بازگشت

السيدة زينب و آل البيت في قصر يزيد بدمشق


لما قضي ابن زياد الخبيث نهمة كبده من الطواف برأس الامام الحسين في الكوفة و أرباضها، أمر بأن يحمل الرأس الشريف، مع رؤس أصحاب الامام من آل البيت الي سيده يزيد بن معاوية في مقر حكمه بدمشق، و قد حمل هذه الرؤوس الشريفة من يدعي «زحر بن قيس» مع اثنين من أعوانه، ثم أرسل العقيلة الطاهرة و سيدات آل البيت، فضلا عن الصبيان، علي أقتاب الابل، و في الركب الامام علي زين العابدين بن الحسين، مغلول الي عنقه، يقوده شمر بن ذي الجوشن و محضر بن ثعلبة، فتلا حق الركبان في الطريق و دخلا الشام معا لي يزيد، فلم يكن علي بن الحسين يكلم أحدا في الطريق كلمة حتي بلغوا.


و روي الطبري عن الغاز بن ربيعة الجرشي، و كان حاضرا في مجلس يزيد، «و الله انا لعند يزيد بن معاوية في دمشق اذ أقبل زحر بن قيس، فدخل علي يزيد، فقال يزيد: ويحك ما وراءك، فقال: أبشر يا أميرالمؤمنين بفتح الله و نصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته و ستين من شيعته، فسرنا اليهم و غدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية، فما كان الا جزر جزور أو نومة قائل حتي أتينا علي آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، و ثيابهم مرملة، و خدودهم مغمرة، و تصهرهم الشمس، و تسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان و الرخم»، و تكرر منظر القصر في الكوفة في قصر دمشق عند يزيد، و كما يقول الاستاذ العقاد، لا نستغرب أن يتكرر بعضه حتي بظن أنه وقع في التاريخ خلط بين المنظرين، لأن المناسبة في هذا المقام تستوحي ضربا واحدا من التعقيب، و ضربا واحدا من الحوار، و ارتاع من بمجلس يزيد من نبأ المقتلة في كربلاء حين بلغتهم و قال يحيي بن الحكم الأموي



لهام بالطف أدني قرابة

من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل



سمية أمسي نسلها عدد الحصي

و بنت رسول الله ليست بذات نسل



فأسكت يزيد قريبه يحيي الأموي هذا، و قال و هو يشير الي الرأس الشريف، و ينكث ثناياه بقضيب في يده: أتدرون من أين أتي هذا «يعني الامام الحسين» أنه قال: أبي علي خير من أبيه، و أمي فاطمة خير من أمه، و جدي رسول الله خير من جده، و أنا خير منه، و أحق بهذا الأمر، فأما أبوه فقد تحاج أبي و أبوه الي الله، و علم الناس أيهما حكم له، و أما أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، و أما جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله و اليوم الآخر، يري لرسول الله فينا عدلا و لا ندا، و لكنه أتي من قبل فقه، و لم يقرأ «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء»، و هو كلام نسب مثله الي أبيه معاوية في رده علي حجج الامام علي في الخلافة، و لعل يزيد قد استعاره من كلام أبيه و زاد عليه.

