بازگشت

في الزوبعة


عن مأساة حمراء اختلطت فيها الاشلاء بالدماء، انكشف الفصل الاخير من فصول الثورة التي كانت تمثل علي أرض المدينة و في بطحائها الفسيحة المدي البعيدة الآفاق، و التي كانت تتجاوب بأصدائها الهادرة هنا و هناك، قريبة بعيدة، فتتفاعل مع الاحياء تفاعلا ملون الرعشات، فمن بيضاء ناصعة كالزبد، و من سوداء فاحمة كالقار، و من حمراء قانية كالعنم، و أعصاب الجماعات تتمدد و تتقلص و تعلو و تهبط، فجذلان هناك و غضبان هنا، و بين هذا و ذاك تنبعث نأمات محترقة أو زفرات مختنقة أو بقايا هتافات مغتبط طروب.

و هم و ان لم يجمعهم الاسي، فقد تنفس سائرهم الصعداء؛ و لكن لم تلبث أن دارت الثورة علي نفسها بالغة عنيفة، فقد افتلت قيادها و هبت طائشة علي قطبها، شاردة في لولبها.

كان الجمهور قد التهب بروحية الدماء و شرتها فغدا دمويا شرسا، يصر علي أسنانه في شكل كريه كأنه يتأكلها أو كأنما يتأكل الاشباح و الطيوف التي استوت في مكان الحس من نقمته، فهو يتوعد ضاربا بقبضته في الهواء كمن يبحث في مكامن الفضاء عمن أثار عليه حفيظته، و الحفائظ قاسية نهمة اذا انطلقت في مدي الشعور المتضري؛ واعصاب الحي حينما تضري و تهيجها النقمة المحترقة لا تذهب


في انتقامها الي الايقاع الساحق بمن أسعرها فقط، بل تروح ماضية وراء ذلك بعيدا. فهي لم ترو حرقة الظمأ الفائر، فتطلب سحق أخيلتها و تصارع الخيال البغيض الذي تمدد عليها في ثورة الدماء؛ و مثل هذا الجمهور لا يرعي للموت قداسة و حرمة، و كذلك كان فقد حال بين جسد الخليفة المفؤود و بين الدفن؛ انه حانق لا يطيق أن يري شيئا يجدد له الذكري أشد هولا.

انطلق الناس في مذهب أعصابهم المتأزمة المتعقدة دون هوادة أو لين، يدكون معالم الماضي القريب كيف حلا لهم و يصخبون كيفما شاءت أهواؤهم؛ و في هذا التجمهر الكبير قام الاشتر منتصبا فوق الجموع ملوحا بسيفه، هادرا بمنطقه الناري المتقد الذي كان يخرج ممتدا كألسنة اللهب قائلا:

ألا سحقا لبطانة الخليفة الاشرار؛

و ويل للظالمين من أتون الشعب الفوار؛

فيد الله من وراء الغيب تعتصر المستبدين الفجار؛

و لابد للظلم من أن يلتهمه في ضمير الكون أفعوان جبار؛

و رحم الله الخليفة الرفيق الذي لينه معهم الي انقياد و صغار؛

و حيا الله غضبة الاحرار؛

و كبرياء بطشة الشعب اذا ثار؛

التي انتصفت للمظلومين الأبرار؛

فهؤلاء الي الجنة، و أولئك أعداء الشعب الي النار؛

و حذرا أن تتركوا للعادين فرصة الفرار و النفار؛

فهلموا كالسيل اندفاعا الي بطل الأحداث الكبار؛

فقد أعطيت القوس باريها و تم الانتصاف و الانتصار؛


و اطمأن مشردو الطغيان في القفار،

و انتحر العدوان و أنصاره أي انتحار؛

و اعتلي الحق علي الباطل و ذابت حلكة الليل في رائعة النهار.

فانطلق الناس يموج بعضهم في بعض، و تدافعوا في كل طريق كالقلل الساقطة المتدحرجة الي دار علي ينادون به خليفة و زعيما.

كان في مسجد المدينة جماعة يتجاذبون أطراف الحديث، في شي ء من التنافر في الرأي و النظر الي الحدث الدامي الذي تم علي أيدي الثائرين.

قال حسان بن ثابت: لقد عدا الثائرون أقدارهم و ايم الله، و استطالوا علي مقام الخلافة، و لم يرعوا حصانة العهدة التي تمت بالانتخاب، و لكن:



من سره الموت صرفا لا مزاج له

فليأت مأسدة في دار عفانا



لتسمعن و شيكا في ديارهم

الله أكبر يا ثارات عثمانا



قال المغيرة بن شعبة: ماذا تقول؟! عدوا أقدارهم فقط! بل هم أئمة سفاكون، و نحن لم يفتنا من اثمهم، بل نصيب كبير مما اقترفوا. كانت جناية ما ما أهولها!. اني لأنظر الي أيدينا نحن، نعم، نحن، فلا أراها الا ملطخة بالدم الزكي البري ء. لقد شاركنا هؤلاء المجرمين الي حد كبير، بل كنا أكثر من ذلك، كنا مطايا الجريمة.

لعلكم لا تدرون أن في الحادثة يدا مجهولة حاكت هذه المؤامرة الطاغية من أطرافها و أحكمت أسبابها، نعم استطيع أن أتهم و أعلن بمل ء فمي: أن وراء الأكمة ما وراءها... و ابتسم ابتسامة صفراء كالفحيح في شفاه ملتوية مقلوبة صحبها تكسر في الجفون كأنه يشير... و لكنها أكمة شفافة تري من خلالها الأشباح.

