بازگشت

الخروج الي مكة


أخذ الامام الحسين يستعرض الموقف، بعد مقابلته للوليد، ثم بدأ يفكر فيه و يقلب وجوهه فهو قدر رفض من قبل، و علي أيام معاوية، أن يبايع يزيد، لأنه لم يكن أهلا للخلافة، بما عرف عنه من شرب الخمر و ممارسة اللهو والمجون، و ملاعبة الكلاب و القرود حتي لقب «يزيد القرود»، و هو ما يزال علي حاله لم يتغير بعد وفاة أبيه، ثم هو تنقصه كل مقومات الرجل المناسب لخلافة


المسلمين، في عهد ما يزال كثير من رجاله ممن عاشوا عصر النبوة و الخلافة الراشدة، علي قيد الحياة، ثم هو كذلك مفلس افلاسا تاما منكل ما كان لأبيه من دهاء و مقدرة، هذا فضلا عن أن حرصه الشديد علي ارغام المعارضين علي مبايعته، و الا ضربت أعناقهم، و هم من أجلاء الصحابة، و فيهم سبط النبي صلي الله عليه و سلم و ريحانته، و سيد شباب أهل الجنة، لمن أقوي الأسباب علي عدم صلاحيته لأن يكون أميرا للمؤمنين و خليفة للمسلمين، و أنه لا ريب سينهج نهج الجبابرة المسرفين، لا نهج المتقين الراشدين، الأمر الذي يزيد المخاوف، و يؤكد خطورة بيعته علي الاسلام و المسلمين، أضف الي ذلك كله أن الامام الحسين لم يفته موقف مروان و تهديده بالقتل، ان لم يبايع، و من ثم فقد استشعر الامام الحسين الخطر علي حياته، اذ أن يزيد لن يتركه، الا اذا بايع.

و هكذا فكر الامام الحسين في الأمر، و قلب وجوه الرأي، فاستقر عزمه علي ألا يخالف ضميره، و ألا يخون أمانة المسلمين بمبايعة يزيد، و أن بقاءه بالمدينة سيجعله بين أمرين، أحلاهما مر، فاما أن يبايع مكرها من لا يؤمن بصلاحيته أميرا لخير أمة أخرجت للناس، طلبا للسلامة، وردأ للظلم و العدوان، و اما أن يأبي البيعة، ابراء للذمة، و ارضاء لله و رسوله، فيقع به من العدوان ما قد يصل الي سفك دمه، و ضرب عنقه، و من ثم فقد اتجه عزمه الي الخروج من المدينة لينجو بحياته و ينقذ دينه و يرضي ضميره، بخاصة و أن القوم لن يتركوه، بعد ما عرف أن الوليد قد أرسل في اثر ابن الزبير ثمانين فارسا يطلبونه ليردوده الي المدينة، و ان فشلوا في رده اليها.

و هكذا أيقن الامام الحسين أنه مطالب ببيعة يزيد، طوما أو كرها، و الا ضربت عنقه، كما أشار بذلك مروان، و من ثم فلم يكن أمامه - و هو الفقيه في دين الله، العارف بكتاب الله و سنة رسول الله - الا أن يخرج من المدينة، استجابة لقوله تعالي: (ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الارض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها). و ما كان الامام الحسين، سليل بيت النبوة، و ربيب العز و الكرامة من آل هاشم


أن يرضي لنفسه أن يعيش مرغما و أرض الله واسعة، و ما كان له أن يتأخر عن الهجرة، فرار بدينه، و حفاضا علي حريته و كرامته، و هكذا خرج الامام الحسين من مدينة جده الرسول صلي الله عليه و سلم الي البلد الحرام مكة المكرمة في ليلة الثامن و العشرين من رجب عام 60 ه، و هو يردد قوله تعالي، (فخرج منها خائفا يترقب قل رب بجني من القوم الظالمين) و لزم في مسيرة الطريق الأعظم، فلم يتنكبه، كما فعل ابن الزبير، مخافة الطلب، و يروي الطبري أن أحد مرافقي الامام الحسين قال: «خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم، فقيل للحسين: لو تنكبت الطريق الأعظم، كما فعل ابن الزبير، لا يلحقك الطلب، قال لا، لا أفارقه حتي يقضي الله ما هو أحب اليه، قال: فاستقبلنا عبدالله بن مطيع، فقال للحسين: جعلت فداك أين تريد، قال: أما الآن فاني أريد مكة، و أما بعدها فاني استخير الله، قال خار الله لك، و جعلنا فداك، فاذا أنت أتيت مكة فاياك أن تقرب الكوفة فانها بلد مشئومة، بها قتل أبوك و خذل أخوك، الزم الحرم، فانك سيد العرب، لا يعدل بك و الله أهل الحجاز أحد، و سيتداعي اليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي و خالي، فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك»، و استمر الامام في طريقه فما أن أشرف علي مكة المكرة حتي أخذ يتلو قوله تعالي «و لما توجه تلقاء مدين قال عسي ربي؟ أن يهديني سواء السبيل».

