بازگشت

موقف معاوية من آل البيت


كرم الله أهل البيت و طهرهم من الرجس و الأهواء و المطامع، و من ثم فقد اصطفاهم لحماية دينه، و نشر هدايته، و في نفس الوقت، فقد ارتضاهم محلا لبلائه، و هدفا لقدره و قضائه ليضرب بهم للناس أروع المثل في التضحية، و الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام اذا فقهوا، و أهل البيت، رضوان الله عليهم، بحكم صلتهم بأشرف الخلق سيدنا رسول الله صلي الله عليه و سلم، هم أصدق الناس ايمانا، و أرسخهم يقينا، و أعرقهم أصلا، و أشرفهم حسبا و نسبا، و من ثم فهم أولي الناس بمواقف الشرف و الاباء، و البطولة و الفداء، و أجدرهم بالصدق عند اللقاء، و الصبر في البأساء و الضراء، و لهذا كانوا أقرب الناس الي البلاء، تخليدا لذكراهم و اعلاء لشأنهم، و تلك سنة الله في خلقه، روي الامام أحمد و البخاري و الترمذي عن سعد بن وقاص قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي المرء علي حسب دينه، فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، و ان كان في دينه رقة، ابتلي علي قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتي يتركه يمشي علي الأرض و ما عليه خطئة».

و من ثم فقد كان تاريخ آل النبي الكرام البررة يفيض بالمآسي و الآلام بما تنفطر له القلوب و ترتجف له الأحلام، غير أن ذلك لم يزدهم الا مكانة عندالله، و حبا عند الناس، حتي أصبح ذلك الحب هو الفطرة التي فطر الله عليها عباده المؤمنين، لأنه حب في الله، و الله الذي بعث جدهم صلي الله عليه و سلم نبيا و رسولا، و أرسله للناس كافة هاديا و مبشرا و نذيرا، فأحبه المسلمون و أحبوا أهل بيته، عملا بوصيته صلي الله عليه و سلم، فلقد أخرج ابن سعد و الملا في سيرته و المحب الطبري في الذخائر «استوصوا بأهل بيتي خيرا، فاني أخاصمكم عنهم غدا، و من أكن خصمه أخصمه، و من أخصمه دخل النار»، و أخرج الخطيب في التاريخ عن علي عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال «شفاعتي لأمتي من أحب أهل بيتي»، و روي الديلمي عن علي عن النبي صلي الله عليه و سلم أنه قال «أثبتكم علي الصراط، أشدكم حبا لأهل بيتي»، و في نفس الوقت حذر النبي صلي الله عليه و سلم أمته من كراهية أهل بيته و ايذائهم، أخرج


الديلمي عن أبي سعيد أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال «اشتد غضب الله علي من آذاني في عترتي» و روي الامام أحمد و الطبراني عن أبي هريرة قال: نظر رسول الله صلي الله عليه و سلم الي علي و الحسن و الحسين و فاطمة، صلوات الله عليهم، فقال: «انا حرب لن حاربكم، سلم لمن سالمكم»، و أخرج الامام أحمد «من أبغض أهل بيتي فهو منافق» و أخرج ابن عساكر من حديث ابن عمران أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال «لا يحب أهل بيتي الا مؤمن، و لا يبغضهم الا منافق» و أخرج الحاكم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلي الله عليه و سلم «لا يبغضنا أهل البيت أحد، الا أدخله الله النار».

و مع ذلك كله و غيره، فان كتب التاريخ تمتلأ بقصص محن أهل البيت التي بدأت في أعقاب عهد الخلافة الراشدة و منذ بداية الأمويين، و يحدثنا المؤرخون و أصحاب السير أنه في أثناء حكم معاوية و ولده يزيد، و في ولاية الحجاج علي العراق كان سبيل من يتهم بحب آل البيت القتل أو الضرب أو السجن أو التشريد، حتي أتي علي الناس حين من الدهر، يقال فيه للرجل أنه زنديق أو كافر، أحب اليه من أن يقال أنه شيعي، و كان من المنتظر، حتي طبقا لشروطه الصلح، أن يترك معاوية سب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه في الجنة، الأمر الذي ناقشناه في كتابنا عن «الامام الحسن»، ذلك أن معاوية، كما يقول ابن الأثير، «كان اذا قنت سبب عليا و ابن عباس و الحسن و الحسين و الأشتر»، و كان الناس يحبون لمعاوية و عصبته من بني أمية حين ملكوا أن يعفو، و لكن الذي بدا منهم غير عفيف و غير كريم، لا يتفق مع الاسلام كدين، و لا مع العروبة كحسب و نسب، فلقد أخذ معاوية بعد ابرام الصلح مباشرة في سب الامام علي، و بالغ في انتقاصه، و لم يمنعه عنه انتقال الامام علي الي جوار ربه، راضيا مرضيا عنه، و كان الباعث الي ذلك أن معاوية علم أنه لا يستقيم له أمر، الا بانتقاص الامام علي و النيل منه.

