بازگشت

في الثورة


من المدينة الي كل مكان، كمصر و العراق و اليمن و الشام، خيم جو مكفهر ينذر بشي ء. و كانت الوانه مختلطة مختلفة الا أنها بدأت تستحيل خيطا بعد خيط و تتكشف عن لون أحمر قان، كأنه لون الدم الحانق أو لون الشق الذي اطبق به ليل بهيم.

و كان الهمس في أي مكان يطول و لا يقصر، و يتناوح في زفرات تبعث أسي، و لكنه من نوع الأسي الغاضب الذي يزداد اشتعالا بالذكري و الترداد. فقد استفاق الناس علي وضع غير محبب بل كريه بغيض، استفاقوا علي مجتمع بدأ يتعقد و تطفو علي سطحه طبقات تجر وراءها نضالا هادرا و تناحرا رهيبا، بعد ان كانوا شعبا يقوم علي قاعدة المساواة، فهو مجتمع منسجم.

كثرة معدمة و هي معتدة بذاتها شاعرة بشخصيتها فخور بما أبدت من قوة و قدمت من تضحيات، و قلة زاد بها الثراء زيادة جعلها تحرز كل قوي النشاط و تدخر مقومات الحياة كافة. و لم يكن وسطا درج علي السخرية و العمل في الارض فيظل النضال فيه خفيا و بطيئا في اعطاء نتائجه، بل كان وسطا فروسيا؛ و الفروسية اعتدادية و شعور بوجود الذات، و زادتها الفتوح احساسا بقيمتها، فكان


أن تفاعلت تفاعلا تنافريا مع الوضع الجديد، و كان ان انقدحت و قذفت بالشرر الي مكان قصي.

و الشعور بالذات قاعدة الأمة الناهضة، فهي لا تقبل سيادة و لا تتولد فيها الاسياد من أي نوع كان، و تظل أبدا تواقة الي الاصلاح آخذة بأسبابه متقلبة في مدي أطواره.

ركدت الفتوح فنضبت أهم موارد الدولة، و كان العمل السياسي قد اتجه، فيما سبق هذه الحقبة، الي جعل العرب مادة حرب فقط، فلم ينالوا نصيبا في الارض. و لكن الجندي لن يبقي جنديا أبدا خصوصا و الدولة العربية قد أخذت الامم بحرب اصلاحية عالمية، فكانت حاجتها الي الجنود كبيرة غير مقتصدة، فشملت العرب عامة، و سرعان ما وفق العرب الي غايتهم، و سرعان ما أدوا رسالتهم، فركدت حرارة الفتح الي درجة الهمود، و عجزت الدولة بعد ذلك عن كفايتهم؛ فاذا هم طبقة فقيرة غاية في الفقر و الخصاصة و العدم، و اذا بجانبهم طبقة أخري ثرية غاية في الثراء، و هي لم تجهد أي جهد و لم تبل أي بلاء، و انما امتصت و تملأت.

كبر علي هؤلاء أن يستسيغوا وضعية نابية بغيضة علي هذا الشكل، لا سيما و الاسلام في تشريعه جعل للمحارب نصيبا في المغانم كافة، و بذلك مكنه من أن يتحول رجلا مدنيا دون أن يكون كلا علي الدولة و الخزينة العامة. و لم يقرر الاسلام الجندية نظاما دائما لأنه لا يرمي الي أن يجعل من حكومته دولة حرب، بل سن الجندية، عند الضرورة، من المدنيين أنفسهم، و بهذا ضمن شيئين خطيرين:

(1)جعل مسؤولية الدفاع عامة لكي يشعر بها الشعب شعورا شاملا بدون تفاوت.

(2)الحد من طغيان الجند و روحيتهم حتي لا يدفعوا الدولة كل حين الي مضايق حروب جديدة، فالاسلام وضع في نظامه ما يحول بين الدولة المشتقة من طبيعته، و بين حرب الاطماع.


و كانت الهوة تتسع بين الطبقات اتساعا عظيما و علي شكل مخيف، كما أخذ الوضع يتطور من سي ء الي أسوأ حتي استفحل شره، و بات ينذر بخطب خطير و انكفاء انقلابي كبير الاثر. و زاد في يقظة الخطب تناحر الاحزاب الكثيرة [1] فهناك أحزاب رئيسية أهمها:

حزب الامويين: و أكبر رجاله المنتسبين اليه ابوسفيان و ابنه معاوية و مروان ابن الحكم و المغيرة بن شعبة.

و الحزب الشعوبي: و أكبر رجاله ابولؤلؤ و جفينة النجراني و كعب الاحبار، و هذا الحزب كان صنيعة للحرب الاموي و منفذا لأغراضه الدموية و مآربه الارهابية.