وصل الامام الحسين الي مكة المكرمة في الثالث من شعبان عام 60 ه، و سرعان ما أقبل أهلها، بل و أقبلت الوفود من خارجها علي ابن بنت رسول الله صلي الله عليه و سلم تلتمس منه الحكمة و الهدي و النور، و أقبل أمير مكة يسأل الامام الحسين عن سبب قدومه، فقال «انا جئنا عواذا بالبيت»، مما يدل علي أن الامام انما جاء الي البلد الحرام لينجو بدينه، و ليحتمي بالبيت الحرام، الذي جعله الله مثابة للناس و أمنا، و لينجو من مطاردة البغي و العدوان، و ليتزود بتقوي الله و تعظيم شعائره، حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا، و هكذا رحل الامام الحسين الي البلد الحرام الذي يلتمس الناس فيه الأمن و الملاذ، و اصطحب معه أختاه السيدة زينب و السيدة أم كلثوم، و اخوته، أبوبكر و العباس و جعفر، و أولاد أخيه


الحسن، و جميع من كان بالمدينة من أهل البيت، ما عدا ابن الحنفية، الذي آثر البقاء بالمدينة، و ان ذهب البعض الي أن ذلك كان بأمر الحسين ليكون له عينا علي بني أمية بها.

و بدهي أن مكة المكرمة، انما كانت، كما يقول الأستاذ خالد محمد خالد، أنسب مكان يدير فيه الامام الحسين خواطره و تفكيره حول القضية الجليلة التي تشغله، و الوضع الخطير الذي حاق بالمسلمين، فهنا، و في قديم الزمان، كان هاشم و عبد شمس أخوان ولدا لعبد مناف، و من هشام جاء النبي صلي الله عليه و سلم و الامام علي، و حمزة و الحسين، و بنوهاشم أجمعون، و من عبد شمس جاء أمية و أبوسفيان و معاوية و يزيد و كافة الأمويين، و هنا كان هاشم يملأ مكة و الجزيرة برا و مجدا و كرما، فهو الذي يطعم الحجيج و يحمي الذمار، و يرسل قوافله الي الشام و الي اليمن لتعود موفورة بالخير و الرزق للناس، فيما عبد شمس مزمع أسفار دائما، لا يحمل تجاه قومه من تبعات، و هنا يستطيع الامام الحسين أن يمد بصره فيري الدار التي عاش فيها و بزغ منها جده العظيم، محمد رسول الله صلي الله عليه و سلم هاتفا لكلمة الله، حاملا معوله الرشيد في وجه وثنية الحجر، و وثنية البشر، و يستطيع أن يمد بصره فيري زمزم التي حفرها جده عبدالمطلب، و التي كانت لقريش حياة و ريا، و للمسلمين تراثا و منسكا، و هنا يستطيع أن يري الأصداء الصادقة الباهرة لصوت جده أبي طالب و هو يقول لجده الرسول صلي الله عليه و سلم: «يا ابن أخي، أدع الي سبيل ربك ما شئت، فو الله لا أسلمك اليهم أبدا»، ثم يقف الي جواره كالطود، مضحيا براحته و أمنه و مكانته بين قومه، كما يسمع الأصداء الصادقة الباهرة لصوت جدته العظيمة خديجة، و هي تقول للرسول صلي الله عليه و سلم «والله لا يخزيك الله أبدا»، ثم تنهض الي جواره في وجه قريش، واضعة كل ثروتها و جاهها في خدمة الدين الحق الجديد، و هنا يسمع الحسين بكل سمعه و قلبه كلمات جده الرسول صلي الله عليه و سلم: «و الله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، علي أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتي يقضيه الله أو أهلك دونه»، و لسوف يسأل الامام نفسه علي دين الله الذي رفض جده صلي الله عليه و سلم أن يتخلي عنه، و لو


