بازگشت

تقوي


كان يوما ازدهت فيه دمشق بكل أفانينها و برزت فيه بكل فنونها، هذا اليوم الذي أطل معه الربيع في ابتسامة الأزهار و عبق ابتسامها، مرصعا بخيوط الشمس المتقنعة بقناع من المزن الرقيق الشفاف.

كان عادة عند ناسها استقبال الربيع بأشياء الأنس و الحفاوة، و بما توحيه المتعة المستبشرة، فكان يخيل للمشاهد أنهم نسوا حتي الزمان في وجودهم، ثم لم يذكروا الا ما هم فيه من أسباب اللهو العابث البري ء فيقبلون عليه بلهفة الظامي ء علي الينبوع و ينطلقون في مدي كل مغني نضير، و ينتثرون انتثار الطير في كل فضاء.

فمن هنا تنبعث ضحكات، و من هناك تنطلق زقزقات من غنن الطفولة، و من هذا الوجه جمع يحلمون في أنس و متعة شرود، و علي ذاك الوجه قوم ينعمون في مثل أبز الظباء و خطرات الوعول، و تلفعت الآفاق، في حس هؤلاء اللاهين، بكلل من ألق فرحة كبري.

و كان هذا اليوم كأنه في حس الفلك ساعة من لا وعي الزمن، يسبح منها في عربدة حالمة أو أحلام معربدة. و عزيز علي الحي الشاعر، أن تطيف به هذه


الساعة من لا وعي الزمان، و لا يغرق معها في خضم النسيان و الانطلاق من قيود الوعي و الفكر.

في هذا اليوم كان معاوية في قصره المشيد و في الجناح الغارق بالمتع، يقطف مع جمع من حاشيته زنبقة زهو اليوم. و كان بديح مولي عبدالله بن جعفر يؤنسهم بطرائف أخباره و ملح نوادره، فانتهي به الحديث الي أخبار صابئة الاغريق الحرانيين و عجائب ما شاهد بينهم، و كان فيما قال:

كأن نساءهم خلقن من طبيعة الجمال ان لم تكن فكرةالجمال صيغت من طبيعتهن، بل لعلهن في بحر الجمال لآلئه. فقد افتن فيهن ابداع الخلق حدا أبرزهن مثلا ناطقة بالفن.. فأية تقاطيع في أي وجه؟؟.. و دار به ناظره كالذي تذكر صبابة قديمة طبع عليها الاخفاق، فأرسل آهة طويل اختنقت في حلقه قبل نهايتها...

قال بعض من حضر: لكأن لك بينهن ذكري طرية بموقعها علي قلبك و ان قدم بها العهد.. فراح يحاول الاخفاء علي شتي مذاهبه و أساليبه، و لكن كان في عينيه ما يفصح بكل خبر قلبه، فقد غدتا تغفيان تحت هباءة كثيفة من الذهول، حتي ليظن الناظر الي مقلتيه أنهما جمدتا في غير حياة، لولا بصيص رفيع الخيوط كانتا ترسلانه قلقا، علي أنه مال يتخافت فيما تموهت به عيناه من دمع رقيق، لما يؤذن له فينحدر.

و بينا هم علي ترسلهم و تبسطهم، استأذن الحاجب، و أعلم الملك أن كبير النخاسين أتي بجارية فائقة «يود عرضها» فقد كان متعارفا أنه يبدأ بالقصر فيعرض عليه ما يهبط من الغلمان، فأذن الملك و أجريت «مراسيم» الدخول.

و كان عجب الحضور كبيرا حينما مثلت بينهم، فهي تتمتع بأكبر قسط من جمال الرؤي، حتي لقد كان يتراءي للكثيرين منهم أنهم انما يبصرون منظرا من جمال فن خيالي، يجي ء من دونه كل ما في طاقة الحياة من فن الجمال.

هبطت علي جمعهم هبوط اليرعة علي جماعة الطير في الغاب مع ظلام


المساء، فاهتزت أعصابهم كالأوتار، و نطقت بلحن الحنين المواج فحامت في مدي بدوات هذا الابداع. كانت علي أعصابهم صدمة جمال فعلت فيها مثلما تفعل صدمة الضوء أو النغم التي يتجاوب معها فضاء النفس الخلاء بنوع اهتزازها، فتميد أو تذهل، و الصدمة الشعورية كلما كانت أشد تمكنا من الأعصاب كانت أكثر تأثيرا و أدوم أمدا.