تنمر جهجاه الغفاري و رد عليه: بل باء أصحابك بشر أعمالهم، و ان من بقي منهم لينتظره يوم أكثر سوءا، و لو كانت الأمور الي لما ترددت في أن


أبطش بك أول ما أبطش، فأنت هو رأس الأفعي، و بنفسي ان أروي بك أعصابي الظامئة.

فيك و في أصحابك قال عمر بن الخطاب: «متي استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، ألم يقلها لعمرو بن العاص و ابنه يوم ساما المصري البري ء و اضطهداه استعلاء في الأرض و عتوا. قال هذا فيكم و لم تتربعوا علي دست الحكم و لما تصر مقاليد الامور و أسباب السلطان الي أيديكم، فكيف و قد تسودتم؟ أردتموها فرعونية و ربوبية، و ركبتم الناس بالبغي مطايا شهوات.. و ثارت به حفيظته فانقلبت سحنته و تجهم علي شكل منكر، و بدرت منه حركة تنذر بشر، لولا ان خف عمار بن ياسر فحال دونه و تناول الحديث:

«كما تقول - يا مغيرة - ان وراء الأكمة ما وراءها، و لكن كم يسقط في يدك اذا لم يكن وراء الأكمة الا بطانة الخليفة الراحل نفسها، ثم لم تنكشف عن أحد سواهم، فأنا أري كما تري و أقدر مثلما تقدر، بيد أني كلما حدقت بين الخلال و أطلت التحديق و أنعمت النظر، فلست أري وراء الأكمة الا من ذكرت لك ثم لا أري الا اياك و أصحابك.

نعم في مصرع الخليفة الفظيع مؤامرة أنتم نظمتموها بأنفسكم، و قد يقع غريبا عليك أن يتآمر المرء بنفسه، و قد تسخر في سرك من قولي، و لكن المتهور الطائش طالما نال نفسه بحسامه، كذلك الصائد الذي حمل فخاخه و انطلق يريد الظباء، فقال لنفسه: لو حملتها مفتوحة مهيأة لكنت أسرع الي نيل الغاية و أرجي في الفائدة، ففعل و سار.. و لم يمض بعيدا حتي أطبق به فخ مع حركات المسير، فسقط يفحص في الأرض و قد قنص نفسه في شهوة الظباء.

انك أدري من غيرك بما كان من سياسة بطانة الخليفة القائمة علي العسف، حتي لكأنها تمشي علي الجماجم و تنعم علي أشلاء الاحياء. لقد ضنوا عليهم حتي بما يسد رمقهم و يبل حاوقهم، و بخلوا عليهم بأقل من القليل، و ساموهم اذلالا، و أوردوهم مورد التهلكة.


قنعت تلك البطانة بسكني القصور المبثوثة بالرياش، و أصموا آذانهم علي الأنين الصارخ المنبعث من كل مكان، و أوهموا الخليفة الرقيق الحاسة أن الشعب في أسعد ما يكون حياة، و ضربوا بينه و بين الناس بأسوار و حجب و منعوه عن الشعب و منعوا الشعب عنه، و سمموا رأيه في الناصحين المخلصين و جعلوا من أنفسهم أوصياء علي الخليفة الذي شاؤوا الحجر عليه، و غفلوا عن أن القصور التي اعتصموا بها قامت علي أجساد حية تتحسس بالآلام، و كان في انتفاضة من انتفاضاتها ما أحال دنيا تلك القصور أطلالا و خرائب.

ان هؤلاء الثائرين لم تحدهم فكرة الجريمة و لا شهوتها، و انما حداهم تنفس الحرية المضغوطة ضلوعهم، كما راموا باخلاص انقاذ الخليفة من بطانته، و رفع وصايتها القسرية عنه؛ و ان كان خليقا بهذه الوصاية حقا، و بمثل هؤلاء الاوصياء فما هو و الخلافة اذن؟

و لكن طاش بالثائرين السهم فأصاب من لم يكن هدفا، بيد انه يعزي أن البطانة اصيبت في مقتلها بمصابه، فمصابه و ان يكن خطأ في حساب الشعور، فان سقوط تيك البطانة كل العدل في حساب الفكر، و الجمهور الشاعر لا يحدد التبعة بمنطق القانون بل بمنطق الألم، فليس بدعا اذا تجاوز و استفحل. و لو تناولنا الموقف حتي بمنطق القانون فان دعوي التغرير به لا تنقذه من الجزاء، و لقد ألف الشعب محكمته، فله الكلمة الاولي و الاخيرة، و لقد قالها بكل وضوح.

و اذا كان حقا ما تقول من أن الثائرين عصبة مجرمة، فان تيك البطانة أهول جريمة حين دخلوا بها الي كل بيت. و لست بهذا أريد «تبرير» المصاب، و لكنني أقصد الي هدم فكرة الجريمة عليك التي تعلنها و لعلك تعي.

فقال جهجاه الغفاري: تقول لعله يعي؟ أأنت غريب عن شباكه و أحابيله. انه يريد بقصد تسميم رأي الناس و بلبلتهم، و لا يلبث هو و من فاتنا من بطانة الخليفة، حتي يلوحوا بين الناس بالعثمانية و يجعلوا من عثمان موضوعا ثأريا قصد القاء الشعب في الفوضي و انكفائه كتلا علي نفسه، و ما أسرع تردد الجموع فهي لا تحاكم و لكنها تشعر بمبالغات.


