بازگشت

في وجه الظلم


في جوف الليل العميق عميق الأبدية و المجهول حين كان الظلام ينتشر علي شكل أردية فاحمة، تلفع وجه الكون و تلقيه في سكون حائر و سبات و اجم مخيف، انطلقت أنة تتبعها أخري و أخري في تلاحق بدأ بطيئا ثم كر سريعا، و كانت أنات تسمع جريحة و يخيل أنها تري دامية كليمة، تجتمع فتشكل صرخة باغتة او بغتة صارخة، و تتوزع متقطعة متناوحة فتؤلف لنا فانيا، كأنه لحن التلاشي المحتضر او نغمة القناء الذائب في افواه القبور.

أصغي الحسين الي ما يتناهي في سمعه و مال بأذنه كأنه يسأل: ماذا؟! و قد خف قلبه اليها يسابق السمع، و لكن النأمات اختلطت فأدار اذنيه كلتيهما الي الجهات كلها، وهفا قلبه يتوثب يمينا و شمالا، بيد أنها ظلت تقول في منطق الصدي: أواه! و ظل كأنه يقول: ماذا؟ و اختلطت الآهات و انبهمت.. فهب يشتد خارج الهيكل مستطلعا و هو يردد:



الليل ليل، و هو ويل ويل

و سال بالقوم الطغاة السيل



ويل للظلم و الظالمين، «الظلم ظلمات يوم القيامة».

أطل من الهيكل و أطلع رأسه و الناس متجمهرون علي بعضهم كالغمام المرف


يقولون: أفي كل يوم ضحية جديدة و دم يطل؟ أفي كل يوم تمزق أكباد و تنثر أشلاء؟

لقد جاء النعي بأن حجر بن عدي طل دمه منذ ليال في نفر من صحبه، و هؤلاء وجوه اهل الكوفة يستصرخون و ينتصفون.

قال الحسين: رباه ما اسمع. أحجر يقتل و لا نصنع شيئا؟ فيا حياة أشيحي و اغربي، و يا دنيا الآثمين ذوبي و اضمحلي!

و كان قد آذنهم الفجر بالصلاة فعاجوا الي المسجد و التأموا صفوفا، و ما انصرفوا حتي تحلقوا علي شكل دوائر في بعضها... فقام رجل من أهل الكوفة فقال:

ايها الناس: أنتم هنا في المدينة بقية اصحاب النبي، و اليكم تتجه الانظار من كل مكان و الي ظلالكم يفيئون قصد تطهير المجتمع من الأدران.

انتم هم الانصار، و بينكم ترعرعت النبوة و اشتدت قوادمها و ربت خوافيها. فاستوي النسر و حلق صعدا في كل مجال، و ارتعدت فرائص البغاث و أهوي الخفاش الي الحفائر يستخفي. و لقد عاد النسر الآن الي و كره و أخذه رقاد عميق، فاستنسر البغاث وعدت الهوام في كل مكان. ان المدينة هي نسر النبوة، فأهيبوا بالنسر الي التحليق لترتعد الهوام من جديد، و تنسحق في الرغام ابدا.

ألا فأنتم حفظة الوحي، و حامو ذمار الرسالة دون العابثين. ألا لقد ارتد ألمجتمع الي جاهليته الرعناء، و لكن بأثواب أخري تتماوج من خلالها، و ليت هذا فقط، انه ضم الي جاهليته قبل الرسالة جاهلية كل أمة و كل قبيل.

انظروا! انظروا! لقد بعث محمد عدوا للملكيات؛ فبتنا نتقلب في أردا أشكالها. و علم محمد ضرورة الحد من طغيان رجال المال؛ فصارت كل القوي في ايديهم. و أطلق محمد حرية الفرد و أعطاه الحق بالحياة كيف شاء في حدود الصالح الاجتماعي العام و في حدود الاخلاق المسلكية و الضمير الانساني الشامل؛ فاذا بنا نحيا في استعباد اجتماعي منكر، حتي لقد تناهوا فانتزعوا حق الحياة


من ايدينا، و باتوا ينعمون علينا، اذا شاءت شهواتهم، بقدر حقير بليد من الحياة البائسة الشقية؛ و أفضل منها الموت خطة، و الله.