و هذه الفتاة الكاعب تركت فيهم أثرا أخاذا حادا لم يزل يتزايد، حتي باتوا منها مثل النحال و قد عرض لها مصباح كثير التوقد و الألق في لسان الشعاع.

و كان في هذا الذهول الذي عراهم، ما جعل أحدا لا يفطن الي ما استبد بيديح من اضطراب و ما تملكه من تلهف. كما لم يفطن أحد أيضا الي ما ساورها من خلجات عنيفة كظمتها، فعر بدت علي قمم مقلتيها ناطقة باللحظ الوثاب. كان لناظر أن يقدر أن بديحا أكثرهم أخذا بها لأنه كان أكثر تذوقا للجمال. و اما أن يقدر أنها بالذات نفس فاتنته التي احتفظ بها ذكري ندية بالغرام، و عرضت لنفسه منذ هنيهة في بعض الحديث، فهذا ما لم يكن يقع في مذهب الخاطر المرسل.

لقد قطع هدأة وجوم الانجذاب معاوية بقوله مخاطبا كبير النخاسين: لشد ما أدهشتنا حوراؤك، فمن أين هي؟ «و ما اسمها»؟

قال الرجل: «اسمها هوي»... فانبعث بسر بن أرطاة انبعاثا يقول:

«هي و الله كاسمها هوي»، تخفض منه و ترفع، و تطيل به و تقصر، و تنشر منه و تطوي.

قال عمرو بن العاص: و ماذا يكون الهوي ان لم تكنه؟؟.. و كان بديح قد ضبط أرشية قلبه الفائر بالذكري و الحب و الآلام و البعد و القرب» أو القرب الذي كان في معناه نقطة الغور في البعد السحيق. شعر الآن فقط أنها نأت عنه و الي الأبد، أما عرضت علي الملك و نالت استحسانه و حظت باعجابه، فهو لا محالة


سيضمها الي جملة وصائف القصر و ولائده، فكان في حس نفسه كأنه بعض علي جانب قلبه يمضغه.

كيف لم يبتعثه القدر الي الخروج منذ هنيهة و يتلقاها عرضا، فقد كان يحول بينها و بين الدخول و يحظي بها لنفسه، و هو الذي ظل يتمني حياته لحظة لقاء منها. لقد مده القدر بساعة لقاء عفوا، و لكن فيها مرارة النكاية و التلويع، ففاضت نفسه حسرات. بيد أنه ظل يعالج مشاعره و يحتمي وراء براقع صفيقة من التجلد فقال:

مثلما هي براعم الازهار كانت حقا للجمال و العبير في الزهرة، للعواطف الحية حقاق أو براعم، تتفتق عن زهرة جمال أحيانا، و عن زهرة هوي أحيانا، و عن زهرات معان أخري أيضا.

و هذه الغادة كما أراكم تحسون - برعمة الهوي في دنيا القلب الشاعر - تتنفس بأريجه مع السحر الندي كما تتنفس الورود. و في حسي ان الازهار تعبر عن العواطف المجتمعة في قلب الطبيعة الصامتة، كما تعبر هذه الغانيات عن العواطف المجتمعة في ضمير الطبيعة الحية و قلب الانسان.

و في غابر أيامي مع نزوة من نزوات شباب القلب أحدثت هوي و أحدثت فيه بهذا المعني شعرا:



يا وردة في رياض الحب يانعة

تزجي الهوي، كلما مر الهوا فيها



هيا انشري عطرك الفاني الذي امتزجت

به الدموع، وروته مآقيها



فسر عطرك هذا، أدمع سكبت

علي جذورك في نجوي لياليها



ثم استحالت عبيرا من طهارتها

فنوهي بالهوي ما شئت تنويها



فانت ذكري محب طالما احتبست

انفاسه، ثم خانته خوافيها



كم من صريع هوي، قد عاج منتحيا

الي ظلالك شاقته مغانيها






فراح ينظم آهات مقطعة

و راح ينثر معني من معانيها



حتي انتهي، في خضم الدهر مثل صدي

و أنت ذكري هواه بت تحييها



و كان بديح ينشدها بصوت زافر الرنات خافت المقاطع و الكلمات، و بوجه ساهم النظرات بادي الذهول، حتي لقد خيل لكثير ممن حضر أنه استحال صدي، كما راح ينشد و يقول.