و لا ريب في أن سب الامام علي و آل بيته، انما هي بدعة خسيسة دنيئة، لا تخرج عن أصل كريم أو حتي من عدو شريف، و قد أقام معاوية و خلفاؤه من


بعده من بني أمية منابر يتناوب عليها الخطباء في سب الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و في افتراء الأباطيل للنيل منه و الزراية عليه، أخرج الامام أحمد و الحاكم و الهيثمي و الطبراني و أبو يعلي عن عبدالله الجدلي قال: دخلت علي أم سلمة «زوج النبي» فقالت لي: أيسب الله فيكم، فقلت معاذ الله، أو سبحان الله أو كلمة نحوها، قالت سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «من سب عليا فقد سبني»، و روي أن ابن عباس مر بقوم ينالون من الامام علي و يسبونه، فقال ابن عباس لقائده (و كان قد فقد بصره) أدنني منهم، فلما أدناه منهم، قال لهم: «أيكم الساب لله، فقالوا نعوذ بالله أن نسب الله، فقال لهم: أيكم الساب لرسول الله صلي الله عليه و سلم، فقالوا نعوذ بالله أن نسب رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال لهم: أيكم الساب لعلي بن أبي طالب، فقالوا: أما هذه فنعم، فقال لهم: أشهد أني سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول: «من سبني فقد سب الله، و من سب عليا فقد سبني»، فأطرق القوم و لم يتكلموا فوجلوا»، و روي الحافظ السيوطي أنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها ابن أبي طالب، و ذلك بما سنه لهم معاوية، و في الواقع فلقد كان مجهود معاوية في هذا السبيل ما طفحت به السير و التواريخ، و هو أول من سن الجهر بسب صحابة رسول الله صلي الله عليه و سلم و أول من فتح الباب علي مصراعيه.

و هكذا كان نتيجة للضغط السياسي، و اغراء الناس بالمال، و تخويفهم بالوعد و الوعيد، و تأويلهم الأحداث طبقا لهوي معاوية و بقية قومه الأمويين، أصبح الناس يرون رضي معاوية و طاعته، انما تظهر في سب الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، و بمرور الأيام رأوا طاعة معاوية في جعل لعل الامام علي و سبه (و العياذ بالله) سنة ينشأ عليها الصغير و يهلك عليها الكبير، روي ابن حجر في صواعقه أن رجلا من أهل الشام كان يلعن عليا كل يوم ألف مرة، و في يوم الجمعة الآف المرات، و أولاده معه، فرأي النبي صلي الله عليه و سلم في المنام، فبصق في وجهه، فأصبح وجهه وجه خنزير، هذا و قد بلغ بنو أمية في الاصرار علي لعن الامام علي «و العياذ بالله» أن غيروا سنن الدين في الصلاة، و ابتدعوا فيه ما ليس


فيه، حتي روي أن معاوية (و قيل مروان بن الحكم) قدم خطبة العيد علي الصلاة، و كان النبي صلي الله عليه و سلم يؤخرها، و ذلك لأن معاوية أو مروان، انما كان يصر علي لعن الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، علي المنبر في خطبته، فكان الناس ينصرفون بمجرد أن يفرغ من الصلاة، كي لا يسمعوا هجوه و لعنه لأشرف بيت في تاريخ الدنيا فقدم الخطبة علي الصلاة ليحبس الناس و يضطرهم الي سماع التشهير و اللعن للامام علي و آل بيته الطاهرين، و روي ابن أبي الحديد في شرح النهج أن معاوية بن أبي سفيان كتب الي عماله: «برئت الذمة ممن يروي شيئا في فضائل علي و أهل بيته، و أن لا يحيزوا لأحد من الشيعة شهادة، و أن يمحو كل شيعي من ديوان العطاء، و أن ينكلوا به و يهدموا داره».