و ضج الكنديون من أطراف الجموع و بينها: يا لثارات حجر! و انطلق المتكلم الكوفي يصل ما انقطع ملتاعا مهتاجا: لقد أذكرتني ثاراتهم مصرع حجر بن عدي الكندي؛ و من يجهله؟ لقد كان من اكبر أعلام الرجال و نقطة الفضل منهم، فقد صحب النبي و أظهر أروع انواع البطولات في فتح الشام مع أبي عبيدة. و كان من خبره «أن معاوية لما ولي الغيرة بن شعبة الكوفة سنة احدي و أربعين، دعاه و أوصاه بشتم علي و ذمه و العيب علي أصحابه و الاقصاء لهم، و باطراء شيعة عثمان و الادناء لهم و الاستماع منهم. فأقام المغيرة عاملا لمعاوية سبع سنين و أشهرا، لا يدع ذم علي و الوقوع فيه و الدعاء لعثمان بالرحمة، و التزكية لاصابه و المطالبين بدمه.

فكان حجر اذا سمع ذلك قال: بل اياكم فذمم الله و لعن... ثم قام فقال: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، و أنا أشهد أن من تذمون و تعيرون لأحق بالفضل»... ألا لقد كان ذلك من معاوية سياسة تدل علي عدم فهم جيد لنفسية الجماهير و عدم تغلغل بين حناياها و في خلالها، فقد كان في هذا التنقص مما يكفي لبعث الدفائن و اذكاء نار الحفائظ اذكاء جهنميا ساجرا، قد يأتي علي أركان الدولة و يطوح بها شر طياح، كما يجعل كل نفس تنطوي علي أحقاد طامسة تروح و تغدو في ائتمارات تروي بها سخائمها. نعم هي حماقة و ان كان يرمي بها الي جملة غايات:

(أ) التشفي و توكيد ما سبق و نشره من دعايات ضد علي في الشام و سائر مناطق نفوذه.

(ب) بث عقيدة سيئة تنمو مع الايام لدي الناس في البطل الاسلامي الخالد علي و في بنيه، و بذلك يأخذ الطريق دونهم اذا راموا محاولة من نوع المحاولات الكبري، فقد سمم الجو عليهم؛ و غير خفي ان الآراء و المعتقدات انما تنشأ بالتلقين و التكرار و المعاودة.


(ج) تحريك أنصار علي للتمرد و استثارتهم للشغب علي رجال الدولة و الدولة، و بذلك يجد السبب لادانتهم و أخذهم واحدا بعد واحد، و هذا ما وقع لحجر بن عدي و جماعة كبري هنا و هناك.

و لكن رغم أنها تقصد الي كل هذا، فقد كانت سياسة هوجاء أعشي فيها عنصر الانتقام علي قصد السلم الضروري اذ ذاك، لايجاد حالة تواصل صحيح مخلص بين الدولة و الشعب.

و المغيرة كان الي ذلك حسن التأتي فهو يفعل ما يأمر به مرجعه، و يترك للناس حريتهم في التعليق كيف شاؤوا. «و لما هلك سنة احدي و خمسين، جمعت الكوفة و البصرة لزياد بن سمية، فصعد المنبر و ذكر عثمان و اصحابه فقرظهم و ذكر قتلته و لعنهم، فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة؛ و رجع زياد الي البصرة، و ولي الكوفة عمرو بن الحريث، فبلغه أن حجرا يجتمع اليه شيعة علي و يظهرون ألمهم و البراءة من معاوية و عمله. فشخص الي الكوفة و خطب الجمعة و أطال الخطبة و أخر الصلاة، فقال حجر: الصلاة! فمضي في خطبته. ثم قال: الصلاة! فمضي في خطبته، فلما خشي فوت الصلاة ثار اليها و ثار الناس معه. و لم يسع زيادا الا النزول و الصلاة بالناس، و كتب الي معاوية في أمره فكتب اليه معاوية: أن شده في الحديد ثم احمله الي... فاخذ زياد حجرا و حبسه ثم حمله الي معاوية، فلما دخل عليه سلم فقال له: و الله لا اقيلك و لا استقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه... فقال حجر للذين يلون امره:

