بازگشت

الموقف من الحكم


لقد استلم يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ميراث أبيه بعد هلاكه.. و ميراثه هذا يتمثل بالتسلط علي رقاب المسلمين و الاستبداد: هذا خلاصة ما تركه معاوية لولده و خليفته يزيد. فما علي هذا الوريث الا أن يقوم باخضاع أبرز المعارضين للوجود الأموي ولتلك الوراثة: «الهرقلية» كما وصفها أحد رجال ذلك العصر... و ان علي رأس المعارضين واعظمهم رسالية ابن رسول الله (ص) الامام الحسين عليه السلام.. فلم يكن هذا الامام ليعترف أو يخضع ليزيد أو نظير يزيد أو من هو من أسرة يزيد مهما كان الثمن باهظا، اذ ليس ثمة منزلة لهذا الوريث المتسلط الجديد حتي عند أبيه المورث، أو عند أبرز الأمويين.

ولا يقاس يزيد أو يفاضل بأقل أعلام المسلمين يومذاك.. فكيف يقاس أو يفاضل بشخص الامام (ع) «و رأي معاوية و أعوانه في هذا أسبق من رأي


الطالبين و خصوم الأمويين» كما عبر العقاد. [1] .

بل لم يكن الامام ليعترف بوجود المورث نفسه معاوية من قبل، فكيف يعترف بهذا الوريث: والحق - و يقال صريحا: - ان الامام لو واتته الظروف لضرب الأول، ولكننا نجد أن شقيقه الامام الحسن (ع) اضطر الي الصلح بعد أن رأي أنه لم يسعه و لا الحسين من بعده أن يحطم رأس الأول، بيد أن الحسين (ع) ببادرته المشهورة، لضرب يزيد كان قد جمع في قبضة ضربته كلا من الأب والابن و روح الأموية و كيانها، واتي علي المورث و الوارث و الميراث ان لم تسنح فرصة التصدي في البداية.

اجل لم يكن ابن رسول الله (ص) بتلك المهانة حتي يسمح لمعاوية ثم ليزيد والمعني الذي يعنيانه و الكيان الذي يبنيانه، في المكوث علي الأرض أو تشويه التنزيل و معالم التأول الذي قاتل عليها و من اجلها الامام علي عليه السلام مع الرسول الأعظم (ص) ثم قاتل عليها وحده منفرادا، بحث كان من أنصار الامام من يرتجز في أراجيزه، كعمار بن ياسر حينما يبرز بصفين فيقول بجرأة اليقين:



لقد ضربناكم علي تنزيله

واليوم نضربكم علي تأويله [2] .



فمما لا أمل فيه اطلاقا التهاون مع يزيد.. لكن يزيد بعث برسالة الي والي المدينة الوليد بن عتبة يطالبه فيها بأخذ البيعة من الامام (ع) و آخرين كابن الزبير، و كانت الرسالة مشفوعة بأخري صغيرة - كأنها هامش للأولي - وصفها البعض من المؤرخين «بأذن فارة» كانت تحتوي أمرا بضرب عنق الحسين (ع) حال رفضه البيعة و ارسال الرأس.. فيظهر جليا أن عاهل الشام يزيد شاك في امره لايصدق عقله أبدا بأن الامام (ع) يبايع، مما جعله يأمر بسفك الدم الزكي


عند الضرورة - الضرورة الاموية -

وأرسل الوليد بن عتبة بطلب مروان بن الحكم ليستشيره بالأمر، فمروان المستشار الذي طالما لعب دورا في البلبلة و القلق السياسي منذ حكم عثمان بن عفان... و يطرح الوليد بن عتبة قضيته علي هذا المستشار، كان رأيه - المنطلق من صميم سجاياه و طباعه و ما جبل عليه - هو: بما أن الامام لايبايع اطلاقا، فالاجدر ضرب رقبته و قتله و جسم الأمر!!! و لم التعجب؟!.. فلا غرو ان رجع الفرع لأصله.. فلا عجب لأنها «شنشنة اعرفها من أخزم..» ولكي لانطيل الكلام بنقل النصوص، نذكر هذا النص للوليد الذي رد به علي رأي مروان - كما عن ابنه أعثم - قال الوليد:

«و يحك يا مروان عن كلامك هذا، و أحسن القول في ابن فاطمة فأنه بقية ولد النبيين» [3] فثمة علل داخلية دفينة تسهل لمثل مروان الذهاب لمثل ذلك الرأي الكافر... [4] .

و كان الامام في المسجد النبوي الشريف، و كذلك ابن الزبير.. فلما وصل رسول الوليد طالبا من الامام لقاء الوالي في المهمة، أدرك الامام سرها، فدار بين ابن الزبير و الامام حوار أشار الحسين فيه الي هلاك معاوية.. و كان الوقت مساء يقارب انتصاف الليل..

ثم يصل الامام فيجد الوليد و مروان.. و يطرح الوليد خبر هلاك معاوية، ثم يسأله البيعة. و يريد الامام أن يكون الحديث بحوار علني لا داخل دار الامارة،


و نهارا لاسرا في الليل، أمام الأشهاد لا بين الجدران كما يتصرف بما تمليه الرسالة فيوقظ الأمة.. فقال مجيبا الوالي: «ان مثلي لايبايع، سرا، و لايجتزا بها مني سرا فاذا خرجت الي الناس، ودعوتهم للبيعة، دعوتنا معهم و كان الأمر واحدا»

فخاف مروان عاقبة ذلك، و أدرك هدف الحق الحسيني، و خشي افلات الحسين من هذه القبضة و المصيدة داخل القصر، فرفض الامهال و التأجيل و قال بوقاحة للوليد: «لئن فارقك الساعة و لم يبايع لاقدرت منه علي مثلها أبدا حتي تكثر القتلي بينكم و بينه، احبسه، فان بايع و الا ضربت عنقه»

و هكذا قال بطاقة نفسية جريئة علي الله و رسوله، و بمحضر الامام نفسه و بمرأي منه و مسمع و لذا لم يكلمه الامام الا بموجز تسفيه له، اذ قال:

«يا ابن الزرقاء، أأنت تقتلني ام هو؟ كذبت والله و أثمت» [5] .

