بازگشت

الي الله


في صبيحة يوم من رجب سنة ستين، أفاق الناس في المدينة علي اصوات الغلمة، يمرحون في الأزقة و هم يتناشدون مقال عبدالله بن هلال السلولي:



اصبر يزيد... فقد فارقت ذا مقة

و اشكر حباء الذي بالملك حاباكا



لا رزء اعظم في الاقوام قد علموا

مما رزئت، و لا عقبي كعقباكا



فادركوا ان معاوية قد قضي، و ان يزيد قد خلفه. فانقلبوا و بعضهم يحرق الأرم و يتميز حنقا، و بعضهم يشد غضونه تجهما و يدع وجهه يتمدد و يتقلص دهشة و رعبا. و مشي الخبر كما يمشي النعي حتي انتهي الي الحسين فغين عليه، كأن الارض دارت به دورتها سريعة سريعة، و ألم به اطراق عنيف كان مزيجا من اللوعة المرة و الأسي الحاد و التنمر الغضوب. علي أنه طفق يناجي نفسه، و قد تبدت له ماضيات النبوة و دنيا القرآن و جلائل العدل الاسلامي:

الهي! ماذا أسمع؟ أيكون يزيد خليفتك في عبادك، و هو من عرفته صارما لا يشعر بغير وجوده، او يشعر بوجود الآخرين و لكن في مذهب نهمه


الدامي المفترس مثلما تشعر الذئاب بوجود فرائسها الذي هو مبالغة في عدم الشعور بغير وجودها فقط، انه يشعر بهم شعور الامتصاص و ارواء نهم الذات، ان ظمأته تطيف بهم محاولة لو تحيلهم قطرة تندي بها لعابها.

أيكون يزيد القائم علي شريعة رسولك؟ و شريعته ذوب رحمة في ذوب عدالة و رفق، و هيهات ان تجد مكانها في غير ضمير فيه من معناها و فيه من روحها، و الا فهي عافية كالطلل، و ذاوية كالهشيم يعبث بها الهوي و يتقاذفها مثل اوراق الخريف، في اودية الشهوات و بين المغاور و الكهوف الضاجة بالفسوق.

ان الشريعة، ككل تعليم، كائن يزودج بالحياة، فينفعل بها ليحيا و يفعل فيها لترقي. فاذا لم يتماسا ظلت الحياة جامحة فاجرة، و ظلت الشريعة مثل شرارة مخزونة لم تنقدح في فم المصباح فتحيا به و ينطق بها، صادعا بلسان الضياء و معلنا بنداء النور.

ان شريعة رسولك وجدت حياتها في حياته، و استمدت روحها من روحه فترامت بالضياء الي كل مكان و طبعت بحقيقتها مادة الزمان، فسعدنا حينا بدنيا القرآن.

علي انه عاد الي استغراقه و كان ايضا عميقا، و لكن لم يبرح حتي ساوره غضب مكظوم اشتعل في عينيه، وراح يناجي نفسه في نبرات حادة كأنها تلتهب:

نعم. نعم. نحن بايعنا الله علي التقوي، و لن نبايع الا عليها أو نموت في سبيلها. ألا انه اختارنا لحمل امانته العظمي، و انتظر منا الوفاء و الافتداء بكل عظيم. و من نذر نفسه لله فقد أرخصها له.

«ان الله اشتري من المؤمنين انفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الانجيل و القرآن، و من أو في بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، و ذلك هو الفوز العظيم».


ان السموأل - و هو جاهلي لم يتأنس قلبه بالاشراق - عاهد انسانا، و استجاب حين دعاه الوفاء و كان داميا.

استجاب جاهلي للشرف، فكيف لا استجيب للايمان، اني اذن لنك... خوار...

«الموت خير من ركوب العار...

و العار خير من دخول النار...

و الله من هذا و هذا، جاري»...

فكيف اذن بالعار و النار، أجمعهما علي نفسي في دنيا الظالمين..!

و بينما الحسين في سبحانه القدسية و نجواه المائجة بروح الاصطفاء، تبدي لناظريه في وجهة قلبه اطياف يشتمها الرضي و تلفعها نشوة الاغتباط، و هي تباركه و تشد عزمه و تهيب به الي الوثبة، الي الوثبة الكبري، فهتف مستبشرا:

رباه! ماذا أري؟ انها أطياف جدي المصطفي، و ابي الشهيد، من ورائهما الملائك، تدعوني الي اله، الي التضحية العظمي.