و حزب المحافظين: و أكبر رجاله علي بن ابي طالب و أبوايوب الانصاري و عبدالله بن عباس و عمار بن ياسر و المقداد بن الاسود.

و حزب الشعب: و أكبر رجاله ابوذر الغفاري و عبدالله بن سبأ و محمد بن ابي بكر و الاشتر النخعي و عبدالله بن حذيفة، و كان هذا الحزب يستنيم الي سياسة حزب المحافظين، و طابعه انه ثوري عنيف.

و حزب اهل المدينة: و أكبر رجاله سعد بن عبادة و ابنه قيس و الحباب بن المنذر و عبدالرحمن بن حسان، و كان أهم أهدف هذا الحزب مناهضة الحزب الاموي و تحطيم محاولاته.

و الي جانب هذه الاحزاب كانت تقوم أحزاب أخري ثانوة أهمها:

حزب طلحة و الزبير: و أكبر المنتسبين اليه عائشة.

و حزب أبناء عمر بن الخطاب: و أكبر المنتسبين اليه ابوموسي الاشعري.


و الحزب الاموي المنشق: و كبير أقطابه عمرو بن العاص.

و ما أن استحوذ الحزب الأموي علي شؤون السلطة العليا في عهد عثمان، حتي الفت بعض هذه الأحزاب جبهة معارضة قوية. فقد شاء البيت الأموي أن يجعل من نفسه طبقة حاكمة، و شاء الي ذلك أن يجعل من قريش طبقة عظامية «أرستقراطية». و هؤلاء الأمويون لم يكتفوا بأن يفرضوا أنفسهم و وجودهم الخالي من الحياة و الجهد، بل تجاوزوا هذا الي تعبئة المجتمع في طبقات لها امتيازاتها و قيمها التي تهبها حقوقا دون ما واجبات، و بسببها تفتات لنفسها من الاعتبارات الاجتماعية ما يخولها انتهاب كل غنم، يغرم بسبيل حيازته سواد الجمهور.

و كلما وجدت لجماعة ما حقوق دون واجبات فقد وجد لديها شر أنواع التطفل الاجتماعي، و حينما تنتقل هذه الاعتبارات الي القانون ينتقض الانسجام و التوازن الاجتماعيان، و ينساق المجتمع كرها في مآزق التناحر الذي يبدأ من أجل الذاتية و ينتهي من أجل الحياة، و هنا يأخذ شكله الدامي و مظهره الكالح الرهيب، و الي هذا يشير قول النبي (انما أهلك من قبلكم أنه اذا أثم فيهم الشريف تركوه، و اذا أثم فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد). فاذا بأبي سفيان يقول عندما ولي الخلافة عثمان «يا بني أمية تداولوها بينكم تداول الكرة، فوالذي يحلف به ابوسفيان مازلت انتظرها لكم و لتصيرن الي أبنائكم وراثة»، و اذا بسعيد بن العاص يجعل سواد العراق بستانا لقريش، و اذا بالثروات الفاحشة تصير و تجتمع في أيدي الأمويين و أنصارهم، و اذا بمروان يستبد بالمقدرات العليا علي هواه، و اذا بأكثر الأقاليم تذهب اقطاعات بين فلان و فلان، و اذا بالقانون يعبث به فلا يطبق أحيانا و كثيرا، بل ذهبوا به مع الهوي الي حد أشعر الناس أنهم لم يعودوا سواء في نظرية الحق و نظرية الجزاء... فسبق الي الأذهان أن هناك فوضي دون ما شك، و أن هناك فسادا في أداة الحكم سبب هذه الفوضي دون ما ريب، و الفساد يبيح الثورة، فتدافعت الجموع في تياراتها.

كان الرائد الطواف بين مصر و الحجاز و العراق، و الذي يجوب مترددا بين


هذه الأقاليم يلمس و يري من فواجع الوضع القائم ما يملأه حنقا و ثورة؛ كان يري بؤسا في غير حد و شقاء مخيفا و فقرا متغولا، و كان هذا الفقر و الشقاء و البؤس تتوزع هنا و هناك، لتجتمع و تأتلف خصوصا في بيئات الذين كانوا الي زمن قريب رمز الفخار العربي و الاسلامي، رمز الكفاح و الجهاد في كل مكان.