فهذا - و أشار الي المغيرة - يعتمد علي روحية الجمهور، قصد المحاربة بالعنصر النفسي القلق لا يجاد حالة فوضي شاملة، و هو لا يأبه بسبيل ما يريد أن تندك معالم مجتمعنا العظيم. لنفرض ان عثمان صرع بقصد أن يصرع فقد صرع عمر من قبله، و ما تهمنا فروق الملابسات التي تجد قيمتها في الاعتبار الفردي دون الاعتبار الاجتماعي، فهما كحادثين سواء بسواء. فلماذا يحرض بالاتهام و يستثير بالتفجع و التوجع، ان لم يكن يقصد شرا؟

قال عمار بن ياسر: نعم اجدي علينا و أولي بنا أن نعتبر بالحادث و لو لم يخل من خطأ، فنداوي الوضع و نجتهد جيدا بحسن التأتي، كي نحول بين الشعب بمنع الاسباب و بين العودة الي ارتكاب خطأ جديد من شاكلته. فقد مات الميت و بقي الحي مضطربا فلنعرف كيف ندخل الاطمئنان الي نفسه، و بذلك نكون قد أصلحنا الخطأ و ربحنا المصيبة. و أما ترويع الجمهور بتهمة الاجرام و الدم، فانه تكبير لدائرة الخطأ و توسيع لحواشي الدماء، و ما أري هذا الا دعوة جاهلية تقوم علي الانتقام في غرضها القريب، و علي المؤامرة بالنظام في غرضها البعيد... و قطع حسان عليه تسلسل حديثه حين انتهي الي هذه النقطة، فقد مضي يردد قول الشاعر:



قومي همو قتلوا أميم أخي

فاذا رميت يصيبني سهمي



أصبح علي الخليفة و اجتمعت في يديه مقاليد الامور، فثاب الي المجتمع هدوؤه مشفوعا بالامل و ارتقاب فجر جديد.

و بدأ علي أول ما بدأ باعطاء الحق الي الشعب، فقد وجد أن مشاكلهم المعلقة أضحت مزمنة لم يبت فيها بشي ء، فعطف علي آلام هذا الجمهور و واساه بنفسه و قلبه ما وجد الي ذلك سبيلا.

و ذهب مع تقديره بأن المجتمع الذي يقوم النظام فيه علي برنامج غير مكتوب، يظل عرضة للعبث و التلاعب و التصرفات التي من شأنها أن تضيره، اذا لم يقصد أولا و قبل كل شي ء الي الاختيار و انتقاء الشخصيات التي تضم الي الكفاءة، الاخلاص و الضمير. بل من رأي علي أن الاصلاح حتي في المجتمعات التي


يستوي النظام فيا علي برامج مكتوبة، لا يتم علي وجه مضمون الا بالشخصية المنتقاة؛ و لمس الي ذلك أن اكبر عناصر الشكوي و أهم أجزائها هو الجزء الخاص بالامراء و الولاة، فبادر قدما الي تغيير التعيينات.

و كان طلحة و الزبير كلاهما مرشحا لولاية من ولايات الامصار الكبري، فلما أظهرا علي أن التعيينات الجديدة لم يصبهما منها نصيب، امتعضا نوع امتعاض و لمسا في الظرف الذي لم يزل قلقا مضطربا ما يمكنهما من القيام بحملة ضغط علي الخليفة الجديد، لا سيما و قد وجدوا في الناس من يطالب باقامة الحد الشرعي علي الذين باشروا الاغتيالات بالنفس.

و علي لم يؤخرهما من حيث انهما ليسا بالجديرين، فهما من ذوي السابقة و من أقدر العناصر، بل لأن الظرف لم يزل يعج بالحزبية و لم يزل متشبعا بروحها. فاذا بعث بهما الي الاقاليم التي تناصرهما كالكوفة بالنظر الي الزبير و البصرة بالنظر الي طلحة، فقد سهل لهما حرية التصرف و الانفراد بالرأي لمكان الثقة الحزبية. و حرية التصرف هي التي بات يشكو الناس منها كما كان الحال بمعاوية في الشام علي عهد عثمان، علي أن الأمير يصبح بهذه الحزبية المناصرة قليل الاهتمام بأوامر السلطة العليا، مما تتخذ به الأقاليم في كل مكان شكل اقطاعيات لا تتصل بالمرجع الأعلي الايجابي المسؤول الا اتصالا اسميا... و اذا تأزمت العلاقة بين الرئاسة العليا و الامير، استطاع الانفراد باقليمه و قطع العلاقة التي لم تكن تعبر عن اتصال ايجابي. و هذا خطر يهدد الدولة وداء و بيل في جسم الحكم، خصوصا اذا تواطأ طائفة من أمراء الأقاليم علي العصيان باتفاق المصالح الموجبة، فانه يقع الخطر الحقيقي علي الكيان الحكومي، كما تظل هذه الصلة الاسمية للاقليم الاقطاعي ينبوع ضرر للرئيس الاعلي، و ذلك حين لا يحفل الأمير بالأوامر التي تصدر له و لا يرهب مرجعه فيعبث كيف شاء، و يكون المسؤول عن تصرفه هو الرئيس الاعلي في نظر الشعب فيتهم بالتواطؤ معه أو بالتغافل عنه، رغم أنه في الواقع لا يستطيع أن يحيك معه حيكا، مثلما كان الحال في زمن عثمان، فقد أصبح اتصال الاقاليم بمركز الخلافة اسميا، و الامير الاقطاعي يتصرف كيف حلا له، لا ينتظر


أمرا و لا يخضع لأمر. و انما يستخدم ذلك الطابع «الاكليشه» (هذا أمر الخليفة) ستارا فقط كما كان يفعل معاوية في الشام، فاتهم الخليفة و استحمق و نشبت الفوضي.