كان الكبش، في يوم، فداء نبي...

و لكن النبي الاعظم، انما يكون له الفداء الاعظم...

و حبيب الي نفسي أن أكون ذلك الفداء...

كان الحسين لم يزل في نجواه، حين «استأذن عليه، و هو في المسجد، رسول الوليد بن عقبة يدعوه، و كان يومئذ امير المدينة، فأمره الحسين بالانقلاب اليه، و قام الحسين و جمع بعضا من غلمانه و مواليه، و أمرهم بحمل السلاح، فانتهي الي الوليد، و قال لاصحابه:


اذا دخلت فاجلسوا علي الباب، و ان دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا، فاقتحموا علي بأجمعكم، و الا فلا تبرحوا حتي اخرج اليكم.. فدخل الحسين علي الوليد - و مروان عنده - و جلس، فأقرأه الوليد الكتاب و نعي اليه معاوية، فقال الحسين:

انا لله و انا اليه راجعون، أما البيعة فان مثلي لا يعطي بيعته سرا، و لا اراك تقنع بها مني كذلك.. قال أجل. قال: فاذا خرجت الي الناس فدعوتهم الي البيعة دعوتنا معهم، فكان الأمر واحدا. فقال له الوليد: علي اسم الله، حتي تأتينا مع جماعة الناس.

قال مروان لما ولي: عصيتني و الله، لا قدرت منه علي مثلها أبدا، حتي تكثر القتلي بينكم و بينه.. و كان مروان قد اشار عليه أن ابعث الي الحسين، فان بايع، و الا فاضرب عنقه.

قال الوليد: ويحك! أتشير علي بقتل الحسين؟ و الله ان الذي يحاسب بدم الحسين، يوم القيامة، لخفيف الميزان عند الله».

رغم ما يعتلج في قلب الحسين من عاصف يكاد ينطلق، و بركان يكاد يثور، أبدي في هذا الموقف الحرج الدقيق أقصي ما يتصور من ضبط الاعصاب، و حسن التأتي الفائق في تصريف الامور، و اللباقة البالغة في الحوار السياسي.

خرج الحسين من مكان الوليد مزمعا علي خطة، و ان تكن رهيبة، خفق لها قلبه، و استجاب اليها بكل مشاعره، حتي لبدت علي سيمائه و جرت علي لسانه، و هو قاصد الي مسجد المدينة، فقد سمعه ابوسعيد المقبري يتمثل بقول يزيد بن مفرغ:



لا ذعرت السوام في فلق الصب

ح مغيرا، و لا دعيت يزيدا



يوم أعطي من المهانة ضيما

و المنايا يرصدنني أن احيدا




و ما هو حتي هبط بأهله مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين، و لبث فيها حتي يوم التروية من ذي الحجة...

في مكة حيث الذكريات الملهمات التي تضفو علي كل مكان من ارضها و سمائها، و عند معتنق الارض و السماء، حيث يقع الافق المكلل بالوحي، لبث الحسين يرنو و قدذابت في نظراته اوهام الناس في الموت و الحياة.

ان نظرة اعتلق بالابد الفسيح الذي تبدو الدنيا بكل أشيائها من آفاقه، صدفة حقيرة في لج الفناء.

و قد رأي هناك ان الاحياء يعيشون في عالم اعمالهم علي حقائقها، و الاعمال فيه ليست مآتي فقط تتقضي مع آنها، بل هي موالي يحياها المرء في حلاواتها و مرارتها، و في نورها و ظلامها. و المرء لا يحس بالألم او اللذة و القبح او الجمال احساسا مثلما هو شأن احساس الفناء، بل تحيا فيه كليات هذه المعاني حياة جوهرها.

و كانت تلك الذكريات الخالدات لا تفتأ تتنادي به الي استئناف الجهاد، استئناف الجهاد الاول الذي يدأه جده المصطفي مكافحا وحيدا و بطلا فريدا، حتي أمال دنيا و أثبت دنيا، و ما قعد به أن الناس كلهم علي الباطل الب، و هو وحده الذي يدعو الي سبيل الرب.

ان كلمة الله في فم الانسان تنتشر مثل شعلات.