- دعوني حتي أصلي ركعتين!

قالوا: صله... فصلي ركعتين خفف فيهما، ثم قال:

لولا ان تظنوا بي غير الذي انا عليه لأحببت ان تكونا أطول مما كانتا، و لئن لم يكن فيما مضي من الصلاة خير فما في هاتين خير.. ثم قال لمن حضره من أهله:

لا تطلقوا عني حديدا و لا تغسلوا عني دما، فاني ألاقي بها معاوية غدا علي


الجادة»... ثم تتبع اصحابه واحدا بعد آخر فقتل عمر بن الحمق و رفاعة بن شداد الي كثير كثير لا يحصون.

ألا يا سبط محمد! ان مبادي ء محمد تناديك، و قرآن محمد يهيب بك، الي العمل، الي العمل السريع، فلم يعد في القوس منزع، و لا في الصبر معتصم فقد تشقق الحزام علي الطبيين، أو تهر في مثل نسيل الزغب.

و هبت تعول اخت حجر بن عدي بقولها:



ترفع أيها القمر المنير

لعلك ان تري حجرا يسير



يسير الي معاوية بن حرب

ليقتله كما زعم الخبير



تجبرت الجبابر بعد حجر

و طاب لها الخورنق و السدير



و اصبحت البلاد به محولا

كأن لم يأتها يوم مطير



الا يا حجر حجر بني عدي

تلقتك السلامة و السرور



اخاف عليك.. ما اردي عديا

و شيخا في دمشق له زئير



الا يا ليت حجرا مات موتا

و لم ينحر كما نحر البعير



فان يهلك فكل زعيم قوم

الي هلك من الدنيا يصير



و علي اثر ذلك قام قيس بن فهدان يقول و هو مفعم الحزن كالذي فقد كل ذويه او كل بنيه:



يا حجر يا ذا الخير و الأجر

يا ذا الفضائل نابه الذكر



كنت المدافع عن ظلامتنا

عند الظلوم و مانع الثغر



كانت حياتك اذ حييت لنا

عزا، و موتك قاصم الظهر



يا طول مكتأبي لقتلهم

حجرا، و طول حزازة الصدر



قد كدت أصعق جازعا أسفا

و أموت من جزع علي حجر



فدمعت مقلتا الحسين، و قال بصوت بينه و بين نفسه: لولا ببعة سبقت لسرت بالناس، وثرت بالظالمين، حتي يحكم الله بيني و بينهم، و الله خير الحاكمين.


و بينما هم جلوس لم يتفرقوا بعد، جاء البريد بكتب الي الحسين و عبدالله بن عباس فكان هذا أسرعهما الي فض الكتاب. فاذا بزياد «يعتذر في شأن حجر و أصحابه، فألقي الكتاب راجفا مرتعدا و هو يقول كذب! كذب! ثم أنشأ يحدث: اني حينما كنت في البصرة كبر الناس بي تكبيرة، ثم كبروا الثانية و الثالثة، فدخل علي زياد فقال:

هل انت مطيعي يستقيم لك الناس... فقلت: ماذا؟

فقال: أرسل الي فلان و فلان ناس من الاشراف، فاضرب رقابهم فانه يستقيم لك الأمر.. فعلمت أنه صنع بحجر و أصابه مثل ما أشار به علي».