أوتي ملك الشمس و القمر و ما بينهما، و يجيبه الواقع أن دين الله في محنة، انه يتحول الي ملك عضوض، و ان الذي يحمل لواءه اليوم طاغية، يقال له يزيد، و اذا ما سأل عنه، و ما المصير، فان وعيه و رشده يجيبان: عودة الجاهلية و سيادة الوثنية، و دنو ساعة هذه الأمة، ألم يقل جده النبي صلي الله عليه و سلم «اذا وسد الأمر لغير أهله، فانتظر الساعة»، فها هو ذا قد و سد لغير أهله، بل لشر أهله، و اذا ما عاد الامام و سأل عن واجبه ازاء هذه المحنة، فان ضميره يجيبه: المقاومة، الآن و ابدأ، حتي يفوز الحق أو نهلك دونه.

و هكذا كانت كل حوافز الثورة علي هذا الضلال كامنة في وعي الامام الحسين و وجدانه، كما كانت نتيجة ادراكه السيديد لحق الدين عليه و استعداده للتضحية في سبيل الله، فما كان الامام الحسين ليدع دين الله و دنيا الناس ألعوبة في يد يزيد القرود، سواء دعاه أهل الكوفة أم لم يدعوه، فلقد كان سبط النبي صلي الله عليه و سلم و ريحانته آنما يهتدي الي مسئولياته نحو دين جده صلي الله عليه و سلم بنور ايمانه و بصوت ضميره، و هكذا كان خروجه من المدينة الي مكة و رفضه البيعة ليزيد، ربما يشكلان اعلانا للقماومة، فهو يعلم أن يزيد لن يتركه حتي يبايع، و هو لن يبايع أبدا، و اذا ستكون المجابهة بينهما أمرا محتوما، ثم ان للامام الحسين طبيعة جياشة ثائرة، يربطها بالحق ولاء وثيق عجيب، و تستمد من فضائل الدين العالية، و من تراث حسبه العريق، زادا لا يفني من الصمود و المثابرة، و هكذا كانت القضية في ذهن الامام الحسين، و لم تكن أبدا طموحا شخصيا، يحتاج الي موازنة بين فرص النجاح و احتمالات الاخفاق، أو طمعا في خلافة أو التماسا لجاه أو سعيا الي فتنة، فقد كان، عليه السلام، أزهد الناس في الدنيا، أبعدهم عن الفتنة، و أخشاهم لله، و انما كانت القضية عند الامام قضية الحق وحده، حق دين، و حق أمة، و حق دولة، و حق مصير، فاما أن ينتصر الحق أو فليمت الأبرار دونه، و من لقيادة الأبرار في هذا المجال غير الامام الحسين، سبط النبي صلي الله عليه و سلم و ريحانته، و سيد شباب أهل الجنة، و ابن فارس الاسلام، الامام علي، و بضعة الزهراء، خير ابن لخير آباء، و أكرم وارث لبيت التضحية و البذل


و القداء، ان ملايين المسلمين في كل العصور و الأزمان يصلون علي الحسين و آله في صلواتهم اناء الليل و أطراف النهار، أليس كل مسلم كان أو سيكون يختم صلاته قائلا «التحيات المباركات، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته، السلام علينا و علي عبادالله الصالحين، أشهد ألا اله الا الله و أشهد أن محمدا رسول الله، اللهم صل علي محمد، و علي آل محمد»، أو ليس الحسين من آل محمد صلي الله عليه و سلم، بل هو درتهم الفريدة و المجيدة، ومن ثم فان للذين يصلون عليه عبر الزمان و الأجيال حقا عيه، سيتقضيه تضحيات عظيمة، و متي تكون التضحية اذا لم تكن اليوم، و دين المسلمين يتحول الي مزرعة أموية، و أمجادهم العظيمة يستولي عليها مخلوق عابث، و مصايرهم الكبري تمسك بهم أيدي وصولين جباه، و جلادين طغاة، و هكذا لم يكن بد من أن يقاوم الامام الحسين هذا الطغيان العابث، و ان دفعت حياته ثمنا له.