و اذا بعث بهما علي الي الاقاليم الاخري و ليس لهما فيها أنصار و أشياع بل علي العكس أعداء حزبيون، فقد أعاد الوضع الي القلق و دفع الجمهور الي التمرد بالشكوي المصطنعة؛ فعمد الي مداواة الحالة العامة و خنق الحزبية و عنعناتها و ايجاد جسم اجتماعي سليم أولا... فبين يديه مجتمع مريض و هو يتطلب شخصيات جديدة لم تنخرط في الحقل العام و الحياة السياسية الصاخبة المتناحرة، حتي اذا تم له ما يريد عاد ففكر فيهما و في سواهما. و لكنهما فسرا اغفالهما بالعداء، فانصرفا الي ايجاد الوسائل القمينة بالضغط فوجها وجههما شطر مكة. و بينا هما في بعض الطريق لقيا عائشة و هي قافلة من مكة، فرويا لها ما كان من أمر الثائرين و عثمان، و ما كان من أمرهم و علي، و كاشفاها بما عزما عليه. و صادف هذا رغبة خفية في ضميرها و هوي كامنا، كما استطاع الزبير بما له من دالة عليها و هو زوج أختها أسماء، و والد من استخلصته لنفسها من أبنائه، حتي اختارت لكنيتها اسمه و ذلك هو عبدالله ابنه. فحملاها علي الرجوع و سهلا لها الخوض في معمعة سياسية طاحنة، اتصلت حتي انقلبت دموية حادة.

و لما هبطوا مكة وجدوا فيها فلول الامويين، ففكروا جميعا باستغلال الموقف و ترتيبه علي هذا الشكل:

يعصي بالشام معاوية و هم يعصون بالعراق حتي اذا استقام لهم الامر و استقروا، حاصروا الحجار و انتزعوا مقدرات السلطة العليا و أرغموا الخليفة علي التسليم بمطالبهم.

اتصل بعلي كل ما دار بخلدهم و ما عزموا عليه، و اتصل به فوق ذلك ان الخطب سيعدو دائرته، الضيقة، لنزول عائشة الي الميدان بما تبعثه من خامدات النفوس، و في المحيط العربي خصوصا. أليست امرأة و امرأة لها قيمتها و منزلتها الروحية الفريدة؟ فهي زوج النبي و ابنة الخليفة الاول و مرجع علمي فقهي.


و من ناحية ثانية أليس الموضوع نفسه حساسا مثيرا؟ أليس كل الثائرين الذين تم الحادث علي أيديهم في صفوف علي؟ أليست نفسية الجموع شديدة الحساسية بفظاعة الدم المطلوب و ضعيفة المحاكمة و الموازنة؟ أليس الظرف متبلبلا يميد بالفوضي؟! ففي الأمر اذا عقدة خطيرة، و لابد أن يستغلها هؤلاء الواجدون.

فكر و قدر و قلب وجوه الرأي حتي انتهي الي أن الحالة الناشبة البادية، ستستحيل الي فوضي فظيعة قد تنكدت معها معالم المجتمع الاسلامي، و انتهي أيضا الي أن صفة التبلبل و هي تساعد علي الدرس و الانتهاز لا يحسمها الا عمل سريع عنيف. و فكر كثيرا قبل أن ابتدأ بطلحة و الزبير و من ورائهما عائشة، فقد لمس خطر هؤلاء الذين يملكون من أسباب السيطرة و التأثير الروحي قدرا كبيرا، و قد أوضحه يقوله:

(بليت بأنض الناس، و أنطق الناس، و أطوع الناس في الناس. يريد بأنض الناس يعلي بن امية و كان أكثر الناس مالا و ناضا، و أنطق الناس طلحة بن عبيدالله، و أطوع الناس في الناس عائشة).

و من ناحية ثانية فقد استجلي طبيعة البصرة علي ضوء الروحية التي كانت بارزة في العراق اذ ذاك، فوضع يده علي مكان التفكك و التفسخ و عدم الانسجام و التماسك، بينما الشام كانت علي العكس متماسكة بوحدة الدم و التغرير. فالبصرة اذا أقل عناء و أكثر خطرا و أبعد نفوذا، بما يملك اللاجئون اليها من صدي بعيد، عميق التجاوب في النفسية العربية العامة. فكان لزاما أن ينبعث فوره اليهم و يتخذ البصرة هدف ضربته الاولي الخاطفة الساحقة، فيرهب بها المتمردين في كل مكان و مجال.

و أقام خطته علي حرب السرعة ليكون نجاحها مضمونا، فيعيد الثقة المفقودة، بعد الثورة، الي الهيئة الحاكمة الجديدة و يضبط العاصفة. كما استعان بالنقد و الدعاية أداة حربية فظيعة الفتك، و أدرك ضرورة هذا العنصر في الحرب، فدفع أم سلمة زوج النبي و هي من أعوانه الي انتقاد عائشة علي شكل حاد، فيما أقدمت عليه من مغامرة فكتبت اليها، و من جهة ثانية أذيع الكتاب و هو:


(من أم سلمة زوج النبي، الي عائشة أم المؤمنين؛ فاني أحمد الله اليك الذي لا اله الا هو.