فقال معاوية: لكأني بك - يا بديح - أحدثت بها هوي جديدا.

قال بديح: بل انما تعلقت بأسباب هوي قديم، و استيقظ في قلبي رسيس حب ضاق به النسيان.. و انقطع بهم عارض الحديث، فعاد النخاس الي مقاله:

و هي صابئة المنبت و النجار، ترقي الي أنها أعدت لتكون كاهنة في هيكل ربة الجمال عندهم، و الصابئة يتحرون في مثلها أن تكون نسقا في الملامح و التقاطيع و الشكل مع آلهتهم، لتبرز لهم في المواسم و الأعياد و كأن ربة الجمال برزت لهم أو تقمصتها، فانتهت بها صروف الاقدار الي حيث تري.

و العجب - يا اميرالمؤمنين - أنها ذات فلسفة في الحياة رغبت بها عن متع الحياة، و القتها في مثل الزهد.

و أعجب من هذا أنها سكنت الي الاسلام و اطمأنت اليه فاعتنقته، و أتت في فهمه بالعجب العجاب...

قال معاوية ناشطا: كيف تقول:

قال: نعم هو ما أقول لك... فضمها الي قصره، و قد بذل فيها «مائة الف درهم». و واصل: لقد صدق و الله بديح في ما مضي يحدثكم به...

و لكن لم تبعد الوصاء بها، حتي استوي و كان متكئا، فقال:

«لمن تصلح هذه الجارية»؟


قال عمرو بن العاص: من «سوي أميرالمؤمنين تصلح له»؟ و كذلك «قال آخر و آخر»، و معاوية يقول لا، و يبتسم كالذي يعاييهم.

و بعد أن أخذ منهم التشوف مأخذه و تزايد التلهف - و الراغب يكون آملا أبدا - فكان أكثرهم تشوفا بديح، فقد عرض في خاطره أن معاوية قرأ قلبه، و بعد أن نطقت الحيرة البادية علي وجوههم ايضا، و بعد لأي، قال لهم معاوية:

انها بروحيتها و كمالها لا تصلح الا للحسين، «فانه أحق بها، لما له من الشرف، و لما كا قد شجر بيننا و بين ابيه».. فارتسمت علي وجه الحضور آثار مشاعر مختلفة متناقضة. أما بديح فكان محلا لأنواع شتي من الشعور، فقد انشرح واكتأب و طرب و حزن في درجة واحدة من الانفعال. انه أمل أن يكون موضعا لسقوط هذا الندي و تمني و هو الظامي ء بالهوي أن تكون ريه هذه الغادة حواشي هذا الاكتئاب عنده انشراح، مصدره ان الحسين و هو المنتشي برحيق الهيكل و المستغرق في التأمل الالهي و الطافح بخير الانسان، لن يبخل بها عليه، و ان لم يكن، فلا أقل من أن مقامها أضحي صنو مقامه بين آل ابي طالب؛ هو لم يكن، فلا أقل من أن مقامها أضحي صنو مقامه بين آل ابي طالب؛ هو يتشهي أن تكون قريبة منه و كفي، انه يريدها متعة قلب و قد سقط علي أمنيته منها.

ففار في نفسه ينبوع بشر ضحك معه ضحكا خفيا في الخيال، و زاد به حتي انفجر يضحك كالمعربد الغرد، مما جعل الحضور يرمقونه باستغراب، و طاف علي السنتهم: ما بال بديح؟.. و لكن قطعه عليهم بقوله:

انها ستكون مفاجأة لذيذة الوقع علي الحسين، لا سيما و قد كانت كاهنة في هيكل ربة الجمال، و هو الحالم الهائم بالجمال المفعم به ضمير الوجود.

بعد ما تناولتها الوصائف بالتطرية و الهندمة مع أسلوب القصر، برزت كالربة التي تحلم و البحيرة تصطفق بأمواجها الرقيقة عند الشاطي ء.

كانت ساحرة الفتنة مغرية الجمال، و لكنها تري مع ذلك كالهائمة في ضميرها. فلم تكن بمنظرها تثير أصداء الشهوات بل تنشر أحلاما نشوي من


أحلام الروح، تلقي الناظر قسرا في مثل المحراب الذي يشيع في القلب مثل معني صلاة خاشعة.

