استشارة
أفاق من في البلاط الأموي، علي حركات غير عادية امتازت بالنشاط في تجمعات تشاور هامس، و كان جو هذا التجمع مطبوعا بطابع الاهتمام و الجد، فقد أزمع أساطينه احداث انقلاب خطير يمس القاعدة الأساسية للحكم. و فوق ذلك أزمعوا علي أخذ العرب بحكومة الفرد، بعد أن راضوهم عليها أمدا ليس بالقصير، و باساليب كلها العنف و الاعتساف في فترة طالت ذؤابتها، فكانت تاريخا امتلأ بشهداء الحرية و الشعبية في مذهب الحكم.
و كان قد سبق الملك و وجه دعوة عامة الي أمراء الأمصار، فاجتمعوا لديه ينتظرون سماع المفاجأة التي من شأن هذا الاهتمام ان ينطوي عليها..وما هو الا أن تلكم المغيرة بن شعبة، و كانت السن قد تناهت به فلم يكن صوته يبين، فقال:
تعرفون أنكم الشعار دون الدثار عند الملك، فعليكم يعتمد، و أنتم البطانة التي عليها يتكل، فمصالحكم بمصالحه مرتبطة، و أمركم بأمره متصل؛ و قد اتجه رأي الملك الي أمر خطير أحب أن يفاوضكم به، و يستشيركم قبل أن يعتزمه و يعقده.. فاشرأبت أعناقهم و تطلعوا في اصغاء مرهف، و واصل المغيرة:
رأي الملك ان لا يترك الناس بعده سدي «كالضأن لا راعي لها»، و قد اختار
ابنه الرشيد يزيد؛ و من اكفأ بأعباء هذا الامر منه؟! و رماهم بنظرة فاحصة متحدية، و راحوا ينظر بعضهم الي بعض و لفهم صمت طويل قطعه زياد بقوله:
«ان علاقة امر الاسلام و ضمانه عظيم، و يزيد صاحب رسلة و تهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فرويدنا بالأمر.. فأقمن أن يتم لنا ما نريد. و لا نعجل، فان دركا في تأخير، خير من تعجيل عاقبته الفوت».. فقذفه المغيرة بنظرة شزرة صاعقة و قال:
اكنت تظن ان المشورة هنا معناها ابداء الرأي؟ و هل نحن بحاجة الي رأي امثالك؟ ان المشورة هنا معناها السماع و التنفيذ و الطاعة فقط حسب.. فهب عبيد بن كعب النميري، و كان مستشار زياد، يشرح كلامه و ما قصد اليه قال:
نعم. هو ما تقول، فليس علينا الا السمع و الطاعة و زياد «لم يرد ان يفسد علي الملك رأيه و يمقت اليه ابنه. و انما قصد ان يخوف يزيد من خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، فتستحكم للملك الحجة علي الناس و يسهل له ما يريد.
فقال معاوية: نعم ما قلت، و نعم ما ذهب اليه زياد»..
و لم يكن زمن طويل حتي أعلن ذلك في مسجد دمش علي الناس، و كان معاوية قد حفل له و طلب الوفود من كل الأمصار، «و قرأ علي الجموع عهده و فيه عقد الولاية ليزيد» فأصيب بعض بمثل الذهول، و بعض بمثل الطيش، و كان بين هؤلاء و هؤلاء صنائع ذهبوا يطربون و يزينون، «فقام الضحاك بن قيس فقال:
يا أمير المؤمنين: انه لابد للناس من وال بعدك، و الأنفس يغدي عليها و يراح، و ان الله قال كل يوم هو في شأن، و لا تدري ما يختلف به العصران. و يزيد ابن امير المؤمنين في حسن معدنه و قصد سيرته، من افضلنا حلما و أحكمنا علما، فوله عهدك و اجعله لنا علما بعدك. فانا قد بلونا الجماعة و الألفة، فوجدناها احقن للدماء و آمن للسبل و خيرا في العاقبة و الآجلة).