و هكذا استمر معاوية يحاول طوال أيام حكمه طمس فضائل آل البيت بعامة، و الامام علي خاصة، روي أن معاوية قال لعبد الله بن عباس، حبر الأمة و ترجمان القرآن، و ابن عم النبي صلي الله عليه و سلم: قد كتبنا في الآفاق ننهي عن ذكر مناقب علي، فكف لسانك، فقال ابن عباس: أتنهاني يا معاوية أن نقرأ القرآن، قال معاوية: لا، قال ابن عباس: أتنهانا عن تأويله «أي تفسيره» قال معاوية: نعم، قال ابن عباس: أنقرأه و لا نسأل عما أراد الله بكلامه، و أيهما أوجب علينا، قراءة القرآن أو العمل به، فقال معاوية: العمل به، قال ابن عباس، كيف نعمل به، و نحن لا نعلم ما عني الله، قال معاوية: سل عن تفسيره غيرك و غير آل بيتك، قال ابن عباس: نزل القرآن علي أهل بيتي، فنسأل عنه آل أبي سفيان، أتنهانا يا معاوية أن نعبدالله بالقرآن بما فيه من حلال و حرام، ان الأمة اذا لم تسأل عن القرآن و تعمل به هلكت، قال معاوية: اقرأوا القرآن و فسروه، و لكن لا تروا شيئا مما أنزل الله فيكم، و أروا ما سوي ذلك، قال ابن عباس: ان الله يقول: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و يأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون»، قال معاوية: يا ابن عباس: «اربع علي نفسك و كف لسانك، و ان كنت لا بد فاعلا فليكن ذلك سرا لا يسمعه احد علانية».

و هكذا حرم معاوية علي المسلمين أن يذكروا شيئا من فضائل أهل البيت


الطاهرين، و الامام علي بخاصة، حتي كان الأمويون يتقدمون الي الفقيه و المحدث و القاضي و القاص و يتوعدونه بغاية الابعاد و أشد العقوبة ان ذكر شيئا من فضائل آل بيت النبي صلي الله عليه و سلم، كما كانوا لا يسمحون لأحد أن يطيف بهم، و حتي بلغ من تقية الواحد من رجال الحديث النبوي الشريف، اذا ذكر حديثا عن النبي صلي الله عليه و سلم رواه الامام علي، عليه السلام، كني عن ذكر الامام علي، فقال: قال رجل من قريش، و لا يذكر الامام عليا و لا يتفوه باسمه، ثم ان بعض المختلفين حاولوا نقض فضائل الامام علي، و وجهوا الحيل و التأويلات نحوها، بغية أن يضعوا من قدره بقياس منتقص و فهم سقيم، و مع ذلك، فالامام علي كان في أعين الناس رفعة و علوا و وضوحا و استنارة، روي ابن عبد ربه في العقد الفريد أن بعض العلماء قال لولده: يا بني ان الدنيا لم تبن شيئا الا هدمه الدين، و ان الدين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، ألا تري أن قوما لعنوا عليا ليخفضوا منه، فكأنما أخذوا بناصيته جرا الي السماء.

هذا و قد أثار سب الامام علي، كرم الله وجهه في الجنة، سخط الأخيار من المسلمين و أهل التقوي و الورع، فضل عن كرام الحسب، و أصحاب الأخلاق الكريمة، الي جانب أن سب المسلم من أفحش الحرمات، فضلا عن أن يكون السب لآل بيت النبي صلي الله عليه و سلم، و علي رأسهم الامام علي، و قد روي أن رسول الله صلي الله عليه و سلم قال: «سباب المسلم فسوق»، و قال صلي الله عليه و سلم: «لا يكون المؤمن لعانا»، و لهذا أنكر أجلاء الصحابة هذا العمل الدني ء، و منهم زيد بن أرقم، الذي رأي المغيرة يسب الامام عليا، فانبر له منكرا سبه للامام قائلا: «يا مغيرة ألم تعلم أن رسول الله صلي الله عليه و سلم نهي عن سب الأموات، فلم تسب عليا، و قد مات»، كما كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من أوائل الصحابة الذين غضبوا لسب الامام علي، كما بينا ذلك بوضوح في كتابنا عن «الامام الحسن» و مع ذلك فقد استمرت هذه المهزلة الأموية سبة في جبينهم، و ليس في حق الامام علي، فهو أفضل عندالله و رسوله و صالحي المؤمنين، أفضل من معاوية و قومه الأمويين جميعا، لو كانوا يعرفون للكرام أقدارهم، حتي أبطلها الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز، ثم عادت مرة أخري علي أيدي الظالمين من قومه.