أما بعد: فقد هتكت سدة بين رسول الله و أمته. جمع القرآن ذيولك فلا تسبيها، و سكر خفارت فلا تبتذليها، فالله من وراء هذه الامة... لو علم رسول الله ان النساء يحتملن الجهاد عهد اليك، أما علمت انه قد نهاك عن الفراطة في الدين. فان عمود الدين لا يثبت بالنساء ان مال، و لا يرأب بهن ان انصدع. جهاد النساء غض الاطراف و ضم الذيول، و قصر الموادة. ما كنت قائلة لرسول الله لو عارضك ببعض هذا الفلوات، ناصة قعودا من منهل الي منهل. و غدا تردين علي رسول الله، و اقسم لو قيل لي يا أم سلمة ادخلي الجنة لا ستحييت أن ألقي رسول الله هاتكة حجابا ضربه علي.. فاجعليه سترك، وقاعة البيت حصنك، فانك أنصح ما تكونين لهذه الامة ما قعدت عن نصرتهم. و لو اني حدثتك بحديث سمعته من رسول الله لنهشت نهش الرقشاء المطرقة. و السلام.)

و كان لهذه الدعاية الحربية أثرها الكبير، فأم سلمة أم المؤمنين أيضا و هي تشجب علي عائشة حركتها و تتنقدها انتقادا لاذعا. و قد تركت أثرها المرغوب فيه و المتوخي نيله؛ و كان أبرز ما تركت أثران:

(1)اعطاء صورة نابية عن محاولة النساء مثل هذه المحاولة فقد رووا (أن ابن أبي عتيق - و عائشة عمته - لقيها في بعض مآتي الطرق راكبة علي بغلة، فقال:

الي أين يا أماه؟.

قالت: أصلح بين حيين من أحياء المسلمين تقاتلا.

قال: عزمت عليك الا رجعت، فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتي نعود الي يوم البلغة).

(2)شجع الزعماء و الأمراء علي أن ينكروا عليها، فقد كتب اليها زيد بن صوحان ردا علي كتابها اليه:


(سلام علي أما بعد: فانك أمرت بأمر و أمرنا بغيره، أمرت أن تقري في بيتك و أمرنا أن نقاتل الناس حتي لا تكون فتنة. فتركت ما أمرت به و كتبت تنهيننا عما أمرنا به و السلام)... و مضي الخطباء يحصون عليها تبلبلها و تناقضها، فبعد أن كانت تشير بعلي في زمن عثمان، و كذلك طلحة و الزبير ينصحان بأن يكون علي الخليفة، اذا بهم يخرجون جميعا لحربه و مقارعته في أخرج الساعات العصيبة، و بذلك يسهلون سبيل العمل للانتهازيين النفعيين.

فخرب الدعاية التي اصطعنها علي وقذف بها خصومه، أثرت أثرها الكبير و فككت الوحة في المعسكر الاخر. (فاعتزل بالجلحاء - من البصرة علي فرسخين - الأحنف بن قيس، و اعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم).

و علي هذا الوضع فاجأهم علي بجنده (و فيه ثمانمائة من الانصار و أربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان، و كانت راية علي مع انبه محمد ابن الحنفية و علي ميمنته الحسن و علي ميسرته الحسين، و علي الخيل عمار بن ياسر و علي الرجالة محمد بن ابي بكر و علي المقدمة عبدالله بن عباس. و زحف علي نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين و الانصار و حوله بنوه حسن و حسين و محمد، و دفع الراية الي محمد و قال: اقدم بها حتي تركزها في عين الجمل.

يا بني تزول الجبال و لا تزل، عض علي ناجذك، أعر الله جمجمتك، تد في الارض قدمك، ارم ببصرك أقصي القوم و غض بصرك. و اعلم أن النصر من عند الله). فتقدم محمد فرشقته السهام فقال لأصحابه: رويدا حتي تنفد سهامهم.. فأنفذ علي يستحثه، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه. و قال له: اقدم لا أم لك. ثم أدركته رقة عليه، فتناول الراية منه بيده اليسري و ذو الفقار مشهور في يمني يديه، و نادي بعقر الجمل فوقعت الهزيمة).

كانت معركة الجمل بدون ريب أو كادت تكون، هي المعركة الفاصلة، و ان تنقلب من حيث القيمة ثانوية، و ان تعتبر حركة رعية لتطهير بعض عناصر الشغب الباقية، خصوصا و المقاومة الكفاية آخذة بهذا الشكل من السرعة و الدعاية


الموفقة التي اشعرت الناس كافة بالشمئزاز من شغب المشاغبين. بيد أن الحال تبدلت و جعلت لصفين الصفة الحاسمة الرئيسية لاعتبارات:

(1)استحالة فكرة العقيدة و روحيتها الاخلاقية عند علي الي فكرة ثابتة، و الفكرة من الثوابت تصرف كل قوي المرء الروحية و المعنوية اليها، و تقف جهوده العملية في سبيلها و مدي غايتها، فقد تركزت تركز الاعصاب، صاحبها لا يفكر و لا يري و لا يحس أولا يحب أن يفكر و أن يري و أن يحس الا في مواقع ميولها، كما لا يدبر و يقدر الا علي ضوئها. لذلك لم تكن سياسة علي مشتقة من صميم الحياة كما هي بمساوئها، بل من روح الحياة كما ينبغي أن تكون بفضائلها. فهذا الرجل الذي عرفناه دمويا في قضية الانتصار للعقيدة، نراه شديد الكراهية لسياسة الدماء و أساليبها في قضية قمع حركات المتمردين، فهو يفرق جيدا بين الكفر و العصيان. و لكن وسطه لم يكن يفهم هذا الفرق فهما حسنا او لا يفرق بينهما البتة، فقد رأينا عثمان الخليفة يسمي تمرد أهل المدينة كفرا في كتابه الي معاوية، و نري عمارا و محمد بن ابي بكر و من ورائهما سائر الناس ينظرون الي خصومهم نظرة المارقين من الدين، و بالتالي يجب أن يطبقوا عليهم أحكام الكفار و قانون الارتداد.