و قال عمرو بن سعيد:
«ايها الناس: ان يزيد امل تأملونه، واجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع. اذا صرتم الي عدله و سعكم، و ان طلبتم رفده أغناكم، جذع قارع، سوبق فسبق، و موجد فمجد، و فورع فقرع. خلف من امير المؤمنين، و لا خلف منه»...
فقال معاوية: اجلس - أباامية - فلقد اوسعت و أحسنت...
فقال الاحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين: «انت اعلم بيزيد في ليله و نهاره، و سره و علانيته، و مدخله و مخرجه، فان كنت تعلمه لله رضي و لهذه الامة، فلا تشاور الناس فيه، و ان كنت تعلم منه غير ذلك، فلا تزوده الدنيا و أنت تذهب الي الآخرة».. فأحمس يزيد بن المقفع، فوثب مرعدا مبرقا و قال:
«أمير المؤمنين هذا...» و أشار الي معاوية؛ «فان هلك فهذا..» و أشار الي يزيد؛ «فمن أبي فهذا..» و أشار الي السيف.
فقال معاوية: اجلس فانك سيد الخطباء...
و قام المسكين الدارمي الشاعر فانشد:
اذا المنبر الغربي خلاه ربه
فان امير المؤمنين يزيد
و تهيأ معاوية فدعا الناس الي المبايعة «فقال رجل: اللهم اني أعوذ بك من شره».
قال معاوية له: تعوذ من شر نفسك فانه أشد عليك، و بايع.
فقال: اني أبايع و أنا كاره للبيعة.
قال له: بايع أيها الرجل، فان الله يقول: فعسي ان تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا».
و ما هو الا أن حمل الناس علي البيعة في الشام و العراق، فتوجه معاوية لاعداد الرأي العام في المدينة من اجل البيعة «فكتب الي مروان بن الحكم،
و كان عامله علي المدينة، أن أدع الناس عندك الي بيعة يزيد، فان اهل الشام و العراق قد بايعوا. فخطبهم مروان فحضهم علي الطاعة و حذرهم الفتنة، و دعاهم الي بيعة يزيد، و قال هي سنة ابي بكر الهادية المهدية».
فكان لهذه الدعوة وقع النار في الهشيم، و سرت بين الجموع نأمات استنكار و أصوات تسخط، و تزايد بهم هذا الاستنكار و هذا التسخط، فاندفعوا يطعنون و يقذعون في الطعن، و مضوا ينثرون الاحتجاج نثرا دون رعاية او حذر.
فقال عبدالرحمن ابن ابي بكر: «ما صدقت، ان أبابكر ترك الاهل و العشيرة، و بايع لرجل من بني عدي رضي دينه و امانته و اختاره لأمة محمد».. و ترادا طويلا، و انتقل بهما التجاوب الي التناوش و المهاترة من قبل مروان فقال:
أيها الناس: ان «هذا المتكلم هو الذي انزل الله فيه، و الذي قال لوالديه أف لكما اتعدانني ان أخرج و قد خلت القرون من قبلي. فقال عبدالرحمن:
أفينا تتأول القرآن».. و قطع الحسين عليهما اذ هب واقفا، و علي سيمائه مشت غضبة مكظومة راحت تنطلق و قد وجدت سبيلها:
«أالي النار؟ تدفعون الناس بعد العار»، لقد حملوا أطماعكم متبرمين، و تركوا لكم انتهاب الدنيا كما شئتم و شاء الهوي و لكن احلولي في افواهكم المستوخم فتخطيتم الدنيا الي العبث بالدين، فأحر بنا أن ندفع النار بالنار... و ما هو حتي هب الناس ينكرون ولاية يزيد في مثل الزئير الدامي.