ثم التفت الامام الحسين الي أمير المدينة ابن عتبة ليصرح له باستحالة التخلي عن الرسول و الرسالة و أصله باعتباره بقية النبوة، فقال عليه السلام:

«أيها الأمير، انا اهل بيت النبوة، و معدن الرسالة، و مختلف الملائكة، و محل الرحمة، و بنا فتح الله، و بنا يختم.. و يزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، و مثلي لايبايع مثله، ولكن نصبح و تصبحون، و ننظر و تنظرون، أينا أحق بالخلافة و البيعة..» [6] .

و أراد لهم ظهره و خرج.. ألا انه الكلام الفصل و القول الحاسم.. بل انه الرفض التام من الأصل و الأساس للباطل، و لأعداء الله مهما كان خطرهم علي متاع الحياة الدنيا..


و استاء مروان لافلات الطير من باب القفص فجأة واحتقن قهرا، فاعتصره الألم الممض، اذ لم يطعه الأمير ابن عتبة بقتل الامام أو سجنه.. فلم يملك نفسه أن صاح صارخا:

«عصيتني، لا والله لايمكنك مثلها في نفسه أبدا..» [7] .

و يبدو بكلامه جادا هذا المخلوق!. فهل ان أبسط القيم العربية تبيح له قتل من يدخل الدار و اغتياله و هو في أمانهم؟؟؟ فما أكثر تأسفه علي خيانة لم تتحقق و جريمة عربية و اسلامية لم تنفذ.. ورد عليه الوليد و علي كلامه الآنف فقال بلهجة العارف بالحسين و من هو، و ان لم يبايعه و يلتزم بفكرته:

«و يحك انك أشرت، علي بذهاب ديني و دنياي، والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها، و أني قتلت حسينا سبحان الله: أأقتل حسينا أن قال لاأبايع، والله ما أظن احدا يلقي الله بدم الحسين الا و هو خفيف الميزان، لاينظر الله اليه يوم القيامة، و لايزكيه و له عذاب اليم» [8] .

فرد عليه مروان و هو بتهكم عليه بقوله: «اذا كان هذا قولك فقد اصبت» و يعقب الطبري علي كلمة مروان بهذه الجملة: «يقول مروان هذا له و هو غير حامد علي رأيه..» [9] و بقي مروان يخاف استلام الحسين للسلطة و قبضه


علي زمام الحكم فتذهب مصالحه الدنيا و مصالح الأموية، الأمر الذي يفسر محاولته لمعارضة الركب عند خروجه من المدينة، كما سنذكر في الفصل الآتي من هذا الباب


پاورقي

[1] انظر کتاب أبوالشهداء ص 16 - ط 1969 2.

[2] انظر کتاب خالد محمد خالد - رجال حول الرسول ص 276 ط 1973 2.

[3] کتاب الفتوح لابن اعثم ج 5 ص 13 ط 1 الهند 1392 هجرية و في اللهوف لابن طاووس: ان مروان قال «لو کنت مکانک لضربت عنقه» فقال الوليد «ليتني لم أک شيئا مذکورا» ص 9 و کذلک في أعيان الشيعة ج 4 ق 1 ص 153 طبعة دمشق بمطبعة الترقي سنة 1354 هجرية.

[4] کتاب (حياة الامام الحسين) لفضيلة الشيخ باقر شريف القرشي ج 2 ص 253 - 251 الطبعة الاولي النجف الأشرف 1395 ه 1975.

[5] تاريخ الأمم و الملوک للطبري، ج 4 ص 251 طبعة 1939 - 1358 والارشاد و الکامل و بحارالانوار.

[6] الفتوح و اللهوف و الکامل في التاريخ لابن الأثير ج 3 ص 264 طبعة مصر 1356.

[7] تاريخ‏الطبري أيضا. وأورد ابن قتيبة في (الامامة والسياسة، ما يلي:

أن مروان قال للوالي: و هو خالد بن الحکم - قال له: «ترکتهما (اي الامام الحسين و بن الزبير) والله لاتظفر منهما أبدا» فقال الوالي لمروان و محک آتشير علي أن أقتل الحسين، فوالله ما يسرني أن لي الدنيا و ما فيها، و ما أحسب أن قاتله يلقي الله بدمه الا خفيف الميزان يوم القيامة» «فقال له مروان مستهزئا» کما صرح ابن قتيبة «ان کنت انما ترکت ذلک لذلک فقد أصبت» بلهجة ساخرة. الامامة و السياسة ح 1 ص 176 - 175 - و انه مما لاجدال فيه أن مروان ليس متطرفا بعدائه المعتاد، و جوابه الاخير، فموقفه ناجم من سجيته کمشتاق للدماء، و عاشق لقتل سبط سيدالأنبياء.

[8] الطبري ج 4 ص 252.

[9] تاريخ الطبري ج 4 ص 252 و الارشاد للمفيد ص 201 و اللهوف لابن طاووس و بحارالانوار للمجلسي ج 44 طبع المکتبة الاسلامية بطهران سنة 1385 هجرية.