كان الجمهور متشبعا بهذه الفكرة و ما يترتب عليها و يلابسها، فاذا بعلي المتشرع العبقري و المسلم الواعي لحقيقة الاسلام يحمل علي أساس هذه الفكرة، لئلا يتورط الناس في استباحة مقتضياتها القانونية التي تخولها حالة الحرب في الاسرة و المال و الملك و القيمة الشخصية التي يتبع فقدها الاسر و الاسترقاق. و بين للناس بمنطقه العميق أن هناك صفة ثالثة هي الفسق و هو لا يبعد بالمرء البتة عن دائرة الايمان، كما لا تترتب عليه الاستباحة بل التأديب فقط.

و انظر كيف يستأتي الي اقناعهم بخطأ فكرتهم حين قالوا «أحل لنا دماءهم و حرم علينا أموالهم» فقال علي:

«هي السنة في أهل القبلة».

قالوا: ما ندري ما هذا؟!


قال: فهذه عائشة رأس القوم أتتساهمون عليها!.

قالوا: سبحان الله!. امنا.

قال: فهي حرام!.

قالوا: نعم.

قال: فانه يحرم من أبنائها ما حرم منها»... فنادي في الناس: لا يسلبن قتيل و لا يتبع مدبر و لا يجهز علي جريح و لا يحل متاع. و لكن الجمهرة الكبري ساذجة بسيطة في فكرة التدين، فوقع عليهم هذا النداء وقع اليأس في محل الامل، و جعلهم يلغطون كثيرا و يتأففون كثيرا و حملهم علي تفكير طويل فيما هو الفرق بين الكفر و العصيان، و فيما هو الفرق بينهما و بين الايمان.

فأما أولئك البداة الأعراب الذين لم يفهموا الدين الا علي شكل سطحي، استعصي علي تفكيرهم فهم الفروق الدقيقة بينهما فمضوا علي أنه لا فرق، و اقتنعوا بما انتهوا اليه. و اشتملوا علي نوع من التسخط الخفي كان غير مشعور به الا قليلا، لأنهم بمقتضي نظريتهم حال الخليفة بينهم و بين حقهم في الغنم و منعهم اياه. و من هؤلاء كانت نواة الخوارج، و قد صاغوا فكرتهم هذه فيما بعد بان مرتكب الكبيرة كافر.

و أولئك الذين صحبوا النبي طويلا و عرفوا كثيرا من منطق الدين، اشتملوا علي اطمئنان كبير حينما أوضح لهم علي الفرق كما لو لمسوه. و كان بين هؤلاء من فهم الفرق بين الكفر و الفسق علي نوع مبالغة و تكبير، فقال بالمنزلة [1] بين المنزلتين. و كانت هذه الاستنتاجات المختلفة كلها حول الموضوع الذي أثارته مشكلة الغنائم بعد يوم الجمل، أفكارا غير واضحة كثيرا و اتخذت سبيل وضوحها فيما بعد، و قامت علي أساسها الفرق الاسلامية التي عرفت باسمائلها أخيرا.


(2)نظريته في خصومه أنهم مسلمون فلا يجوز أخذهم في غير حدود الاسلام و قانونه، و هو يستفتي بهم «أمشركون هم؟

قال: من الشرك فروا... قيل: فمنافقون هم؟.

قال: ان المنافقين لا يذكرون الله الا قليلا. قيل: فما هم؟

قال: اخواننا بغوا علينا... و كان لا يفتأ يقول: لا تقولوا كفر أهل الشام،و لكن قولوا فسقوا و ظلموا». فلابد اذا أن يفاوضهم، و لابد من ان يقيم الحجة عليهم، و لابد من ان يلاينهم ما وسعه ذلك و وجد فيهم أملا، دون لجوء الي العنف الذي لا يستحله الا بعد أن يعنتوه.

فنراه يفاوض معاوية و يرسل اليه الرسول بعد الرسول و الكتاب تلو الكتاب، حتي استعمل معه أسلوبا يقرب من الرجاء. فاذا به يذكره بموقف أبيه منه، و اذا به يتهمه بالعقوق في رفق. قال في بعض كتبه اليه:

«و قد كان أبوك أبوسفيان أتاني حين قبض رسول الله، فقال ابسط يدك أبايعك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، فكنت انا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين المسلمين لقرب عهد الناس بالكفر. فأبوك كان أعلم بحقي منك، و ان تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك و الا فنتعين الله عليك».

و لكن معاوية كان قد ساوره الطمع و لعبت أحلامه الكبري أمام ناظريه، و قد فهم مثالية علي و تقواه فعمد لاستغلالهما. فاذا به يصانعه و يظهر له خيوطا واضحة من الأمل بعد أن يضع عقدة يتعايي بها، فيعذره علي و يمضي في مفاوضته. و معاوية لم يكن يريد من ذلك الا اكتساب الوقت لتهيي ء نفسه و بعث روح الملل في جيش علي، فهو يتمني طول الوقت و طول الصراع مع ظهوره بمظهر المستسلم اذا انحلت العقد او اقنعه بحلها، و بهذا المظهر يضمن أن لا يأخذه علي بحرب خاطفة جبارة بل يرفق به، فتتحول المعركة الجدية الي حرب انهاك و ازعاج، و هي لا محالة ستشيع صفة التململ و اليأي في جيش علي.