تحرق في مداها كل ما ليس منها.

فاذا لها علي الارض ضياء كما لها في السماء ضياء.

الله نور السموات و الارض...

كانت تمر به هذه التصورات و قد مسحها جو مكة بما فيه من اقداس


و ذكريات عزم لا يقهر، فهب ناشطا في مثل الزئير الذي يبادر الانطلاق، غير ثابت أمام ناظريه الا «و لكم في رسول الله أسود حسنة».

و أسوتي به، ان أجالد جلاده و ان اكافح كفاحه و ان انتهي لغايته.

ألا ان رسول الله غل البغي و الباغي و دك دنيا الأوثان بما فيها، و ان الباغي اليوم يحاول الانفلات، و أوثان الآلهة استولدت أوثان الناس. فكيف اتلبث دون ان اغل ذاك و اعتصر هذا، و ما أبالي أكانت فيه منيتي ام امنيتي...

و ان محمدا أخرج مهاجرا يدعو الي الله في مبالغة العيون و الاصاد، فكيف لا اخرج داعيا اليه غير مبال بالحياة، و لا مكترث بالموت في سبيله؟



و لست أبالي حين أقتل مسلما

علي اي جنب كان في الله مصرعي



و كفي بعملي عند الله رضي، ان يكون الهجرة الثانية.

ان الهجرة الاولي، هجرة رسول الله، كانت، و غايتها البناء.

و ان الهجرة الثانية، هجرة سبط رسول الله، كانت، و غايتها المحافظة علي البناء.

و ما هو حتي تسامع الناس بعزم الحسين، و ما هو حتي مشي الكثيرون بينه و بين غايته، يرغبون عليه أن لا يفعل و يثبطون منه و يوهنون ما استوي عليه عزمه. فقال ابن عباس، و قال ابن الزبير، و بده هذا، و ثني ذاك، الي كثير كثير، و كلهم قرم عشير و فخر قبيل.

و كان الحسين يستمع اليهم و كأنه بطل المعركة المنتظر، يري في تحامي الفرسان جبنا أكبر عارا، فيزيده تلظيا وحمية، و في تقهقر الشجعان خورا ابلغ غورا و أثرا، فيوقده عزما و يصطنعه شكيما.

مر نسر يحلق فوق الآكام، فتكنفته بغات النسور من كل مكان...


تهيب به أن لا يمضي بعيدا، فهناك صقور تعبث فسادا و تبث رعبا.

و لكن النسر... شد جفنيه طويلا، كأنه لا يصدق أن هذه لغة نسر...

علي انه مضي و هو يقول: ان النسر شي ء في المعني و ليس شيئا في الشكل...

فاذا استحال المعني شكلا فقط، فهناك مسوخ لا نسور!...

و انطلق يهوي غير مبال بما سوف يعترضه.

و ما هو حتي و اثبته جماعة الصقور، فنال منها كثيرا و نالت منه مقتلا...

علي انه كان مغتبطا أيضا فقد همس في انفاس المحتضر...

سوف يظل في الاجيال أنه هنا يرقد نسر وجد حقيقته...

و هناك تحيا نسور فقدت حقيقتها...

انني أقضي، و يبقي في ضمير الوجود: أن اقتحام الطريق، دائما في الامكان...

انطلق الحسين مودعا الكعبة بيت الله، حاملا روحها بين جنبيه و شعلتها بكلتا يديه...

تواكبه الملائك و تباركه، و تطيف به كأنها حذرة عليه...

فانه البقية من ارث السماء علي الارض!...

رعيا لذكراك أباعبدالله، فقد أحسست بروح الأخلاق في روح الوجود...

فأردت الحياة دنيا من الأخلاق و الفضيلة و الحب...

و أرادها الآخرون دنيا من الشهوات و الرذيلة و الاحقاد...

أردتها كونا من لذة الروح، و لو في شعور الأعصاب بالألم...

و أرادوها كونا من لذة الاعصاب، و لو في شعور الروح بالألم...


فاستحالت الآلام الكبري، في حس الناس، لذة كبري في حسك!...

حتي لقد شعرت حيال الدم المسفوح، أنه شفق من شعاع الروح...

و رأيت، في حمرة الدماء، لؤلؤة جمال الحسن...

و لا بدع، فقديما قيل:«ان الحسن أحمر»...