و هذا اللون من الجمال غير محبب الا للهائمين في دنيا ضمائرهم، و أما الآخرون الذين يهيمون في دنيا أعصابهم و يتطلقون في مدي رسومها، فانهم ينفرون من هذا الجمال الذي يغريهم بمعني مبهم لا يتذوقونه، فيطعمون فيه مرارة الفقد، ثم لا يحرك أي وتر من أوتار قيثارة خيالهم المركبة تركيبا لا تنطق معه بمثل ريشة هذا الجمال، أو تنطق بنغمات متنافرة توحي بالمرارة.

ان طبيعة الانسان المعنوية مركبة تركيبا نغميا (موسيقيا)، و هي - علي نسق أوتارها المتحركة بريشة البواعث، اذا صح هذا التعبير، متنوعة الالحان و الايحاء. فمنها ما يوحي بالشهوة، و منها ما يغري بالتأمل، و منها ما يجيش بالدماء، و منها ما يمور بالحنان و الحب، و منها ما يدفع الي الاستعلاء. ان اللذة في حقيتها انطباعات و ارتسامات، فاذا مرت بالنفس نماذجها استجابت اليها و تحركت معها حركة انسجام لاذة.

أمضت «في القصر أربعين يوما»، كانت لا تفتأ خلالها تفكر في مصادفة هذا اللقاء مع بديح و هي التي باتت في يأس من لقائه، و قد باعدت بينهما أسباب و أزمان.

و ذهبت تناجي نفسها: ويح بديح، انه لم يزل في مثل يقظة عواطفة ليلة لقائنا للمرة الاولي بين أروقة هيكل «فينوس». ويح بديح! لقد كابد في سبيلي كثيرا و تجرع أمر الغصص و الآلام من أجلي، ثم تناهي به بعاد يعتصر عليه قلبه، فكم ذا يقاسي؟.

يا ما ألذ وقفة انتظار، في لحظات توله و تلهف، كنت أقفها عند بعض أعمدة الهيكل، و بديح مقبل تحت رداء الليل يمتعني بنفسه في جلوة قلب مغرم، أضفت عليها خلوة الاحلام! ياما أقدس تلك الرعشات، و أعذب وقعها!!.

اني لأذكر تلك الليلة و قد هبت فيها الاعاصير و لعبت في مسرحها العاصفة،


و كانت الآفاق تزأر زئيرا مخيفا، و الغمام يهبط مع جنح الظلام كثيفا كثيفا كأنه شاء أن يطمر الارض بما هو منزرع فيها من الحياة و الأحياء، و كانت الرمال تتعالي و تتعانق في شكل الأقواس، و ذعرت فيها حتي طيور الليل فانكفأت منكمشة في المغاور و الحفائر، و قد أمسكت حتي الركز من نأمتها.

و اني لتمنيت و أنا واقفة عند عمود الرواق الداخلي، أنه لا يأتي في ليلة بركان السماء. و بينا أنا واجفة مخطوفة اللب بالتخوف و الترقب أحرق قلبي للربة قربانا كي تحوطه و ترعاه، اذا هو مقبل كأنما رمي به الاعصار في العراء و تمخضت عنه العاصفة و وضعته في التيار الدائر في جنون.

أسرعت اليه أعتنقه دون الهيكل و هو يلفني كتلة طفولة، حذرا علي من طيش هذا الليل، و في الهيكل استند الي صدري كالذي خرج من المعركة ظافرا يجدد حياته في حس مخلوق جديد، انه خرج ظافرا من معركة العناصر و قد استدارت عليه بضراوتها. استند الي صدري و اطمأن كأنه يجد فيه ينبوع حياة، فهو يستمده بعض ما انتهبته العاصفة، و هو يصارع الاعصار.

قلت له و أنا أدغدغ جبهته و أعبث بشعره المتطلل [1] الذي كمنت فيه أصابع العاصفة: لماذا ركوبك الاعصار الي محراب حبنا؟. لكأنك من عدم مبالاتك محب فوق بركان.. فابتسم و أخذ وجهي بين كفيه يقول:

أأعرف أنك تصلين في محراب الحب و لا أسعي اليك في أجنحة الطير، كي أشاركك ترنيمة الهوي و ترتيلة الهيام؟ انك لتقسين علي في الظن بي.

قلت: عفوك! أردت أن تتخذ لنفسك محرابا في الذكري و لا تتجسم هذه الاخطار الي.