فكتب مروان الي معاوية بذلك، فأقبل الي المدينة في ألف، فلما قاربها تلقته الجموع عند مآتيها و مداخلها، و ما أخذ نظره الحسين حتي قال: مرحبا «بسيد شباب المسلمين»، قربوا دابة لأبي عبدالله. و قال مثل ذلك او قريبا منه لعبدالرحمن بن ابي بكر و لابن الزبير. ثم انطلق بهم حتي أتي مكة فقضي حجه، و لم أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدمت و أمر بالمنبر فقرب من الكعبة، و هنا بدأ مفاجأته الانتخابية دون تقيد بعرف أو قانون، فأرسل الي الحسين و عصبته، و هؤلاء لم يخف عليهم ما يعتلج في نفسه، فاجتمعوا و تدبروا الأمر من كل وجوهه،
و تركوا المرادة و المدارهة لابن الزبير، فأقبلوا علي معاوية فرب بهم، و قال:
«قد علمتم نظري لكم و تعطفي عليكم و صلتي أرحامكم، و يزيد اخوكم و ابن عمكم. و انما أردت ان أقدمه باسم الخلافة، و تكونوا أنتم الآمرين الناهين بين يديه». فرد ابن الزبير:
«عندنا احدي ثلاث، ايها اخذت فهي لك رغبة و فيها خيار، ان شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله (ص)، قبضه الله و لم يستخلف، فدع هذا الامر حتي يختار الناس لانفسهم.. و ان شئت فما صنع ابوبكر: عهد الي رجل من قاصية قريش، و ترك من ولده و من رهطه الاذنين من كان لها اهلا.. و ان شئت فما صنع عمر: صيرها الي ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، و ترك ولده و اهل بيته، و فيهم من لو وليها لكان لها أهلا».
قال معاوية: هل غير هذا؟.. قال: لا، ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن علي ما قال ابن الزبير. فقال معاوية اني اتقدم اليكم و قد اعذر من انذر، «فأنا قائم فقائل مقالة، و أقس بالله لئن رد علي رجل منكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع اليه كلمته حتي يضرب رأسه».. و أمر ان يقوم علي رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما، و خرج و أخرجهم معه حتي رقي المنبر، و حف به اهل الشام، و اجتمع الناس.
فقال بعد حمد الله و الثناء عليه: «انا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار، قالوا: ان حسينا و ابن ابي بكر و ابن عمر و ابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، و هؤلاء الرهط سادة المسلمين و خيارهم لانبرم امرا دونهم و لا نقضي امرا الا عن مشورتهم، و اني دعوتهم سامعين مطيعين، فبايعوا و سلموا و اطاعوا»... ثم قربت رواحله فركب و مضي الي الشام، تاركا الناس في دهشة المفاجأة ينظر بعضهم الي بعض، علي انهم انهالوا أخيرا علي الحسين و اصحابه يستثبتونهم فأجابوا: «كادنا بكم و كادكم بنا».
كذلك انتهت المفاجأة التي حبكها معاوية و طلع بها علي الناس، غير عابي ء بانه اقام ولاية ولده علي البركان، و أطلق القنبلة في أسس البناء.
فان الحسين - الذي شهد المثل الاعلي للحكم أزمان جده و ابيه و من بينهما، و تقلب في الثورة علي الحكم الشاذ، و خاض معمعة البطشة الكبري التي كالها والده في كل مكان تأشب عليه اعداء الشعب و خصوم حريته، و رافق حركة التطهير التي بذل فيها من قلبه و نفسه - يجب ان يغضب و ان يتنمر و ان يندفع متلظيا و ان يثور مهدما فبناء.
فان البناء علي الفساد ترميم للفساد و اصطناع لفساد آخر جديد. بيد انه في صورته الجديدة فساد مركب، و هو اعقد امرا و اكثر حيوية و اطول بقاء و نضالا.
لذلك كان عمل المصلحين الحقيقيين هدما و بناء، و لذلك كان الشطر الاول دائما أروع و اشق و اقدس، فهو كفاح و تضحية و تعبيد.
و بهذا و له فقط، و رأينا الحسين يولي وجهه قبل الثورة، قبل الانشاء و الخلق من جديد.
قلما يبرز الأسد، الا عندما تتناوح الأرجاء بالعواصف...
كأنه يأبي عليها أن تبدد أمن الغاب و سكون جلاله...
و عندما احتدمت عواصف الاهواء، انطلق اسد الانساني يدفع العاديات عن الانسان...
البركان نذير بالانقلاب...
و كان الحسين بركان الاصلاح...
و قد مضي كل مصلح بقبس من ذلك البركان، يرسله منارا يهدي في الحلك!...