و هكذا لم يكن الأمر، كما صوره مرتزقة التاريخ، خروجا علي الحاكم الشرعي أو طمعا في الخلافة او اجابة لرغبة أهل الكوفة، و لو كان كذلك، لما انتظر الامام الحسين وفاة معاوية و تولية يزيد، و لاستجاب لدعوة أهل الكوفة بعد وفاة أخيه الامام الحسن، ثم بعد مطاردة أنصار أهل البيت، و لا ستغل المجزرة الرهيبة التي قام بها معاوية، فقتل فيها حجرا و أصحابه صبرا، و لأول مرة في الاسلام، في عذراء علي مقربة من دمشق، فاستجاب لنداءات ثوار الكوفة، روي الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء، و في تاريخ الاسلام، أن أهل الكوفة كانوا يكتبون الي الحسين يدعونه الي الخروج اليهم زمن معاوية، و هو يأبي، فقدم منهم قوم الي محمد بن الحنفية، و طلبوا اليه أن يخرج اليهم فأبي، و جاء الي الحسين فأخبره بما عرضوه عليه»، فلم يتردد الامام الحسين أن يقول لأخيه «ان القوم انما يريدون أن يأكلوا بنا و يستطيلوا بنا، و يستبطوا دماء الناس و دماءنا»، غير أن الأمر هنا انما هو جده مختلف، فلقد أصبح الاسلام بتوليه يزيد في محنة، ثم ان لمعاوية بيعة في عنق الامام بمقتضي شروط الصلح التي لم يف بها معاوية نفسه، و لكن آل البيت انما كانوا دائما بعهودهم يوفون، و قد روي


ان الامام الحسين قال لأهل الكوفة «انا قد بايعنا و عاهدنا، و لا سبيل لنقص بيعتنا»، و حتي لو صدقنا مرتزقة التاريخ في دعواهم الكذوب هذه، فما يضير الامام الحسين منها، و هم أنفسهم يعترفون بأنه لم يكن علي وجه الأرض من يفضله شرفا و حسبا أو يرجحه علما و فقها و ايمانا و يقينا، و هو بهذه الصفات، فضلا عن مكانه من رسول الله صلي الله عليه و سلم، كان أحق بالخلافة من يزيد، و كل آل يزيد، و لا وجه مطلقا للمفاضلة بينهما.

و علي أي حال، فلقد أقام الامام الحسين و أهله في مكة المكرمة بقية شعبان و حتي الثامن من ذي الحجة عام 60 ه، و أقبل أهل مكة و من كان بها من المعتمرين و غيرهم يختلفوم اليه، و أنزلوه في قلوبهم منازل الحب و الاعزاز، و أقبلوا علي مجلسه لينهلوا من علمه و يستفيدوا من حديثه، و يستعيدوا بلقائه و شهود مجلسه أيام جده صلي الله عليه و سلم، و ما أن بلغ أهل الكوفة امتناع الامام الحسين عن البيعة ليزيد حتي أجمعوا أمرهم، برياسة الصحابي الجليل سليمان بن صرد، و المسيب بن نجية، و رفاعة بن شداد البجلي، و حبيب بن مظاهر، و عبدالله بن وال، و كتبوا للامام الحسين «أنه ليس علينا امام غيرك فأقبل، لعل الله يجمعنا بك و علي الحق، و النعمان بن بشير في قصر الامارة، و لسنا نجتمع معه في جمعه و لا نخرج معه الي عيد، و لو قد بلغنا أنك أقبلت أخرجناه حتي يلحق بالشام ان شاء الله تعالي»، و وصل وفد منه الي مكة، و معهم نحو مائة و خمسين صحيفة، و ورد علي الامام الحسين في يوم واحد ستمائة كتاب، و تواترت الكتب حتي اجتمع عنده اثنا عشر ألف كتاب»، و في رواية للطبري أن أهل الكوفة كتبوا الي الامام، أن لك هنا مائة ألف سيف فلا تتأخر، و هكذا قرر الامام الحسين أن يرسل ابن عمه مسلم بن عقيل ليتعرف الأمور بنفسه في الكوفة، فما كان مسلم بستقر فيها حتي سارعوا اليه يبايعونه علي السير تحت لواء الامام الحسين مهما تكن التضحيات.

