بازگشت

في الهيكل


هجر الناس الي المسجد، و سئم الحياة الصاخبة و قد امتدت اليه بأرزائها، و اتصلت الي قرارة حوبائه بأسباب بأسانها، فما بشت في وجه الا قليلا، علي ان ذلك القليل لم يكن الا كالفترة بين تجهمين.

بله فكرته عن الحياة و كانت لا تزيد في اعتباره عن مسرحية مرسلة ارسالا لا تتقيد بوحدة زمان و مكان، تسر في بعض منها و تشقي في بعض، و تضحك و تبكي و تلذ و تؤلم. و هي مع ذلك لا تؤلم حقيقة كما لا تلذ حقيقة، و لكنها تغري بالألم و اللذة اذا استجاب الي أشيائهما الشعور، فتلون بها و تعلق في الفكر رغبة تصديقها، و الا فهي في حقيقتها ضحكة نحن نفتعلها و نحن نعود فنصدقها و نؤكدها.

أما أنها واقع فأبعد ما تكون عن ذلك، و الا فلماذا تكون مصائب قوم عند قوم فوائد؟.. و لماذا لا تمتلكنا مشاعر واحدة حيال الحادث الواحد؟

أليس هو حادثا واحدا لا يملك هذا التباين، فمن أين جاء اذن؟ ان كان الحادث علة و المشاعر المتباينة تنشأ عنه بالعلاقة السببية، فكيف اختلفت؟

و لماذا أقتنع أنا بأسلوب و منطق لا يقتنع بهما الآخر في زمان و مكان ليس


مختلفين؟ و يحس كل منا أن الواقع هو ما انطوي عليه و شعر به شعورا فكريا او معنويا.. أما يحس كل منا اذا اقتنع بأمر او برأي، أنه انتقل من واقع لم يعد له هذا الاسم الي واقع ليس سواه خليقا باطلاق الاسم؟ ألسنا لا نبتئس و نحن نعبث جذلين باشلاء الاعداء و دمائهم؟

فالطبيعة الحية اذا تهدم العلاقة السببية في نفسها ثم لا نخضع لناموسها، و العلاقة السببية هي ظاهرة الواقع، فلا بدع بعد هذا ان كانت الحياة ليست واقعا او لا تعبر عن واقع في كثير او قليل.

ان الحياة انما تجد واقعها في انفعالنا الضميري [1] او الوجداني، فكل ما لا يجد طريق انتهائه الي مركز الانفعال الضمري ليس بحياة. فلكي يكون اذا للعلاقة السببية عمل في الطبيعة الحية فتنتج وحدة أثر، لابد من وحدة زمان و وحدة مكان و وحدة حادث و وحدة ضمير، و هذه الأخيرة أهم الوحدات من حيث تجد الحياة الانسانية في بيدائها واقعها. فأشياء الحياة لا تجد حياتها و بعبارة أخري لا تجد حقيقتها الا اذا استجاب اليها الشعور، و الا فاين الألم و اللذة؟ و أيان تقوم المغريات و الفتون؟ فلنجرب اذن جيدا أن لا نصحب ألوان الحياة التي تمر بنا باستجابة الشعور، فتنقلب مسرحية تافهة القيمة.. و نحن من هذه المسرحية نفسها - و هي افتعالنا - نسر و نأسي اذا استجبنا اليها بشعورنا، فسر ما ينتابنا من شقاء الحياة او سعادتها قائم في الاستجابة الشعورية فقط، فالحياة ليست تملك سوي اسماء نحن نفرغ فيها مسمياتها. فاذا حلنا بين الشعور و الاستجابة، أدركنا سر الحياة و حقيقتها، و استشعرنا بهينمات الخلد، و انثنينا نتقلب في حياة ذابت عليها كبرياء أبدية السماء و كبرياء معانيها و أحلامها.. رن في أذن الحسين و هو في مذهب تفكيره هذا أو تأمله،... فلنتجرد! هلم الي الهيكل! الي محراب المعبد، محراب الروح و الجمال و الحب و الخير!

ظل في حياة تموج بالنشوة و سكرة الحلم و حنين الروح و رفة الطهر و خفقة


الحب، و ظل الناس خارج الهيكل يتقلبون في حياة نموج بالفتون و الشهوات و رشحات الاعصاب من لذة و ألم، و لكنها دنيا من السراب.