قال: ان محراب الذكري يغري بالظمأ في الحب و يضاعف شعوره، و اما الري في الحب فانما يهبط في محراب هذا الصدر الذي يمرح في فضائه قلب يمد بندي الغرام.


ايه غادة أحلامي! ليست العاصفة الرعوب هي التي تشهدين في حواشي هذا الليل، و انما هي عاصفة القلب و قد فارت فيه فائرة التياع، بل تلك، بجنب هذه، زغردات و ابتسامات و زقزقات ترسلها الطير مع السحر.. قسما لو حالت دونك أرض زرعت فيها كل البراكين، لتخطيتها اليك مغتبطا مسرورا.

فقلت معترضة: لا تبالغ، فان هذا بين البشر لا يكون، و انما هو من طباع الربات و الأرباب.. فذهب ضاحكا يقص علي قصة ذلك العاشق الكردي الذي طلبت منه فتاة هواه و ردة حمراء و أخري صفراء؛ و كانت حديقة الورود في يقظة حراس أشداء و في عين أسود غضاب، و يفصل دونها نهر يعج بالتيارات، فانطلق العاشق في مدي رغبتها يخوض النهر، و تقلب في حديقة الورود يبحث عن الوردة الحمراء فلمي يجدها. فعاد مبلل الثياب يقول لها مبتهجا: لقد أتيتك بهما.. فانه كان يحمل في يده الوردة الصفراء، و أما الوردة الحمراء فكان يحملها في صدره ثغرة فوارة بالدماء، فقد أصاب سهم الحراس قلبه فشطره..

قلت له متفجعة: أيكون ذلك حقا؟!

قال: ليس هو بعيدا عنك، ألا فامتحني في العاشق الكردي. أقول لك و أنا اعني ما أقول، لو تحدتني كل أرباب الأولمب كما تحدت «هرقل» لقاومتها في سبيلك ساخرا بقوتها.. فأخذت عليه سبيل الاستمرار و قلت له:

بحقي لا «تجدف» علي الأرباب، و أيضا في هيكل ربة الجمال «فينوس»، أني أخاف عليك.. فانقلب يقهقه قائلا:

لماذا لا تفكرين أنك انت الربة الحقيقية، و أما «فينوس» فربة خيالية أثيرية فقدت حرارتها، و بابرازك كاهنة في هيكلها يمدون وجودها البارد في الخيال، بحرارة أنت تنشرينها و توزعينها. فوضعت يدي متولهة علي فمه أقول:

لا! لا أريد أن أسمع منك تجديفا. آه لقد فجعتني، أأنت أيضا يا بديح تتكلم «بالهرطقات»؟!.. لقد كنت في ذلك الحين مؤمنة بقدرة الربات، و أنا


أرغب علي من أحب بأن يكون مثلي رأيا و ايمانا، لكنني عرفت بعد ذلك أن بديحا كان أعمق مني معرفة و أهدي تفكيرا.

لقد كنت مفعمة بالايمان، فصوره لي حديثه صورة منكرة توحي بالشر الكريه، فانقبضت عنه و ذعرت منه، و بالغ بي هذا اذعر فكرهته، وعدت بعد ذلك أتحاشاه و أنفر منه، أود أن لا أراه. و كنت أسائل نفسي: أيكون بديح مجدفا؟ و هو في نفسي صورة من ملاك؟ كلا لا أود أن أخنق بيدي بديحا العائش في خيالي، أود أن لا تشوه صورته في نفسي، و أنا اذا اجتمعت الي بديح ستمتد يده الي تشويه ما استوي في خيالي عنه، و لكن بديحا الخيالي محبب الي الحب كله، و أتمني أن أظل متمتعة به منتشية بمثاليته، و مثلي كاهنة راضت نفسها علي الأحلام، انما تحب في أحلام الروح دون حب في أحلام الاعصاب، فكان طبيعيا ان كنت أتواري كلما تعرض لي بعد ذلك. و هذ ما يقع اذا لم يكن الايمان فكرة في النفس، بل كان عقدة في الروح أو أزمة في الوجدان. و كلما كان ايمان المرء عقدة في الروح تكون عواطفه قاصرة علي من يشاركه هذا الايمان دون سواه، بل يتعدي ذلك فتساوره نزعات يتحرك معها تعصبه.

