بازگشت

في الطريق الي الكوفة


واصلت قافلة الايمان من بيت النبوة و أنصارهم، و علي رأسها سبط النبي و سيد شباب أهل الجنة، و مولانا الامام الحسين، طريقها صوب الكوفة، و هي لا تدري بتطور الأحداث فيها، و ما أن وصل ركب الايمان الي مكان يقال له «زبالة» حتي أمر الامام الحسين بالراحة ليومين، و هناك بدأت أخبار الكوفة المؤلمة تصل اليه، عرف بعد ذلك بمتقل ابن عمه مسلم بن عقيل، و كذا هاني ء بن عروة، فكان للخبر وقع أليم في نفس الامام و آل البيت الطاهرين، علي أن رد الفعل من هذا النبأ الرهيب لم يزيد عند من هو بايمانه أقوي من الجبال، الا أن قال «انا الله و انا اليه راجعون، عند الله نحتسب أنفسنا، لا خير في العيش بعد هؤلاء»، و ليس هناك من شك في أن مصرع مسلم و هاني ء انما كان كافيا لصرف الامام الحسين عن غايته، لو كان في موقفه و خروجه، انما يستمد شجاعة و جسارته من مسائدة أهل الكوفة له، و ليس من ايمانه و اقتناعه و ضميره، ذلك لأن قتل مسلم و هاني ء انما يعني من الناحية الاستراتيجية أن الجبهة كلها قد انهارت، و أن أهل الكوفة، علي أحسن الظنون بهم، قد باتوا عاجزين عما كانوا قد جندوا أنفسهم، و هذا كله كاف لكي يلوي الامام الحسين زمام قافلته و يعود، كما أشار عليه بعض


أصحابه و غيرهم من الناصحين، لكن تصميمه كان يقوده، و قدره العظيم كان يناديه، و هنا أعلن الامام لمن معه «قد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام»، فتفرقوا الا أهل بيته، و قليلا ممن تبعوه في الطريق.

و سار الامام الحسين بمن بقي معه من الرجال و النساء و الأطفال يقطع الصحاري المتلظية، و هو يعلم علم اليقين أنه يسير الي نهاية محتومة، و شهادة مؤكدة، فلم يكن أحب اليه من هذه الخاتمة التي اطمأنت لها نفسه و اطمأن اليها قلبه و ارتضاها له جده المصطفي صلي الله عليه و سلم في رؤياه له، و هكذا استأنف الامام و آل بيته الطاهرين مسيرتهم حتي انتهوا الي مكان يدعي «زرود»، و هناك التقي بزهير بن القين، فاسر اليه حديثا، لم يكد الرجل يسمعه حتي تهلل وجهه و امتلأ غبطة و سرورا، ثم التفت الي زوجته و قال لها «أما أنت فالحقي بأهلك، فاني لا أحب أن يصيبك بسببي سوء»، و سرعان ما انصرفت المرأة مع أهله و ذوي قرابته الي موطنهم، و انضم هو الي موكب الامام الحسين، و لم يفارقه حتي استشهدا بين يديه.

و كان ابن زياد قد فرض حول الكوفة حصارا محكما، فلا يخرج من أهلها أحد، مخافة أن ينضموا الي موكب الامام البطل القادم الي الكوفة، و في نفس الوقت أطلق من وراء مشارفها و حدودها البعيدة طلائعه و سراياه، آمرا اياها أن تتربص بقاقلة الامام الحسين، فاذا التفت بها احداها احتجزتها حيث هي، ثم أرسل بالخبر لابن زياد، و عند احدي القري الرابضة علي حدود العراق (أو عند جبل ذي جشم) التقي ركب الامام باحدي تلك الطلائع، و التي كانت تضم ألف فارس، تحت امرة الحر بن يزيد التميمي، و قد أمر بأن لا يدعوا الامام الحسين حتي يأتي به الي ابن زياد، و لم يكد ابن النبي صلي الله عليه و سلم يراهم قادمين نحوه يتصببون عرقا من وقدة الحر، و قد تيبست شفاههم من الظمأ، حتي أمر فتيانه أن يستقبلوهم بالماء، فشربوا حتي رووا، ثم صلوا الظهر جميعا من وراء الامام الحسين، ثم أنبأ الحر بن يزيد الامام الحسين بمهمته عندما تياسر ركب


الامام الي الطريق العذيب، و هكذا كان الحر و فرسانه يلازمون الامام و يصرون علي أخذه الي ابن زياد و صده عن وجهته حيث اتجه غير وجهتهم، فأقبل الامام عليهم يغطهم و هم يصغون اليه، فقال:

«أيها الناس، ان رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: من رأي سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عبادالله بالاثم و العدوان، فلم يغير ما عليه بفعل و لا قول، كان حقا علي الله أن يدخله مدخلة، ألا و ان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، و تركوا طاعة الرحمن، و أظهروا الفساد، و عطلوا الحدود، و استأثروا بالفي ء و أحلوا حرم الله، و حرموا حلاله، و أنا أحق من غيري، و قد أتتني كتبكم و رسلكم ببيعتكم و أنكم لا تسلمونني و لا تخذلونني، فان بقيتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم، و أنا الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم نفسي مع أنفسكم، و أهلي مع أهلكم، فلكم في أسوة، و ان لم تفعلوا و نقضتم عهدي، و خلعتم بيعتي فلعمري ما هي لكم بنكير، و المغرور من أغتربكم، فحظكم أخطأتم، و نصيبكم ضيعتم، و من نكث فانما ينكث عن نفسه، سيغني الله عنكم، و السلام».