كان كأنه في محرابه بيت القصيد في أنشودة الحياة، أو أنشودة الطهر في شعر الوجود..

ظل في محراب الروح رانيا شاخصا زمنا طويلا، في حساب من دون حدود الهيكل، و ان كان في حسابه لم يفن اللحظة الاولي بعد، و هل في لحظة الاشراق وجود للزمن؟! ان لحظة الاشراق لحظة أبد، و أول اعتبار في الأبد الغاء فكرة الزمان منه.

و في لحظة الاشراق سر الحياة، و لمكان هذا السر فينا لا نفتأ ننشد النشوة في الحب و في الفن. و لأن في لحظة الاشراق لحظة أبدية، لا يشعر المحبون بدنيا الحياة و ما اجتمع فيها ثم لا يشعرون بغير دنياهم، لقد انتشوا فهم يحلمون...

في كل أشياء الوجود لفتات اشراق، و هي تتنادي بالحي الي التأمل لينجو من عباب السراب، قبلما يعتصر في الالتماع الساخر.

ان لحظة الاشراق في الفن تنتهي بلحظة الاشراق في الحب، و لحظة الاشراق في الفن تنتهي بلحظة الاشراق في الهيكل اي التأمل، و هنا ترتفع سدود الشعور في القلب فتتدفق لجج الاشراق و في عبابها بات الحسين يطفو حالما يسمو به المد. انه نشوان. أليست حشاشته تنديها خمرة الله، تراب بفمي: انها تندي برحيق الأزل.

بدأ الحسين لا يري شيئا الا رأي الله وراءه، و انتهي و هو لا يري شيئا الا رأي الله امامه، و معناه انه لا يري شيئا، فقد فنيت الظلال كلها في الاشراق.

فلا بدع ان استوي قلبه علي قاعدته كما استوي فكرة عن نفسي القاعدة، و تملأ ضميره بالمثالية و شاع في وجدانه الحق بقضاياه العليا. فهو خصب الروح اكثر ما تكون خصوبة، و من فؤاده يتدفق نمير صالح الخير الانسانية و الانسان،


و تتفجر من أعماق نفسه ينابيع الفضائل. فظل مصدر نموذجات تشير الي المكارم التي قيل عنها: انها احلام الشاعر و أغنية العندليب، ألا لقد كانت هذه الأحلام العليا تشير الي الحسين و تقول: اني هنا!

كان قد استطير قلبه بالحقيقة الآلهية فهو لا يفتأ ينشدها و يستغرق متأملا في بيداء جمالها، فكأنه و هو في المحراب قد أبرز المحراب فيه معناه. فلم يعد يمد خيال الانسان بل غدا يمد واقع الانسان، حين اضحي معني المحراب انسانا يعيش في الناس، فكان مثال الخير كل الخير و مثال الطهر كل الطهر، فلم يكن يري الا مصليا حتي كأن حياته جاءت علي مقدار الصلاة، و الا سخيا جوادا حتي كأن غاية الحياة في غاية الجود، و الا ممتطيا صهوات خيوله الي مكة كأنه يشعر بالحج أنه - مثلما نعبر اليوم - تسجيل للاسم في سجل التشريفات، و ليس اشهي الي قلبه من معاودة ذلك؟

لذا كان الحسين، بجاذبية الروح، مهوي القلوب و ندي الأفئدة تحوم من حوله كأنها تروي غلتها، فقد سقط العطاش منه بعد التيه علي رقارق الينبوع، فما كنت تري الناس «الا عكفا حوله» منتشين، ينعمون بين يديه بالحنين الي المجهول «كأن علي رؤوسهم الطير».

فكان محله من الناس محل جده النبي، تجد فيه الارواح الشاردة الحائرة ما تشتهي من طمأنينة و ما تشاء من سكينة. فاذا بعبد الله بن عباس علي مكانته يأخذ بركابه في شعور و دون شعور، و اذا قيل له في ذلك، قال «ان هذا ابن رسول الله، أفليس من سعادتي ان آخذ بركابه؟»... و اذا بأبي هريرة يسير و الحسين في جنازة فأعيا الحسين و قعد، «فجعل أبوهريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال: و انت يا اباهريرة تفعل هذا؟

فقال له: دعني، فوالله لو يعلم الناس منك ما اعلم لحملوك علي رقابهم!»... و اذا بعبد الله بن عمر «يري الحسين مقبلا و هو جالس في ظل الكعبة في جماعة، فيقول: هذا احب اهل الارض الي اهل الارض و الي اهل السماء اليوم».