نعم كانت هذه الطوائف تنعم بذكري أمجادها الكبيرة، و لكنها تتحرق أيضا و هي تري مقدار ما تبذخ به أقلية نفسها و استحوذت علي الثروة دون أي جهد و سابقة كفاح. فيعلي ابن أمية يملك ما قيمته مائة الف دينار عدا عقاراته الكثيرة، و عبدالرحمن بن عوف يملك ما قيمته خمسمائة الف دينار، و زيد ابن ثابت يملك من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفؤوس الخ... و أيضا رأوا أن هذا البذخ المترف جر وراءه أنواعا من المجاوزات في السلوك الذي سن نهجه النبي، و عهدهم به لم يكن بعيدا. كما كونت هذه الغضارة و اللدانة، في بيئات الأقلية المذكورة، طائفة من الآراء المتطرفة وجدت سبيل شيوعها في المجتمع، فقابلها بكثير من الاستنكار؛ و لكن لم تعدم مع ذلك جماعة من الانصار، فتولدت في الوسط دعوة الي هذا الجديد المائع المثير، و دعاة الي التجديد الرخو.

بيد ان الكثرة محافظة متمسكة بذلك القديم الذي وجدت فيه سبيل قوتها، و انتشرت مؤمنة بأفكاره و صلاحيته كطب للبشرية اللاهثة المحتضرة، فهم جنود رسالة جاءتهم بهذا القديم الذي لمسوا فيه خيرهم. فلا بدع ان استنكرت الكثرة خطة هذا الجديد و لا بدع ان تحدوا أنصاره و اتهموهم بالمروق، و لا بدع ان دخلوا معهم في صراع بدأ خفيا ثم امتد حميا.

و صادف، في هذه الفترة اللاهبة، تطواف رجل نعرف ان اسمه عبدالله بن سبأ، و كان علي ما يظهر، ان صح انه وجد، صاحب نفس حساسة شاعرة و صاحب فكرة منظمة اصلاحية، من ورائهما روح حرة ثائرة. فاتصل بكل وسط اسلامي اذ ذاك، و استلهم الحياة العامة التي انعكست بصورتها و ألوانها في نفسه، فاستعر ضميره، و اتقدت جوانحه، فلم يكن بد من أن يلتهب، و لم يكن مناص من أن يهتف


بالاصلاح و ضرورة تغيير الوضع البائس اليائس؛ و كان عنيفا في طبيعته، و زادته الحالة العامة عنفا، فقد تفاعلت الصفة الحيوية الشائعة في المجتمع بطبيعته تفاعلا جعله يثور، و جعله يبشر بمبادي ء الاصلاح الثورية. و لم يكن المجتمع حينذاك في حاجة الي أكثر من التنادي به و استصراخه، فقد كان بحالة من التوتر و التفاعل الي درجة القدح بالأوار.

و هو الي هذا قد اجتمع بأقطاب الحركة الثورية في مصر و الشام و العراق و تأثر بهم، و لا سيما ابوذر الغفاري ركز [2] أفكار عبدالله بن سبأ، و هذا وجد فيه ينبوعا دينيا و معينا خصبا يمكنه أن يستمد من أخباره عن النبي ما يجعله سندا لأفكاره، فان أباذر كان يحدث من قبل ورود ابن سبأ الي الشام بأحاديثه المسندة الي النبي، و كلها تحمل عناصر الافكار التي انطلق ابن سبأ يروج لها. و الذي لدينا من وثائق التاريخ يشهد أن اعلان ابي ذر عن هذه الأفكار وقع قبل اول التقاءة بينهما، كما يشهد أيضا أن تكون شخصية ابن سبأ كان بعد أول لقاء. فالتاريخ و كتب الحديث تعرف جيدا ان أباذر كان يحدث في الشام بمثل هذه القصة التي هي من وقائعه عهد النبي.


قال: (ساببت رجلا - و هو بلال - فعيرته بأمه و كانت رقيقة.

فقال لي النبي: يا أباذر، أعيرته بأمه؟! انك امرؤ فيك جاهلية. اخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، و ليلبسه مما يلبس، و لا تكلفوهم ما يغلبهم فان كلفتموهم فأعينوهم).

يروي أبوذر مثل هذه الواقعة، في حق الموالي الارقاء بالقانون، قصد محاربة الوضع الذي شاءت به الاقلية جعل سواد المجتمع أرقاء اجتماعيين.

فالذي لا ريب فيه اذن أن ابن سبأ كان يحمل أفكارا استلهمها من حالة المجتمع القائمة، و لكنه سقط عند أبي ذر علي ما يركزها و يوضحها، و يعطيها العنصر الديني المفقود لديه من قبل، و كان سبب تخوفه من نشر أفكاره الحرة و بالحري أفكار الشريعة علي طريقة ابي ذر، فمضي يبشر في طول البلاد و عرضها بما انه الدين أيضا.