و فرع يزيد و أتباعه من التفاف الناس حول الامام في مكة، و كثرة الوفود المقبلة عليه من سائر الآفاق، و من القادمين الي مكة للعمرة أو الحج، و زاد من


فزعهم رفض الامام البيعة ليزيد، و أن له أنصارا كثيرين من الشيعة الذين يعج بهم العراق، و حاروا مع والده الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و التفوا من بعد حول أخيه الامام الحسن، و قد وصلهم أبناء رفض الامام الحسين و ابن الزبير البيعة، ثم سرعان ما تتابعت الأحداث بمكة حيث عزل يزيد و اليه الوليد بن عتبة، و ولي مكانه عمرو بن سعيد بن العاص، و كان جبارا قاسيا، و قد حاول فعلا استباحة البلد الحرام في سبيل ارغام ابن الزبير و أخذه أسيرا و اكراهه علي البيعة ليزيد، علي الرغم من احتمائه بالبيت الحرام، و تعلقه بأستار الكعبة المشرفة، حيث سير جيشا، بأمر يزيد، جعل علي رأسه عمرو بن الزبير (الاخ الأصغر لعبد الله بن الزبير) الذي أعلن، عندما حاول مروان أن يرده عن ذلك «و الله لنقاتلنه، و لنغزونه في جوف الكعبة، علي رغم أنف من رغم».

و تقدم الصحابي الجليل أبوشريح العدوي ينصح الوالي عمرو بن سعيد قائلا، فيما يروي البخاري في صحيحه، «ائذن لي أيها الامير: أحدثك قولا قام به النبي الغد من يوم الفتح «أي ثاني يوم فتح مكة» سمعته أذناي و وعاه قلبي و أبصرته عيناي، حين تكلم به، حمدالله و أثني عليه ثم قال «ان مكة حرمها الله و لم يحرمها الناس، فلا يحل لامري ء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسفك بها دما، و لا يعضد بها شجرة فان أحد ترخص لقتال رسول الله صلي الله عليه و سلم فيها، فقولوا: قد أذن لرسوله و لم يأذن لكم، و انما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم، كحرمتها بالأمس، و ليبلغ الشاهد الحاضر» (و انظر روايات أخري للحديث و حرمة البيت الحرام - صحيح البخاري 19 - 17 / 3)، و مع ذلك فقد أمر الوالي بارسال الحملة، و لكنها سرعان ما هزمت، و أسر قائدها، ثم مات تحت ضرب سياط أخيه عبدالله بن الزبير، و بدهي أنه كان لهذه الأحداث، اثر عميق في نفس الامام الحسين، و من أهم البواعث التي جعلته يفكر في الخروج من مكة، فلقد أحس منذ فكر أعداؤه الأمويون في غزو البيت الحرام، و تعقبهم لعبدالله بن الزبير أنه أصبح غير آمن علي نفسه، و من أن يناله ما نال ابن الزبير، كما أنه خشي علي أهل مكة من أن يكون بقاؤه في المدينة المقدسة سببا


في هتك حرمتها، و اهدار قدسية البيت العتيق،فقد تبين له أن أعداءه الأمويين لا ينتظر منهم أن يحترموا قدسية بيت الله الحرام، أو أن يخافوا من اسباحة الدماء فيه و الاعتداء علي الآمنين من سكان مكة المكرمة، و من ثم فقد قرر أن يهاجر منها حيت لا يكون سببا في هتك حرمتها، و في نفس الوقت كان قد بلغه أن مسلما قد نزل الكوفة، فاجتمع علي بيعته للامام الحسين اثني عشر ألفا، و قيل ثمانية عشر ألفا، و هكذا كان قرار الامام الحسين مغادرة مكة، حفظا لحرمة البيت، و حقنا لدماء المسلمين.