أضف الي هذا أن هذا الجيش منذ حين قد خرج من معركة كبري، و من قبل كان منهوكا بالفتوح في كل مكان، و لا يلبث أن يدور هذا التململ دورته و يعمل عمله، و لابد أن يترك صدوعا و اختلافا في الرأي، فينقسم الجيش شيعا و يفلت من يعد علي الزمام،

أما يراه يجيبه حينما طلب تأجيل الحرب شهرا، أليس يسمح لجيش الشام، حين استولي جيشه علي الشريعة، بالسقيا «حتي ازدحم عليها السقاة من العسكرين و ما يؤذي انسان انسانا» [2] فطال أمد المعركة مائة و عشرين يوما، و هذا وقت طويل في عمر حرب من هذا النوع، و سمح طول الوقت للافكار التي نبتت في رؤوس الجموع أن تنمو و تستفحل و تشكل نظرية لها أسرها و تأثيرها في قرارتهم، و كان هذا النماء مشفوعا بعاصفة من الملل و اليأس.

و لم يكن شي ء من هذا خافيا علي علي، بل كان ينظر و يبتسم، فهو يريد أن يحل المشكلة القائمة، و لكن علي طريقته المثالية و بمنطق القانون الذي يقدسه. و علي، و ان لمس أن الظرف يتأزم عليه و الوقت يتعقد و الفرصة تكاد تفلت منه الي خصمه، يريد أن يحارب حرب الحق و ينتصر للعدالة بالعدل و الا فهو في نظره يخدع ضميره و يخدع الناس، اذا سمح لنفسه بانتهاك قداسة الحق بسبيل تأييد قضايا الحق.

علي انه كان راضيا فلم يبتئس لأنه واثق من أن النهاية الظافرة في متناول يده يضمها اليه ساعة يريد، و كذلك كان حين يئس منهم و ضربهم الضربة القاصمة التي ألجأتهم الي حيلة رفع المصاحف المعتادة كثيرا، فقد رفعت غير مرة يوم الجمل، فهي اذن لا تملك تأثير المفاجأة بل معتادة باردة الأثر ضعيفة المفعول،


لولا ما كان قد استحوذ علي الجموع من استفحال الافكار الخطرة التي سبق و أشرنا اليها، فتصدعت وحدة الصفوف بهذا السبب.

لقد عادت الزوبعة الي الهبوب مرة أخري أشد عنفا، فتمزق شراع السفينة و ميلتها الامواج المتعاظمة المتكسرة علي جوانبها في جبروت. و علي في هذه الغمرة الطائشة كان ينشط الي كشف المهزلة و سحق طواغيتها، و لكن بجيش مريض فتعايي عليه و تركه حيث يشاء في الميدان.. لم يجد بدا من مسايرة الجمهور الكبير، و لم يجد بدا من الخوض في تيار المهزلة علي ضوء النفسية الاجتماعية، الا الأخذ بالناس حتي نهاية الطريق في مدي ما استحوذ عليهم، فان الأمراض الاجتماعية من نوع الهيستيريا الحادة يداوي معها الوهم بالوهم، و علي ذلك نزل عند رأيهم ليهي ء الظرف المناسب من جديد.

فعلي اذا لم يشأ قصدا أن يستغل سرعته، و هي تقتضي البطش، استغلالا دمويا، و كان هو الواجب اذ ذاك من وجهة نظر عسكرية. نحن نعرف عليا بطل الحرب، فلماذا انصرف هذا الانصراف و اختار البطء في الايقاع بالخصم بعد تلك السرعة الموفقة الانتقال و الاعداد؟. لأن عليا لم يكن يطلب السلطان من أجل السلطان، بل من أجل احقاق الحق و احلال المثل الاعلي الاجتماعي في دنيا الناس، و الا فالسلطان في كبرياء معنويته «لا يساوي عفطة عنز» كما كان يقول.

هو يريد السلطان من أجل الحق، فاذا انتهك الحق من اجل السلطان فقد خنق ضميره و اعتصر بيديه قلبه في قسوة و وحشية.

فماذا يريد من كفاحه اذن؟ انه يريد تطبيق قضايا العدل حتي في الساعة التي يجوز فيها الجور، انه يريد الحق حتي في ساعة جيشان الباطل و طغيان المنكر. و لكن هم قلة الذين تساموا الي فهمه، و هيهات لحياة الأطماع المحدوة بالشرايين و الاعصاب، ان تنبض بمثل خلجات قلبه و تحس بحسه و تندي بمثل شعوره. كان أكبر من محيطه و لا بدع، و أسمي من مجتمعه و لا


ريب، فهو ربيب محمد المتبلور من سناء الوحي و ضياء النبوة، و هو أكبر اللآلي ء التي انكشفت عنها دنيا القرآن. فهل يعبث بوجوده و ضميره في ملهي يديه طائعا مختارا، و من اجل ما لا يراه شيئا؟!

انه لم يكن يؤمن بما يقال «اذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون»، فهذه خطة صغار و خيانة و جبن و خور، بل كان يؤمن بغاية أسمي و يبشر بمبدأ:

اذا لم تكن الحياة كما تريد، فحاول أن تجعلها كذلك. فاذا لم تنجح أيضا فلا تخن ضميرك، و عش وحدك متالا للحياة الفاضلة. و لا تأل جهدا، كي يبقي للحق في تاري الباطل مثلا يضربه...