أما الفكر المجرد فانه لا يعرف تعصبا، و انما التعصب عقد في مكان الوجدان من النفس، فهي تتحكم بالعواطف علي لونها. و كلما كان الفكر أكثر ضيقا و الوجدان أكبر عقدا، فهناك يوجد شر أنواع التعصب، و عنده يستضيق المرء حتي بوجود من لا يشاركونه عقيدة الايمان. و لا شك في أن هذا بعض من طبيعة الانانية في الانسان، فاذا كان في التدين فكرة ايمان فهناك تدين صحيح علي نهج انساني، و اما اذا كان في التدين انانية ايمان فهناك أخطر شكل من أشكال اللاانسانية النكراء.

فنزعة التدين الصحيحة هي التي تجعلنا نحكم الايمان بالفكر، دون العكس الذي يتولد من ازمة نفس و يولد أزمة نفس و حياة ايضا. أما الفكر فليس يقبل عقدة بل من وظيفته أن يحل العقد في النفس الانسانية و الحياة و الوجود، و هو اذا قبل العقد أحيانا فانما قبلها في ضرب من الامتحان و في ضروب خفية من الارتياب.


فالفكر يرادف الامتحان أو النقد المجرد، و تقدم الانسان معناه تقدمه في الفكر الذي ينتج حل اكبر مقدار من العقد، و في ظني اليوم أن تقدم الفكر ليس معناه القدرة أو الغني في التفكير بل معناه الكفاءة علي التفكير بدون اعصاب أي بتجرد للفكر، و من ثم لا نحب أو نكره و لا يضر بنا القرب أو البعد بل تمحي فكرتهما ثم لا تتصرف بعواطفنا تبعا لهما.

ليتني كنت أعرف هذا من قبل، اذن لما جافيته و نفرت منه و ظللنا في متعة الحب الخالدة... لقد رأي بديح مني ذلك الاعراض فلم يطق الحياة و اجتواها، فذهب علي وجهه، لا أدري أين وقعت به يد الأقدار؟

و لقد احسست و الله بعد ما فقدته بالأسي الفظيع، فطلبت السلوة في الشرود بالمعرفة، فاندفعت الي فكر جديد. فهجرت الهيكل و ابتدأت رحلتي وراءه من من نقطة هائمة، فانتهت بي قراصنة الروم الي حيث مكاني، و كان قدرا ماتعا، فقد رأيت بديحا...

بعد مقام قصير في البلاط «حملت الي المدينة مشفوعة بأموال عظيمة و هدايا كثيرة متنوعة، و محاطة بكوكبة من الفرسان، و زود الملك رئيس الركب كتابه الي الحسين جاء فيه:

ان اميرالمؤمنين اشتري جارية فأعجبته فآثرك بها».

أدخلت علي الحسين و هو منصرف الي القرآن، سابح في مدي تأملاته يقرأ «و جاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلي دلوه، قال يا بشري، هذا غلام. و أسروه بضاعة، و الله عليم بما يعملون».

و كان في الجو الذي يكتنف الحسين ما أعاد اليها ذكري الهيكل، و نقلها الي مثل المحراب، و زاد بها هذا الشعور فاعتقدت يقينا أنها لم تعد في شي ء مما يتصل بدنيا الناس، فحفتها سكينة و لفتها هدأة الروح و غرقت في خضم بعيد القرار من الابديات، و أحست أنها مثل غرنيق - طير الماء - تترجح به الامواج


الحالمات، و كانت سكري بما يتساقط الي سمعها من نغمات مسحورة، تشعر بها في مدي روحها عذبة ندية.

كانت لها هدأة طويلة لم تفق منها الا علي صوت الحسين يستقبل رئيس الركب، و راح هذا يحبره بكل خبرها و يروي له كل ما ترقي الي سمعه من أنبائها. فالتفت الحسين اليها في ابتسامة مواسية يقول:

لظني بك، و أنت جديدة عهد بالاغتراب، أنك موحشة النفس، و بودي أن تتداركك حال تأنسين بها و تطمئنين.