هذا و قد نصح كثير من أجلاء الصحابة بدم خروج الامام الحسين من مكة، و كان ابن الزبير من هؤلاء الناصحين، فقد روي أنه قال للامام الحسين «ان شئت أن تقيم بالحجاز آزرناك و نصحنا لك و بايعناك، و ان لم تشأ البيعة بالحجاز توليني أنا البيعة فتطاع ولا تعصي»، فرد عليه الامام الحسين قائلا: «ان أبي حدثني أن لها كبشأ به تستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش، و الله لأن أقتل خارجا منها بشبر، أحب الي أن أقتل فيها، و لأن أقتل خارجا منها بشبرين، أحب الي من أن أقتل خارجا منها بشبر، و أيم الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني حتي يقضوا بي حاجتهم، و الله ليعتدين علي، كما اعتدت اليهود في السبت»، علي أن هناك من المؤرخين من يزعم أن ابن الزبير كان متهم النصيحة، يقول أبو الفرج الأصفهاني: «ان عبدالله بن الزبير لم يكن أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز، و لا أحب اليه من خروجه الي العراق، طمعا في الوثوب بالحجاز، لأنه لا يتم له الا بعد خروج الحسين، فلقيه و قال له: علي أي شي ء عزمت يا أبا عبدالله، فأخبره برأيه في ايتائه الكوفة، و أعلمه بما كتب به مسلم بن عقيل، فقال ابن الزبير: فما يحبسك، فو الله لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلومت في شي ء» و في رواية المسعودي: بلغ ابن الزبير أنه «أي الامام الحسين» يريد الخروج الي الكوفة، و هو أثقل الناس عليه، و قد غمه مكانه بمكة، لأن الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين، فلم يكن شي ء يؤتاه أحب اليه من شخوص الحسين عن مكة، فأتاه فقال: «أبا عبدالله ما عندك،


فو الله لقد خفت الله في ترك جهاد هؤلاء القوم علي ظلمهم و استذلالهم الصالحين من عبادالله، فقال حسين: قد عزمت علي اتيان الكوفة فقال: وفقك الله، أما أن لي بها مثل أنصارك ما عدلت عنها»، ثم خاف أن يتهمه فقال: «و لو أقمت بمكانك فدعوتنا و أهل الحجاز الي بيعتك، أجبناك و كنا اليك سراعا، و كنت أحق بذلك من يزيد، و أبي يزيد»، و علي أي حال، فلقد جعل الناس يلحون علي الامام الحسين أن لا يخرج من مكة، يخوفونه بأس يزيد، و بطش ابن زياد، و غدر أهل الكوفة، و كان يقول دائما «لأن أقتل بمكان كذا و كذا، أحب الي من أن أقتل بمكة و تستحل بي». و هكذا كان الامام الحسين برفضه مبايعة يزيد، و بتصميمه علي مقاومته، يري المجابهة أمرا محتوما، لكنه لم يرد لهذه المجابهة أن تقع في البلد الحرام، فهو علي بينة من سفالة خصومه، و هو يعلم أنهم لن يتورعوا عن هدم المسجد ذاته، و الكعبة ذاتها، اذا اضطرهم القتال لذلك، ثم ان أهل الكوفة و قد دعوه، و وثقت دعوتهم بكتاب ابن عمه «مسلم بن عقيل»، فلقد صار لزاما عليه، وفق اقتناعه بعدالة قضيته أن يسارع الي تلك الجبهة التي أعدت نفسها لمناصرته و المقاومة معه.

و لعل أنصح الناس في هذه المسألة انما كان «عبدالله بن عباس» لما بينهما من القرابة، و ما عرف عنه من الدهاء، فلقد حاول مرارا أن يثني الامام الحسين عن الخروج من مكة، و لكنه لم يستطع، طلب اليه مرة أن يكف عن الخروج و ليبايع يزيد، فقال الامام: «هيهات يا ابن عباس، و كيف أبايع يزيد، اذا علي الاسلام السلام، فقال ابن عباس: اذا لم ترحل فابق بمكة فليس بها أعز منك، فقال الحسين بمرارة: و لو بقيت في مكة لن يتركني القوم، و انهم يطلبونني أين كنت حتي أبايعهم كرها و يقتلونني، و الله انهم يعتدون علي، و اني ماض في أمر رسول الله حيث أمرني، و انا لله و انا اليه راجعون»، ثم نصح له مرة ثانية أن يذهب الي اليمن «فان بها حصونا و شعابا، و لأبيك بها شيعة»، ثم جاءه مرة ثالثة يحذره من غدر أهل الكوفة، فلا تسر بأهلك و نسائك، فو الله اني أخاف أن تقتل و هم ينظرون اليك»، فقال الامام الحسين متألما: يا ابن العم، اني رأيت رسول


الله صلي الله عليه و سلم في منامي و قد أمرني بأمر لا أقدر علي خلافة، و قد أمرني بأخذهم معي، و هم ودائع رسول الله صلي الله عليه و سلم و لا آمن أحدا عليهن، و هن ايضا لا يفارقني»، فقال ابن عباس: «و الله لو أعلم أني أخذت بناصيتك، و أخذت بناصيتي حتي تجتمع علينا الناس، أطعتني و أقمت، لفعلت»، ثم خرج و هو يقول: «لقد أقررت عين ابن الزبير بمخرجك من الحجاز».

