

[6] حياة الامام الحسين ج 2 ص 308.