و سواءا كان هذا من كلام يزيد أو من كلام أبيه معاوية، فمن الواضح،


كما يقول الأستاذ حسين يوسف، أن هذا الكلام فيه كثير من المغالطات، و لعله، أو أبوه ان كان حقا من كلامه، قد أخذته الغرة بالاثم، فوضع نفسه موضع المنبسط لما يجول بخاطر سيد شباب أهل الجنة، ثم وضع نفسه موضع المعلم منه، فضلا عما فيه من تهافت، يبدو واضحا في عدة نقاط، منها (أولا) أن الامام الحسين، عليه السلام، لم يثبت عليه أنه قال ما ادعاه عليه يزيد، لأنه من باب المسلمات، فما كان الامام الحسين بحاجة الي القول أنه خير من يزيد، أبا و أما وجدا و نفسا، فتلك أمور لا يختلف عليها اثنان من المسلمين، فالامام الحسين هو سبط النبي و سيد شباب أهل الجنة، و قد صحب النبي صلي الله عليه و سلم و روي عنه، فضلا عن تصريح النبي صلي الله عليه و سلم أن حسينا معه، و أنه من الحسين، و أن الله يحب من أحبه و يبغض من يبغضه، و ليس بعد هذا علوا أو فضل، و أما الامام علي، فأمره أمر الحسين، فكما أنه لا مجال للمقارنة بينه و بين يزيد، فلا مجال كذلك للمقارنة بين الامام علي و معاوية، فالامام علي كرم الله وجهه في الجنة، و هو رابع الخلفاء الراشدين، و زوج الزهراء، و أبوالحسن و الحسين، و ابن عم النبي و أقرب الناس اليه، و أحد العشرة المبشرين بالجنة و أول من آمن به صلي الله عليه و سلم و صلي خلفه، بعد السيدة خديجة، رضي الله عنها، و من اعتبره رسول الله صلي الله عليه و سلم كنفسه، و هو الذي قال له رسول الله صلي الله عليه و سلم: أنت أخي في الدنيا و الآخرة، و أنت مني بمنزلة هارون من موسي، غير أنه لا نبي بعدي، و لا يحبك الا مؤمن و لا يبغضك الا منافق، و من قال فيه صلي الله عليه و سلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، الي غير ذلك من الفضائل التي تكاد لا تحصي، حتي قال الامام أحمد بن حنبل: «ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي»، و قال اسماعيل القاضي و النسائي و أبوعلي النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان، أكثر مما جاء في علي رضي الله عنه، فأين ذلك الذي من طليق ابن طليق، و ما زعم يزيد الكذوب من أن الامام علي حاج معاوية الي الله، و علم الناس أيهما حكم له، فتلك دعوي لا سند لها من كتاب أو سنة أو سند في التاريخ.

و منها (ثانيا) أن ادعاء يزيد أن الامام الحسين قال انه أحق بهذا الأمر منه،


فتلك حقيقة لا يماري أحد فيها، حتي مرتزقة الأمويين، و مع ذلك فقد تسامي الامام عن الأمر و زهد فيه، و لو لم يحاول الأمويون ارغامه علي البيعة ليزيد، لبقي في المدينة، و لما حدث كل ما حدث من مذابح و مخازي يخجل الشيطان نفسه من أن يرتكبها، و لكن يزيد و عصابته فعلوها، و منها (ثالثا) أن الجهل و الغرور بلغ بيزيد الي أن يظن بأنه أكثر من الامام علما، و أعمق فقها، و أنه أراد أن يعلم سبط النبي، و بضعة الزهراء، و ابن الامام علي، ما لم يعلمه، و أنه و هو القوام بالليل، الصوام بالنهار، لم يقرأ قوله تعالي «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء»، و لكن ماذا نقول للفاجر يزيد، أنقول للفاجر يزيد، أنقول له ان مثل هذه الجهالة لا تستحق أي مبالاة، أم نقول له، صدق من قال: اذا لم تستح فاصنع ما شئت.

ثم هناك أمر آخر، في منتهي الخطورة، ثم هو في الوقت نفسه يبين لنا بمنتهي الوضوح: كيف جني معاوية بن أبي سفيان علي الاسلام و المسلمين، حين فرض عليهم ولده يزيد هذا، بسيوف جهال الشام و أموال المسلمين التي اغتصبها معاوية، كما يبين لنا مدي معرفة يزيد و جهال الشام بالاسلام و أحكامه، و قد أصبح يزيد بسيف أبيه و ذهبه أميرالمؤمنين و خليفة المسلمين، الأمر الذي يجعلنا نتذكر قول الامام الحسن البصري المشهور في معاوية بهذا الصدد، حيث قال، فيما يروي الطبري، «أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه علي هذه الأمة بالسفهاء حتي ابتزها أمرها بغير مشورة منهم، و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة، و استخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا، يلبس الحرير و يضرب بالطنابير، و ادعاؤه زيادا، و قد قال رسول الله صلي الله عليه و سلم الولد للفراش، و للعاهر الحجر، و قتله حجر، ويل له من حجر و أصحابه حجر، ويل له من حجر و أصحابه حجر».