و هكذا يبدو واضحا أن سيدالشهداء لم يكن يبالي بحياته، بقدر ما كان يهمه أن يظل للبيت الحرام مكانته في النفوس، و له حرمته و قدسيته، كما أنه من الواضح كذلك أن سكوت ابن عباس و ابن الزبير، علي ما ذكره الامام الحسين عن احتمال مقاتلته بمكة و اسحلالها به، يدل علي أن ظنه في الأمويين كان في موضعه، و أن النية المبيتة ضده لم تكن محل شك أو غموض، حتي أن ابن عباس أقره أخيرا علي رأيه، حتي أنه ليقول «فكان هذا الذي سلي نفسي عنه»، ثم ان القضية التي خرج الامام الحسين حاملا لواءها، لم تكن قضية شخصية تتعلق بحق له في الخلافة، أو ترجعه الي عدواة شخصية يضمرها ليزيد، كما أنها لم تكن قضية طموح يستحوذ علي صاحبه و يدفعه الي المغامرة التي يستوي فيها احتمال الربح و الخسران، انما كانت القضية أجل و أسمي و أعظم، كانت قضية الاسلام و مصيره، و المسلمين و مصيرهم، و اذا صمت المسلمون جميعهم تجاه هذا الباطل الذي أنكره البعض بلسانه، و ينكره الجميع بقلوبهم، فمعني ذلك أن الاسلام قد كف عنه انجاب الرجال، و معناه أن المسلمين قد فقدوا أهليه الأنتماء لهذا الدين العظيم، و معناه أيضا أن مصير الاسلام و المسلمين معا، قد أمسي معلقا بالقوة الباطشة، فمن غلب ركب، و لم يعد للقرآن و لا للحقيقة سلطان، هذه هي القضية في روع الامام الحسين، و بهذا المنطق أصر علي الخروج.

و انطلاقا من كل هذا، فلم يكن الامام الحسين، سبط النبي و سيد شباب أهل الجنة، قد أبي نصيحة الناصحين، عنادا أو ركوبا لرأسه، كما يقول مرتزقة التاريخ، و انما كان يعلم أن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، سيأخذه بالبيعة أخذا


عنيفا، فان بايع غش نفسه و خان ضميره و خالف عن دينه، لأنه كان يري بيعة يزيد اثما، و ان لم يبايع صنع به يزيد ما يشاء، ثم استحل به البيت الحرام، كما أن الامام الحسين لم يكن مخطئا فيما قدر، فهو قد عرف ما كان من غضب يزيد علي ابن الزبير، حين امتنع عن البيعة، و أقسم ألا يرضي حتي يحمل اليه ابن الزبير في جامعة يقاد اليه، كما يقاد الأسير، و لم يخطي ء الامام الحسين حين أبي أن يترك أهل بيته بالحجاز، فلم يكن يأمن أن يأخذهم يزيد بمسيره هو الي العراق منابذا للسلطان، و قد أثبتت الأيام صدق فراسة الامام الحسين و أنه كان علي صواب في خروجه من المدينة و التجائه الي البلد الحرام، و سوف تثبت الأحداث المقبلة أن سيد شباب أهل الجنة كان علي صواب في خروجه من مكة الي العراق، و لنفس الأسباب التي ترك من أجلها مدينة جده النبي صلي الله عليه و سلم و أنه كان لابد أن يأخذ أهله معه، فما حدث في كربلاء و ما بعدها، في الكوفة و دمشق، و ما حدث في المدينة يوم الحرة، انما يدل علي أن يزيد لا يقيم للمقدسات و زنا، فان جيوشه لم تكتف بقتال أهل المدينة الذين ثاروا لمقتل الامام الحسين و أهل بيته الطاهرين في مجزرة كربلاء، و التغلب عليهم، حتي أذن لجيوشه باستباحة مدينة الرسول صلي الله عليه و سلم ثلاثة أيام، فقتلوا الكثير من أشرافها و قرائها، و انتهبوا أموالها، و انتكهوا حرماتها، فوقعوا علي النساء، حتي حملت ألف امرأة من غير زواج، فيما يروي ابن كثير، ثم لم يكتف يزيد بكل هذه المنكرات حتي سير جيوشه الي مكة المكرمة فحاصروها و ضربوا الكعبة المشرفة بالمجانيق، و رموها بالنار، و لا شك أن من يفعل هذا كله، لا يشرف دينا، أي دين، و لا رجالا، أي رجال، و لا جنسا، أي جنس، أن ينتسب اليه يزيد هذا، و ليقل مرتزقة التاريخ في هذا اليزيد و أهله ما يقولون، فان التاريخ لن يضعه الا في مكانه الذي يستحقه أمثاله، ممن ابتلي تاريخ الانسانية بهم.