و كان علي هذه المكانة لا تزدهيه كبرياء المتخايل، فان الكبرياء شعوره بنقص الذات و جبر لهذا النقص بالتظاهر، و ما حاجة العظيم الي الاثواب، و العظمة ذاتية تكون اكثر أسرا كلما كانت اكثر عريا.

فالكبرياء مرض بين ان يكون في الذات او ان يكون في الادراك، و في كلتا حالتيها تعبر عن انها كشجرة الاوراق في الخريف او كزغب النعام في الاعصار.

زعموا ان تفاحة نبتت في اصل شجرة بلوط فأطلت عليها من عليائها الشامخ بخيلاء و ازدهاء، و قالت: انت حقيرة، حقير جناك الذي تحملين، حتي صوتك حقير في نجوي النسيم ساعة ينطلق في السحر يغازل غانيات الاشجار و يسامرها... و انتفضت تصفق، فقد مر الريح يهدهدها و ذهبت تضحك متمايلة في سخرية و كبرياء. و هبت في اثر الريح اعاصير تزأر فطالت ضحكتها و استحالت قهقهة لم تزل تمتد، و لكنها انقلبت فجأة الي مثل حشرجة رهيبة انكفأت معها ترتطم بالارض عند قدم التفاحة، فمالت هذه عليها راثية تقول:

لعلك الآن - ايتها الاخت - اصدق رمزا في الكبرياء..

و مر سائر طريق جد به المسير فوقف عندهما تعبا ضاويا، و أهوت يده تطعم من ثمر البلوطة، فخبطته مرارة حادة فتقزز مستنفرا كالذي مسته أفعي و تزايد به الظمأ، و تلبث في حيرة طويلا قبل ان اخذ من ثمر الاخري، فاحلولي و شاع الري في جوانحه، فقال:

مباركة انت! فانك تحملين عصارة الذات في شكل خدود الحسان، و أما أنت الاخري فبعدا لك! انك تحملين عصارة الكبرياء في شكل ثفر الجمال.! فسمعت كلتاهما حكم الحقيقة عليهما، فما تاهت احداهما و هي كبيرة الذات كبيرة الوجود، و قد تضاءلت الاخري و هي عديمة الذات كبيرة في العدم، و راحت و قد احتضرت عليها الكبرياء كأنها تنظر الي أشلائها ممزقة.. و قيل بعد حين ان المواقد انتهبتها، و حالت في الرماد و الدخان تقول ايضا: انني لم ازل كبرياء تعلو...!


«مر الحسين بمساكين يأكلون في الصفة، فقالوا: الغداء. فنزل و قال: ان الله لا يحب المتكبرين. فتغدي ثم قال: قد اجبتكم فاجيبوني، قالوا: نعم... فمضي بهم الي منزله، و قال لخادمه: اخرجي ما كنت تدخرين».

و الحسين كان و هو في الهيكل لا يفتأ يمعن النظر في حياة الناس و ان لم يكن يغشاها، يصلح فيها و يصلح لها حتي آذنه الهيكل بالخروج، كما خرج جده من غار حراء قبل، ليأخذ الحياة طبق قاعدة الاصلاح؛ فتحدته اوثان الاحياء فحاربهم منتشرين و مجتمعين.

فالنبي الجد، من قبل، حارب الوثنية في الفكر و دحضها. و الحسين السبط حارب الوثنية في المجتمع، و هو و ان لم يدحضها، فقد رسم الطريق لحربها، و اباح ثورة التحرر علي أية صورها و اشكالها.

ذابت حقيقة الحياة في القشور...

و راح الاحياء يتعلقون منها بالغثاء و الظلال...

في نشوة كنشوة الخمر تعبر عن انها باطلة، تمد بالعربدة دون ما أحلام!..

و قليل هم الذين نفذوا من القشور الي اللباب...

فطعموا الحياة التي هي هبة الابدية...

فاستعلوا و وقفوا علي هام القشور ينظرون الي العلاء...

و تحدث هؤلاء انهم رأوا عند افق الابدية انسانا يمعن في السماء...

عرفوا في طلعته انسان الهيكل الذي اغراهم باللحاق!...



پاورقي

[1] نعني بالضمير هنا المغمر اي المعني اللغوي دون المعني الاخلاقي، و کذلک الوجدان.