و أما هذا الذي حدث، فلقد روي الطبري و ابن الأثير و ابن كثير، أن رجلا من أهل الشام من بلاط يزيد، رأي السيدة فاطمة بنت الامام الحسين، حفيدة الزهراء بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم، و كانت جارية وضيئة، فقال ليزيد، هب لي هذه،


فأرعدت و أخذت بثياب عمتها العقيلة الطاهرة زينب بنت علي، و كانت من العقل و الفقه بحيث تعلم أن ذلك لا يجوز في شريعة الاسلام و قد أجاب أبوها الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، من سألوه بعد موقعة الجمل: كيف حل لنا قتالهم، و لم يحل لنا سبيهم و أموالهم؟ فقال: «ليس علي الموحدين المؤمنين سبي و لا يغنم من أموالهم، الا ما قاتلوا به و عليه» و من ثم فقد وقفت في الزود عنها موقف كموقفها بقصر الامارة في الكوفة، زيادا عن ابن أخيها علي زين العابدين، و صاحب بالرجل: كذبت و لؤمت، ما ذلك لك و لا له، فتغيظ يزيد و قال: كذبت، ان ذلك لي، و لو شئت لفعلت»، و هكذا أثبت يزيد، و من فرض أميرا علي المؤمنين، أنه جاهل كل الجهل، بحكم الاسلام في هذه الأمور، و من ثم فقد وقفت مه العقيلة الطاهرة موقف المعلم من التلميذ الخائب الغرور، فقال متحدية «كلا و الله ما جعل الله ذلك لك، الا أن تخرج من ملتنا و تدين بغير ديننا»، فازداد يزيد غضبا و أحس بموقفه يزداد حرجا أمام بطانة السوء من أهل الشام، فقال لها مهددا: «اياي تستقبلين بهذا، انما خرج من الدين أبوك و أخوك»، و هكذا ورط الغرور يزيد فسقط سقطة خطيرة بتكفيره الامام علي و الامام الحسين و قد بشر النبي صلي الله عليه و سلم الامام علي بالجنة، و أخيرا بأن الامام الحسين سيد شباب أهل الجنة، فكيف يكون خروجهما من الدين، مع ذلك كله، الا أن يكون يزيد كافرا بما جاء به رسول الله صلي الله عليه و سلم أو علي الأقل جاهلا به، و علي أي حال فلقد استمرت السيدة زينب تؤدي دور المعلم لمن فرض علي المسلمين خليفة لهم، فلم تبال بثورته و لا بتمكنه من الأرض و قدرته علي البطش، فردت حفيدة النبي صلي الله عليه و سلم في ثقة و ايمان، تذكر يزيد بالحقائق التي لا ينكرها أحد، و لا مجال للمناقشة فيها، و تقول له: «بدين الله، و دين أبي، و دين أخي و جدي، اهتديت أنت و أبوك و جدك»، و أسقط في يد الخليفة الجهول، و الأمير السكير الخمير، و مع ذلك أخذته الغرة بالاثم فقال: كذبت يا عدوة الله؛ و حقا اذا لم تستح فاصنع ما شئت، و هل هناك عدم حياء أكثر من أن توصف بنت


رسول الله صلي الله عليه و سلم بأنها عدوة الله، اللهم غفرانك، و من ثم لم تجد العقيلة الطاهرة من أن توقف هذه المهاترات التي يسي ء بها خليفة المسلمين الي الاسلام و المسلمين فقالت «أنت أمير متسلط، تشتم ظالما، و تقهر بسلطانك»، و هكذا لقنت السيدة زينب يزيد درسا، فلم يجد سبيلا الا أن يلجا الي المكابرة، فأنكر دون أن يدري، أن الاسلام الذي بعث به سيدنا و مولانا رسول الله صلي الله عليه و سلم هو الذي أخرج الناس، و منهم هو و أبوه و جده، من ظلمات الوثنية الي نور الايمام، فأظهر بذلك للملأ جهله، كما كشف من قبل عن قلة فقهه في الدين حين غاب عنه ما أدركته العقيلة الطاهرة لأول و هلة من أن مطالبة الشامي الجهول بأن توهب له السيدة فاطمة بنت الامام الحسين، لا تجوز شرعا، لأن نساء المسلمين لا يصح أبدا اعتبارهم سبيا، و معاملتهم معاملة السبي في الحروب، فما بالك بالسيدة فاطمة بنت الامام الحسين «أو بنت الامام علي في بعض الروايات» و بقية سيدات بيت النبوة الطاهرات.