و أخيرا، فلا ريب أن هجرة الامام الحسين، سبط النبي، و بضعة الزهراء، و ابن الامام علي، و سيد شباب أهل الجنة، من المدينة الي مكة، و من مكة الي العراق، انما كانت في سبيل الله وحده، و ابتغاء وجهه الكريم، و ليس لأحد بعد


ذلك، يؤمن بالله و اليوم الآخر، أن يقف من سيد شباب أهل الجنة موقف المنتقد لأعماله المتأول لأقواله، و قد صرح سيدنا و مولانا رسول الله صلي الله عليه و سلم في الحديث المشهور «حسين مني، و أنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط»، و من ثم فلا يصح أن يتجرأ مسلم علي نقد الامام الحسين، عليه السلام، الا أن يكون أفضل منه مقاما، و أقفه منه علما، و المتفق عليه بين علماء المسلمين أنه لم يكن علي وجه الأرض في حينه من يدانيه شرفا و حسبا، و ايمانا و تقوي، و علما و فضلا، فكيف بمن جاء بعده بمئات السنين، و هم دون شك دون من قبلهم، ثم ان الذي لا شك فيه أن كل خطوة خطاها سيد شباب أهل الجنة، عليه السلام، انما كانت في سبيل الله، و كل كلمة قالها انما كانت لله و بالله، و لقد كان خروجه من المدينة قدرا مقدورا، كما كان خروجه من مكة خيرا كثيرا، خيرا للاسلام عقيدة و دينا، و خيرا للمسلمين جماعة و أفرادا، و قبائل و شعوبا.

و هكذا، و في يوم الأربعاء الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) عام 60 ه «سبتمبر 680 م» خرج الامام الحسين عليه السلام، فطاف بالبيت الحرام سبعا، و سعي بين الصفا و المروة سبعا، ثم قصر شعره، و أحل من عمرته و لم ينتظر أن يتم شعائر الحج، و كان حتي هذه السنة قد حج خمسا و عشرين مرة ماشيا علي قدميه من المدينة الي مكة، فاذا به هذا العام يجبره أعداؤه الأمويون ألا يحج و يجعلها عمرة، خوفا من أن تستحل به حرمة مكة، يستباح به البيت الحرام، و حاول المخلصون منعه من الخروج للمرة الأخيرة، و من ذلك امرأة مؤمنة بعثت اليه تقول، أشهد أني سمعت أم المؤمنين عائشة تقول انها سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «يقتل الحسين بأرض بابل»، فما أن قرأ الأمر الامام كتابها حتي قال «فلا بد من مصرعي»، و استمر في سبيله، غير أن أمير مكة حاول منعه بالقوة، فأرسل اليه قوة ترغمه علي الرجوع، فتدافع الفريقان، و امتنع الامام امتناعا قويا، و سار في طريقه، رغم أنوف الأمويين، و في الطريق لقيه الفرزدق فقال له: «بأبي و أمي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحج، فقال الامام: لو لم أعجل لأخذت، ثم سأله الامام الحسين عن الناس خلفه، فقال: قلوب الناس معك، و سيوفهم مع


بني أمية، و القضاء ينزل من السماء، و الله يفعل ما يشاء، فقال الامام: صدقت».