و كان علي المدينة يومئذ مروان بن الحكم فترقي الخبر اليه، فكتب الي معاوية «يعلمه ان رجالا من أهل العراق قدموا علي الحسين و هم مقيمون عنده يختلفون اليه.. فكتب معاوية الي الحسين:

أما بعد: فقد انتهت الي امور عنك لست بها حريا، ان كانت حقا فقد أظنك تركتها رغبة فدعها، و لعمر الله ان من أعطي الله عهده و ميثاقه لجدير بالوفاء، و ان أحق الناس بالوفاء لمن أعطي بيعته، من كان مثلك في خطرك و شرفك و منزلتك التي أنزلك الله بها. و ان كان الذي بلغني باطلا، فانك انت اعدل الناس لذلك. فعظ نفسك، و بعهد الله أوف، فانك متي تنكرني انكرك، و متي تكدني اكدك. فاتق شق عصا هذه الامة، و أن يردهم الله علي يديك في فتنة. فقد عرفت الناس و بلوتهم، فانظر لنفسك و لدينك ولأمة محمد، و لا يستخفنك السفهاء و الذين لا يعلمون».

و كان وقع كتاب معاوية عند الحسين و هو يري من مهازل الحكم و مآسيه وقع النار في الهشيم، فما تلبث حتي كتب الي معاوية كتابه الخالد الذي كان وثيقة اتهامية خطيرة للسلطات العليا و قائمة احصاء بالاعمال الاغتيالية التي ارتكبتها، و كان الي هذا استجوابا و انذارا شعبيا، قال:

«اما بعد: فقد بلغني كتابك تذكر فيه، انه انتهت اليك عني امور انت


لي عنها راغب و انا بغيرها عندك جدير، و ان الحسنات لا يهدي لها و لا يسدد اليها الا الله تعالي.

و أما ما ذكرت انه رقي اليك عني، فانه انما رقاه الي الملاقون المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الجمع، ما أردت لك حربا و لا عليك خلافا، و ان كنت لأخشي الله في ترك منك و من الاعذار فيه اليك و الي أوليائك القاسطين.. الست القاتل حجر بن عدي اخا كندة و اصحابه المصلين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم و يستفظعون البدع و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و لا يخافون في الله لومة لائم؟ ثم قتلتهم ظلما و عدوانا من بعد ما أعطيتهم الايمان المغلظة و المواثيق المؤكدة، جراءة علي الله و استخفافا بعهده؟ او لست قاتل عمرو ابن الحمق صاحب رسول الله العبد الصالح الذي ابلته العبادة، فنحل جسمه و اصفر لونه، فقتلته بعد ما أمنته و اعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟ او لست قد سلطت زيادا علي الناس يقتلهم و يقطع أيديهم و أرجلهم و يسمل أعينهم و يصلبهم علي جذوع النخل، كأنك لست من هذه الامة و ليسوا منك؟ او لست قاتل الحضرمي الذي كتب اليك فيه زياد أنه علي دين علي، و دين علي هو دين ابن عمه الذي اجلسك مجلس الذي انت فيه، و لولا ذلك لكان شرفك و شرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء و الصيف؟

و قلت فيما قلت: انظر لنفسك و لدينك و لأمة محمد، و اتق شق عصا هذه الأمة و أن تردهم الي فتنة. و اني لا أعلم فتنة أعظم علي هذه الأمة من ولايتك عليها، و لا أعظم نظرا لنفسي و لديني و لأمة محمد أفضل من أن أجاهدك، فان فعلت فانه قربة الي الله و ان تركته فاني أستغفر الله لديني و أسأله توفيقه لارشاد أمري.