و أنصت الحر و فرسانه الي الامام ثم اتجه اليه يحذره قائلا: لئن قاتلت لتقتلن، فصاح به الامام الحسين: «أبالموت تخوفني، و هل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني»، ثم سار الركبان ينظر بعضهم الي بعض، كلما مال الامام الحسين نحو البادية أسرع الحر برده نحو الكوفة، حتي نزلا في «نينوي»، تلك القرية التي قيل أنها كانت موطن النبي يونس عليه السلام، حتي تراءي لهم من وراء النقع المثار، ركب يغدو السير و يطوي الرمال، و لبثوا مكانهم ينتظرون، فاذا ركب مقبل عليه السلاح، يحيي الحر، و لا يحيي الامام الحسين، ثم أسلم الحر كتابا من ابن زياد يقول فيه «أما بعد، فجعجع بالحسين حتي يبلغك كتابي، و يقدم عليك رسولي، فلا تنزله الا بالعراء في غير حصن و علي غير ماء، و قد أمرت رسولي أن يلزمك يفارقك حتي يأيتني بانفاذك أمري و السلام»، و بدأ الحر ينفذ أوامر ابن زياد، و هما قال «زهير بن القين» للامام الحسين: «انه لا يكون


و الله ما بعد ما ترون الا ما هو أشد منه، يا ابن رسول الله، ان قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به، فهلم نناجز هؤلاء»، فأعرض الامام الحسن عن مشورته، و قال: «اني أكره أن أبدأهم بقتال».

و لم يمض قليل حتي لاح في الأفق أربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة علي رأسهم الطرماح بن عدي، يقصدون الامام الحسين، فحاول الحر أن يمنعهم، فقال الامام متوعدا: «انما هؤلاء أنصاري و أعواني، و هم بمنزلة من جاء معي، فان تممت علي ما كان بيني و بينك، و الا ناجزيك»، فكف الحر عن مناجزتهم، ثم سألهم الامام الحسين عن أخبار الناس في الكوفة، فأخبره أحدهم «أما أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم، و ملئت غرائرهم، يستمال ودهم، و يستخلص به نصيحتهم، فهم الب واحد عليك، و أما سائر الناس بعد، فان أفئدتهم تهوي اليك، و سيوفهم غدا مشهورة عليك»، ثم قال له الطرماح بن عدي: و الله اني لأنظر فما أري معك الا هذه الشرذمة اليسيرة، و اني لأري هؤلاء القوم الذي يسايرونك أكفاء لمن معك، فكيف و ظاهر الكوفة مملوء بالخيول و الجيوش، اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحون اليك، فأنشدك الله ان قدرت أن لا تتقدم اليهم شبرا فافعل، فان أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به، فسر حتي أنزلك مناع جبلنا الذي امتنعنا و الله به من ملوك غسان و حمير، و من النعمان بن المنذر، و من الأسود و الأحمر، و الله ما دخل علينا ذل قط، فأسير معك حتي أنزلك القرية، ثم نبعث الي الرجال، فلا يأتي عليك عشرة أيام، حتي تأتيك طي ء رجالا و ركبانا، ثم أقم فينا ما بدا لك، فان هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي، يضربون بين يديك أسيافهم، و الله لا يوصل اليك أبدا، و منهم عين تطرف»، فما كان من الامام الحسين الا أن شكر الطرماح علي عرضه هذا، و قال له: «جزاك الله و قومك خيرا»، و هو يري العواطف تحيط به من كل جانب، و جيش الحر بن يزيد يحيط به من أمامه و من خلفه.

و بدأ الركب في المسير، و لكن الحر بن يزيد خشي أن تفلت الفرصة منه،


فتصدي للركب السائر و أصر علي النزول حيث انتهت خطواته، و نزل الركب من فوق رواحله، و ألقي مولانا الامام الحسين بصره علي الفضاء الموحش حوله، ثم سأل عناسم هذا المكان، فأجابه زهير بن القين: «ان هذه الأرض تسمي «الطف» فقال الأمام الحسين: هل لها اسم غيره، قال تعرف «كربلاء»، فرد الامام «كرب و بلاء»، و أدرك الامام كل شي ء و سرعان ما تذكر يوم أن كان مع أبيه الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و هو في الطريق الي «صفين»، فوقف الامام علي علي نفس المكان و قال: «هنا محط ركابهم، و مهراق دمائهم، فتية من آل محمد صلي الله عليه و سلم، و راح الامام الحسين يستعيد لخواطره ذلك اليوم، و تلك الواقعة، و تلك النبوءة، ثم بدأ يشارك أصحابه في شد الخيام، و هو يردد قوله تعالي: «ان وليي الله الذي نزل الكتاب و هو يتولي الصاحلين».