ثم أن هناك موقف آخر، لا ينتظر الا من العقيلة الطاهرة، سليلة محمد صلي الله عليه و سلم سيد الأولين و الآخرين، و ابنه الامام علي و فاطمة البتول، ذلك أنها، سلام الله عليها، عندما رأت الطاغية الأموي، سليل الطلقاء، أبا عن جد، ينكث ثغر شقيقها الامام الحسين، فاذا بعروقها الهاشمية تنتفض، و اذا بشرفها المطلبي يثور، و اذا بحفيدة النبي صلي الله عليه و سلم، و قد رأت المشهد الأليم، كما يقول الأستاذ أحمد فهمي، لم تستطع صبرا، فانبرت ثائرة غاضبة تندد بيزيد، و من نكب الاسلام و المسلمون بولايته، و تقرعه في قوة و جرأة، و تقول له: أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض، و أكناف السماء، فأصبحنا نساق، كما يساق الأساري، أن بنا هوانا علي الله، و بك عليه كرامة، و أن هذا لعظيم خطرك، فشمخت بأنفك، و نظرت في عطفيك جذلان فرحا، حين رأيت الدنيا مستوسقة لك، و الأمور متسقة عليك، أنسيت قول الله تعالي «و لا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خيرا لأنفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما و لهم عذاب مهين»، أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك و ايماءك، و سوقك


بنات رسول الله صلي الله عليه و سلم كالسبايا، و قد هتكت شعورهن، و أبديت وجوههن، ليس معهم من حماتهم حمي، و لا من رجالهن ولي، و أنت تنكث ثنايا أبي عبدالله بمخصرتك، و الله ما فريت الا في جلدك، و لا خرزت الا في لحمك، و سترد علي رسول الله صلي الله عليه و سلم برغمك، و عترته و لحمته في خطيرة القدس، يجمع الله شملهم ملمومين من الشعب، و هو قول الله تعالي (و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)، و سيعلم من بوأك من رقاب المؤمنين، اذا كان الحكم الله، و الخصم محمد صلي الله عليه و سلم و جوارحك شاهدة عليك، فبئس للظالمين بدلا، أيكم شر مكانا و أضعف جندا، فلئن اتخذتنا مغنما، لتتخذن مغرما، حين لا تجد الا ما قدمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة، و يستصرخ بك، و تتعاوي و أتباعك عند الميزان، و قد وجدت أفضل زاد لك قتلك ذرية محمد صلي الله عليه و سلم فو الله ما اتقيت غير الله، و لا شكواي الا الي الله، فكد كيدك، واسع سعيك، و ناصب جهدك فو الله لا يرحض عنك عار ما أتيت الينا أبدا، يوم ينادي المنادي «ألا لعنة الله علي الظالمين»، و الحمدلله الذي ختم بالسعادة و المغفرة لسادات شبان الجنان، فأوجب لهم الجنة».

هذا و قد روي أن لقاء نساء يزيد لآل البيت خير من لقاء يزيد، ذلك أن يزيد بعد مناقشات طويلة مع الامام زين العابدين و العقيلة الطاهرة السيدة زينب، ظهر له فيها بشاعة ما ارتكبه في حق الاسلام و بيت النبوة، و استشعر شيئا من الخزي و الندم، و أمر بتوجيه السيدة زينب و من معها الي دار الحكم و معهن علي بن الحسين، حيث استقبلهن النساء من آل يزيد بالبكاء و النحيب، و أخذن يواسين السيدة زينب و من معها و يعزينهن، ثم سألنها عما سلب منها و منهن في كربلاء، و حاولن رده،فكن أكرم من يزيد و حاشيته، و أوفي منهم ذمة و عهدا، و أقمن علي المناحة ثلاثا.