قالت له هوي: كنت خليقة بالوحشة في غير مكانك، و لكنني و أنا فيه فاني جديرة باطمئنان في النفس و الضمير... شاعت علي وجه الحسين ابتسامة هادئة هانئة، و قال دهشا:

لقد سبق الي ظني أنك لا تجيدين العربية علي نسق ما أسمع، و لكن أما و أنت مثل أصيلة في اللسان، فلن تكوني غريبة عن حياة بيئتنا العربية، ان لم تتذوقيها مثل أصيلة فيها أيضا.. فابتسمت في استحياء و اغضاء و قالت:

بل - يا مولاي - لأحس في كنفك أني عربية صليبة عريقة الهوي و القلب في مواقع رغباتها و ميولها. و لقد حبب الي لسان العرب أنه يتمتع بأكبر قسط من وحي الطبيعة و الفطرة، ففيه صور و اصداء، و مناظر تامة صادقة انتزعت من الطبيعة مباشرة و سكبت في قوالب الألفاظ بدقة و حقيقة، بل لقد أفرغت الطبيعة أشياء ذاتيتها في الكلمات كأنها طلبت حركتها الحية في اللغة.

و في لسان العرب أيضا مشاعر و أحاسيس انسانية و حيوية، لم تتحرف و تتكسر بتحكم الفكر و اختلاقه، و بعبارة أصح تشويهه. فهذا اللسان طبيعة و حياة و انسانية في أصدق ألوانها، و مفرداته كلمات الطبيعة أول ما تحركت و نطقت؛ فقد تصيدها العربي و انتحتها و هو بعد يتوجه بالقريحة النقية، دون التواءات الفكر و التفافاته، فهي أنقي ما تكون لغة في مذهب التعبير.


و لقد عمدت الي كهف روحي فوجدته قاتما حالكا، و رأيت مصباح فكري خابيا و هو اذا توقد وشع، فلا يضي ء كهف روحي و أظل منه في ديجور، فقد حيل بينهما بسدود كثيفة صفيقة؛ لكنني وجدت دينكم الجديد قد حاول و نجح الي أكبر حد في رفع هذه السدود القائمة في دروب النفس، و أذكي شعلة الفكر فاتصل ما بين الفكر و الروح بالشعاع و بت متألقة المعني، فسكنت الي دينكم و طعمته أيضا فتعشقته، انه رفع السدود في دروب روحي و كانت هائمة متخبطة بين سد و سد، و أطلال خرافات و أساطير.

قال: لله أنت! أكنت حكيمة أم اديبة؟ هل «تجيدين القرآن» تلاوة؟

قالت: نعم.

قال: «فاقرئي علي» ان شئت... فراحت تتلو «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو، و يعلم ما في البر و البحر، و ما تسقط من ورقة الا يعلمها، و لا حبة في ظلمات الارض، و لا رطب و لا يابس الا في كتاب مبين. و هو الذي يتوفاكم بالليل، و يعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمي، ثم اليه مرجعكم، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون. و هو القاهر وق عباده، و يرسل عليكم حفظة، حتي اذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا، و هم لا يفرطون. ثم ردوا الي الله مولاهم الحق، ألا له الحكم و هو أسرع الحاسبين»... و كانت تتواجد في تلاوتها تواجد من قد أخذ بنشوة مفعمة.

قال لها: يخيل الي انك اكثر وعيا لهذه الآيات من كثير من العرب انفسهم، لما رأيت عليك من سبحات الخشية.

قالت: بودي أن أكون عند ظن مولاي بي. و لم لا يعروني ما قد عراني؟ و أنا أتلو هذه الآيات القوارع التي تجعلني في محيط علم الله و كأني كل ما في المحيط أو ليس غيري فيه؛ علي أننا من هذه الحياة في مسرح نقوم عليه بأدوارنا، و لسنا ندري أمحسنون نحن في أدوارنا أم مسيئون؛ ثم هل هناك أنقي تصويرا لعلاقة الله السببية في الوجود، و لعلاقة الله الادبية بالانسان؟ أما في كل هذا ما يبعث علي


الدهشة و الخشية جميعا؟ أما فيه ما يغري الروح بلحظة سكينة و هدأة تأمل؟ و كان الحسين يقاطعها بقوله:

ايه! ايه أي بنية، فقد أحسنت و الله!... و واصلت تقول:

أما يجد مولاي في الوقوف عند هذا التعبير «مفاتح الغيب»، ما يبعث علي التأمل الطويل و ينشر في القلب و جمة تفكير مديد؟ هذا التعبير الذي يرسم الغيب في الخيال علي هيئة أدراج قامت عليها الاغلاق، و في كل أشياء الوجود و الطبيعة غيب مستور، أو فضاء و دنيا من عالم مبهم غيبي محجوب؛ فالشي ء من الوجود درج غيبي يسبح فيه عالم خفي مديد و عند الله مفتاحه، و ما محاولاتنا الحثيثة في استكناهه الا غوص و وقوف عند الشاطي ء بازاء المجهول.