و قلت فيما قلت: اني ان أنكرتك تنكرني و ان أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فاني لأرجو أن لا يضرني كيدك، و أن لا يكون علي أحد أضر منه علي نفسك. لانك قد ركبت جهلك و تحرصت علي نقض عهدك، و لعمري ما وفيت بشرط، و لقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلهم بعد الصلح و الأيمان


و العهود و المواثيق، فقتلتهم من غير ان يكونوا قاتلوا و قتلوا. و لم تفعل ذلك بهم الا لذكرهم فضلنا و تعظيمهم حقنا، فقتلتهم مخافة أمر، لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فابشر يا معاوية بالقصاص و استيقن الحساب، و اعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الا أحصاها. و ليس الله بناس لاخذك بالظنة، و قتلك أولياءه علي التهم، و نفيك أولياءه من دورهم الي دار الغربة. ما أراك الا قد خسرت نفسك و تبرت دينك، و غششت رعيتك، و اخربت أمانتك، و سمعت مقالة السفيه الجاهل، و أخفت الورع التقي، و السلام».

كان جديرا بهذ الكتاب ان يحرك في هيئة الحكم ضمائرهم و يردهم عن غواياتهم، و يضع حدا لسياسة الدماء أو علي الاقل يخفف من اساليب البطش و الاعتساف. فان صلة الراعي بالرعية صلة العاطفة المخلصة، و كلما كانت صلة المنفعة الخالصة فهناك يوجد افظع شكل من اشكال اللصوصية و الاغتصاب.

نعرف ان احصاء الاخطاء علي المخطي ء يدفعه نفسيا الي تصحيح الخطأ، الا اذا بنيت النفس علي الشذوذ، كمن يتعطش الي الدماء بما فيه من وحشية كامنة، فهذا يحس بلذة في نهر الدماء و اهراقها و تأخذه نشوة خفية بتردادها و تعدادها. الا اذا استحال حب الذات الي فكرة ثابتة، فيستحيل الخطأ الي صفة نفسية ثابتة ايضا هي قصد الخطأ، فلا يزال صاحبها يقصد الاخطاء و يفعل الاجرام بمحض الرغبة في توفير شهوات الذات و تنمية كبريائها.

و هذا ما قد حدث بالفعل في حاشية معاوية، فلم يكن للكتاب من أثر سوي ما عبرت عنه رواية التاريخ أبلغ تعبير: «لما قرأ معاوية الكتاب قال:

لقد كان في نفسه ضب ما أشعر به.

فقال يزيد: يا اميرالمؤمنين. اجبه جوابا يصغر اليه نفسه تذكر فيه اباه بشر فعله... و دخل محمد بن عمرو بن العاص، فقال معاوية:

أما رأيت ما كتب الحسين؟


قال: و ما هو؟.. فأقرأه الكتاب. فقال: و ما يمنعك أن تجيبه بما يصغر اليه نفسه. قال يزيد:

أرأيت - يا أميرالمؤمنين - رأيي؟! فضحك معاوية و قال:

اما يزيد فقد أشار علي بمثل رأيك.

قال محمد: قد اصاب يزيد.

قال معاوية: أخطأتما. أرأيتما لو اني ذهبت لعيب علي، فما عسيت أن اقول فيه، و متي ما عبت رجلا بما لا يعرفه الناس لم يحفل به و لا يراه الناس شيئا و كذبوه، و ما عسيت أن أعيب حسينا و الله ما أري للعيب فيه موضعا. قد رأيت أن أكتب اليه أتوعده و اتهدده، ثم رأيت ألا أفعل».

بعد هذا لم يسع الحسين الا أن يشرف كثيرا من دنيا الهيكل التي يتحنثها و يحياها، الي دنيا الناس التي تعج بمجموعة الاحياء و تختلط و تمور بالبغي، يصلح منها ما وسعه اصلاحه و يحد ما استطاع من طغيان السلطات علي الجماعات و الافراد.