ان الذين ينتهكون كل قداسة بسبيل الفوز ساقطون في ميزان الاخلاق و قسطاس الروح، و علي ليس من طينتهم، بل ذلك الأسلوب، في حس علي، أبرز أسلوب من أساليب الخيانة و أنكرها. و الغلبة تكون مقياس النجاح في حس الجامدين جمود المادة و الطبيعة الصماء، بينما مقياس نجاحك، في حس الشاعرين، بمقدار ما تكون أبيض ناصعا في ضوء المصباح و سني الفجر.

و الوجود نوعان: وجود بالحياة، و وجود في أبدية المبادي ء؛ و الثاني منهما اكبر الوجودين، فان عمر أولهما في حدود اللحم و الدم، و عمر ثانيهما في حدود الخلود، و أين مداه؟...

و اذا بقي ذو الوجود الأول فانما يبقي في ذكري التاريخ شوهة مومياء، بينما يظل ذو الوجود الثاني في ذكري الابد مشكاة حياة تفيض بالنور.

و لم يشأ علي و قد أخذ بمقود السفينة ان يتركها هائمة، و يترك للخاطفين (القرصان) انتهابها. فعالجها بمقدار و مقدار كبير، و العواصف تتناوح من حولها و بين يديها، و علي كالربان الماهر يرخي الشراع أحيانا، فيمضي في مدي ميل الجمهور، و يرضي بالتحكيم، و يشد الشراع أحيانا فيضرب ضربته بالنهروان.

و خروج الخوارج انما تم باستفحال فكرة أن لا فرق بين الكفر و العصيان،


فان قضية الايمان و الكفر في تفكيرهم كقضية الحق و الباطل، و ليس يمكن أن يكون بينهما واسطة يلتقيان فيها. فالتحكيم اذا خطأ و الخطأ معصية و المعصية كفر، فانتهوا في سلسلة النتائج الي ضرورة الايمان من جديد. و هذه الفكرة في جوهرها لا تزيد عن عقدة مسرحية، الا أنها مع ضعف المحاكمة العقلية و النقد الفكري تبدو عقدة عسيرة الحل. فلدي البداة تسليم عفوي بكل خاطرة و ان تكن سخيفة، و في نفسيتهم قابلية للاستحجار و التصلب علي شكل عفوي أيضا، بحيث تستحيل اماعته الا بتحطيم الرؤوس التي تحمله، و كذلك حدث.

و لقد تملأ الحسين بعظات موقف أبيه في كل مراحله، و حللها في نفسه، و أحلها من قلبه محلا ثابتا. و خاض مع والده العظيم الصراع علي شتي ألوانه و كان له أثر أي أثر، و لم يقف عند الشاطي ء مترقبا بل عائما خائضا تقوم به لجة و تقعد به اخري، و تدفعه موجة لتستقبله الموجة الثانية، و التقي [3] سيفه بسيف أخيه محمد فشكلا قوسا قاعدتها المبادي ء التي من أجلها خاض أبوهما الكبير، الكفاح دون هدنة أو هوادة.

و بقي في سمع التاريخ و بصره ماثلا حيا:

أن عليا بطل الحق في السلم و في الحرب، و هو الانسان الذي استحال الي طاقة في وجود الحق و كيانه...

شاء الله ان لا يحقق مغزي امثولة علي الا ابنه الحسين، ابنه الحبيب...

فردد علي شكل آخر: اذا لم تكن الحياة كما تريد، فحاول ان تجعلها كذلك...


فاذا لم تنجح ايضا، فلا نحن ضميرك و عش وحدك مثالا للحياة الفاضلة... و لا تأل جهدا، كي يبقي للحق في تاريخ الباطل مثلا يضربه...

علي أنه أضاف اليها امثولته الاخري...

اذا لم تكن الحياة كما تريد، فليكن الموت كما تريد...

و الا فهيهات ان تشعر بحلاوة المثالية في الايمان، و تكون من الأحرار...

بقي طابع الانسان الكامل «علي»، الذي لا يحركه الحقد و لا تميل به للنزغات و النزوات...

طابعا لا بنائه، فقد قيل لابنه محمد: دسا توليدا للموجدة...

لم يدفع بك أبوك في الحرب و لا يدفع بالحسن و الحسين...

فقال بوحي القلب المثالي: هما عيناه و أنا يمناه، و هو يدفع عن عينيه بيمينه...

هذا طابع علي في الاخوة و الاخاء، فأي دنيا بل اي خلد سعيد، لو تسني الحياة ان تبرز بطوابعه الاخري...



پاورقي

[1] أخطأ مؤرخو الفرق حين توهموا ان فکرة الاعتزال في المنزلة بين المنزلتين لم تعرف الا في حلقة الحسن البصري علي لسان و اصل بن عطاء و عمرو بن عبيد، و انما انشأها بعد معرکة الجمل خيال مشکلة الغنائم و توضيح علي الفرق بين الکفر و العصيان.

[2] روي التاريخ أن جيش الشام سبق الي الشريعة فطلب علي السماح لجيشه فأبي‏معاوية عليه، فلما غلبه عليها و طلبوا اليه ذلک سمح لهم. فبرهن بهذا علي علي أنه يحارب للحق و ليس يحارب للغلبة و شهوة السلطان، و أعطي مثلا فذا في التاريخ کله، اذا اضطر انسان الي الحرب، کيف يجب أن يکون انسانا شريفا قبل أي اعتبار.

[3] اشارة الي ما ذکر المؤرخون من ان احمر بني‏أمية بصر بعلي فاراد قتله، فخرج اليه کيسان مولي علي فاختلفا ضربتين سقط بينهما کيسان، فجذب علي احمر بني‏أمية و ضرب به الارض فکسر منکبه و عضديه، و شد عليه ابنا علي حسين و محمد فضرباه باسيافهما فقتلاه.