قال: لقد زدت علي الاحسان، أي بنية... و أضفي صموت طويل كان مسرح خواطر شتي، و لكن الحسين قطعه بقوله:

الا تروين «شيئا من شعر العرب» و أدبهم؟

قالت: بلي... و كانت لم تزل في اثارة من صوفيتها المفعمة، فأنشدته أبياتا جاء بينها:



انت نعم المتاع لو كنت تبقي

غير أن لا بقاء للانسان



و لذها الانشاد في هذا اللون المبطن بالروح و لفتات الاشراق، فأنشدته شعرا سبق لها أنها أنشأته معبرة عن شعور نفسها «في مجلس معاوية»، و ما قد كونته من نظرة الي الحياة و قيمتها و جهد الحي فيها:



«رأيت الفتي يمضي و يجمع جهده

رجاء الغني، و الوارثون قعود



و ما للفتي الا نصيب من التقي

اذا فارق الدنيا عليه يعود»



فلم يملك الحسين الا ان يتواجد، و ما هو الا أن فاض في قلبه ينبوع حنان تندت معه مقلتاه و تبلور فيهما مثل الدمع، و الا فهو عصارة شعور بعبق


التقوي. ثم قال لها: اذهبي «فانت حرة و ما بعث به معاوية معك فهو لك»، علي انك عندي ابدا مثل كريمة عزيزة المكان في هوي أهلها...

و ما هو حتي اقبل بديح يستأذن عليه، فقد أوفده مولاه عبدالله بن جعفر الي دعوة الحسين، و لكنه ما مثل بين يديه حتي رأي مهاة قلبه مرة اخري، بيد أنه في هذه المرة كان أعنف شعورا بها، فقد جددت عهد هواه في دمشق، و قد احالت قلبه الذي كان كشلو تناهي في حب ضامر قديم، الي قلب جديد حياة، انصب فيه جديد حب ما فصل عنه امس و.. فتاهت حروف كلماته في فمه، و احتضرت مضطربة علي لسانه، و قسرا و جم في ذهول طال به مداه.. و تداركها مثل شعوره و غصة قلبه فانخطف لونها، و الحسين يري فأطرق اطراقة مائجة بالايحاء، مر في خاطره معها ان بديحا ينتهي الي مثل غربتها، فغير بعيد ان تكون ذات هوي به و ضرب الزمان بينهما، فباعدهما قدر عاد في دورة اخري يضمهما.. و جدير بي ان أكون خط النهاية في دورة القدر البهمة؛ فالتفت الي بديح و قال:

كنت علي اهبة ان استقدمك الي يا بديح، فسقطت من نفسي علي موعد؛ أنت عندي مثل كريم عزيز، و هي عندي مثل... فاستخف ببديح عاصف فرحة كبري، حتي كأنه دفع الي الخلد من نافذة بعد أن حيل بينه و بين الباب طويلا. و لم ير الا مكبا علي يد الحسين يقبلها، في موضع تلاقي عليه ثغران: ثغره و ثغرها.

و كان في منظر وضعهما ما أفعم قل الحسين بغبطة الروح «ففاضت مقلتاه» بدمع السرور، السرور غير المحدود. و بذل لهما «الف دينار، و قام الي صلاته» هاني ء القلب ريان، ناعم الضمير نشوان...

جاؤوا يقتنصونه بغانية من فتون الدنيا...

لعلهم يهبطون به الي مثل حضيضهم و رغامهم...


بيد أنها ما استهوته. عل أنه قد استهواها...

فقد مسها بشعلة من الاشراق، غدت بها خلقا آخر...

و جد قلبا حائرا يبحث عن قلب تائه...

و كلما أوشكا ان يلتقيا، يضيعان الطريق مرة اخري...

فكان همه ان يصنعهما سعيدين... فضم قلبا الي قلب و مزج نفسا بنفس!...



پاورقي

[1] نعني بالمتطلل المتخذ شکل الاطلال؛ و تفعل بهذا المعني قياسي.