و يظهر أن السلطة في كل مكان كانت قد اتخذت لنفسها منهاج عمل شاذ، فهي تسعي للحيازة ما وسعها دون التقيد بقانون أو نظام، فضاعت حقوق الضعفاء ضياعا تاما، و اضطر الافراد الي استعمال وسائل قوتهم للاحتفاظ بحقوقهم أو دفع عادية الضيم عنهم، حتي اضطروا اخيرا الي احياء الوسائل الشائعة و اعتمادها قبل نشوء الحكومة النظامية من مثل ما يسمونه «حلف الفضول»، و هو يعبر عن تكتل أفراد أو جماعات علي وجهة نظر تتعلق بالخير و حماية الضعيف. و تكون مثل هذه الوسائل ضرورية في غير وسط الحكومة النظامية بالطبع، و لكن الحاجة اليها في وسطها معناه أن الحكومة نفسها باتت خطرا علي الأمن و الحقوق

«كان بين الحسين و بين الوليد بن عتبة، و هذا يومئذ أمير علي المدينة، منازعة في مال كان بينهما، فتحامل علي الحسين في حقه لسلطانه. فقال الحسين:


احلف بالله لتنصفنني من حقي أو لآخذن سيفي، ثم لا قومن في مسجد رسول الله ثم لأدعون بحلف الفضول!

فقال عبدالله بن الزبير و هو عند الوليد: و أنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتي ينصف من حقه أو نموت جميعا.. و بلغت المسور ابن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك، و بلغت عبدالرحمن بن عثمان التيمي فقاله».. و يظهر أن الخلاف رفع الي معاوية و استصرخه الوليد علي الحسين، فكان من معاوية تدخل، و كان منه ميل بالضرورة الي جانب الوليد.

«فقال الحسين لمعاوية: اختر مني ثلاث خصال، اما أن تشتري مني حقي، و اما أن ترده علي، أو تجعل بيني و بينك ابن عمر أو ابن الزبير، و الا فالرابعة و هي الصيلم.

قال معاوية: و ما هي؟

قال: اهتف بحلف الفضول.. ثم قام فخرج مغضبا، فمر بعبدالله بن الزبير فأخبره فقال: و الله لئن هتفت به و أنا مضطجع لأقعدن، أو قاعد لأقومن، أو قائم لأمشين، أو ماش لاسعين، ثم لتنفذن روحي مع روحك أو لينصفنك! فبلغت معاوية فقال: لا حاجة لنا بالصيلم.. ثم أرسل اليه: أن أبعث فانتقد مالك، فقد ابتعناه منك».

ان حلف الفضول كان يعبر عن ثورة منظمة غير هائجة و لا متخطبة، دائمة الحياة دائمة الترويع، يطلقها الشعب بمقدار و يضمها بمقدار، يجمعها الصالح الاجتماعي كما ينشرها هو أيضا في تقدير موزون.

في جسم الباطل حاول الحق أن يجد نقطة يتركز فيها...

و ما هو حتي امتد و تفرع، و أخذ علي الباطل سبيل امتداده...

فذهب في ضمور شيئا وراء شي ء، و ضاقت به الحياة فلفظته...


و اذا به يبحث عن وجوده في عراء العدم، و هو خضم لا يمد بالوجود...

في المحيط الملح ينبثق نبع عذب يكون بيئة اللآلي ء...

فأغري المحيط بلآلئه فراح يعتصر طبيعته في مثلها...

و لكنه تمخض طويلا و انكشف عن حصي تارة، و تارة عن دنيا من الملح المرير..

في لوح حالك وقعت نقطة نور...

فنشرت أشعتها، و كان السواد أكثر اظهارا لطبيعتها، و ابداء لما اجتمع في وجودها من سني و سناء...

و راح السواد كلما تغيظ و بالغ في اظهار طبيعته، يضيف الي كوكبة النور جدة اشراق...

و كان كلما ذهب يقول: «أنا» يشرق بحسك الشعاع و أشواك الضياء، فتحتضر كلمته دون لسانه...

فلم يقع في سمع الحياة، الا كلمة قالتها كوكبة النور، و مشت بها الحياة في التاريخ، و رجعتها أبدية الضمير...