رأينا كم كانت أقاليم المجتمع الاسلامي الكبيرة متوترة مستوفزة، و رأينا الي أي حد قد أحس الشعب أن الأقلية الحاكمة تحيك حوله مؤامرة واسعة النطاق تبالغ حتي تتصل بحياته، فانكفأ الشعب كله في الاقاليم يتآمر بها و ينسج من حولها شباكه، و لقد باتت الحالة العامة تجي ء في كلمتين: حكومة تتآمر بالشعب، و شعب يتآمر بالحكومة، و لكن للشعب الكلمة الاخيرة و العليا دائما.

و عبدالله بن سبأ أيان مر و اين انطلق يصادف جموعا تعتلج علي جموع، و كتل المؤامرة تنتشر في كل مكان و تتوزع لتحتشد. و لقد أحسن التعبير عن أماني الجماعات و تصوير أحلامهم و آمالهم، فافتتنوا به وافتتن بهم، و لم يكن يربط بين هذه الجموع الا رابطة الشعور بضرورة الاصلاح السريع؛ فقد بلغ من شدة الفساد أن كان أكثر الناس تحمسا للثورة هم أهل المدينة، و المعروف عن هؤلاء انهم يشتملون علي اكبر عدد من أرباب الحل و العقد و هم مرجع السلطة العليا، و من شأن هؤلاء انهم يحاولون شتي المحاولات للترقيع و التوجيه، فكان شعورهم بضرورة الثورة معناه ان الخرق قد اتسع علي الراقع، و ان حالة الفوضي لا ينجع


معها الا القمع العنيف فتخلوا عن طريق الجمهور، أو قل كانوا في الطليعة.و لكن مع ذلك فقد ظل حزب علي أو حزب المحافظين يبذل جهودا جبارة بسبيل تقريب وجهة النظر بين كتلة العشب و كتلة الحكومة، و يحول جهد المستطاع بين الجمهور و بين مآربه الدامية، و كثيرا ما جعل من نفسه ضمانة لهيئة الحكم. و الشي ء الجدير بالتسجيل و نصاعة الذكران هذا الحزب بقي مواليا، بعطف صادق، للحكومة الي الساعة الأخيرة التي لم يعد ممكنا فيها ضبط أعصاب الجمهور الثائرة، فطغي علي الحواجز و بدأ التهديم.

و من الانصاف الخير أن نذكر أن الجمهور مع ذلك لم يكن أرعن في ثورته، فقد أتصل بأولياء الامور و السلطة و طالب مستشفعا بممثليه مرارا و تكرارا، و لكن مطاليبه في كل مرة كانت تبوء بالفشل، و كان فشلا ذريعا متواصلا من النوع المثير، فلا بدع ان هب الشعب هبته الغضبي و تركزت الثورة الانتقامية في رأسه تركز الفكرة الثابتة لا يحول عنها في كثير أو قليل.

هبطت وفود الامصار المدينة مرة و أخري الي مرات كثيرة، و كانت في كل مناسبة تحمل طائفة من أمانيها و هي ملأي بالرجاء تود لو صدقت أحلام آمالها، و كانت ترجع في كل مرة بوعود معسولة، و لكن لا تلبث أن تستحيل الي صدي يأس فيه غرور السراب.

ساءها في كل تجربة و كل محاولة اخفاق المنقلب، فأغيظت كذي النفس الجريحة علي من لا يفتأ ينكأ جراحه و يجري دماءه، و لم يسعها كظم عواطفها الملتهبة فهدرت صاخبة محتجة تريد وضع حد لآلامها و بأسائها المستعرة، فكانت تصطدم تكرارا و مرارا بما يوقظ فيها شعور الخيبة المنتقم. لذلك لم تكن الجماعات تري في أي مكان الا ملتئمة علي بعضها تتهامس في أمر خطير.

و في هذه الفترة الملتهبة كان يطوف، كما قلنا، في أقطار المجتمع الاسلامي عبدالله بن سبأ، فما حل بقعة الا و سمع فيها تجاوب نأمة واحدة مستنكرة، فاشتمل علي حفيظة متحرقة تتأكل في حناياه غيظا و تحرق الارم. و ما هو الا أن


هبط الشام فاتصلت أسبابه بأسباب أبي ذر، فقد سمعه ينتقد و لا يبالي علي أي وجه فسر عليه انتقاده، و يتحدي المجتمع [3] و الدولة و كل أسرة الحكم تحديا جارحا بمنطق الدستور الاسلامي العام الذي هو القرآن و السنة و مناهج السلوك التقليدية، و يأخذ علي الانطلاقيين المتجاوزين مذاهب سلوكهم.

رأي و لمس مقدار تهاوي الناس في الترف بالعدوي و تهافتهم علي الرفاه من أي طريق، و تستتبع خطة هذا السلوك اباحية و لا مبالاة، فجعل من نفسه و أتباعه حاجزا يقاوم التيار، فوقف في كل مكان يبشر بمبادئه و بعبارة أصح يقرع سمع الناس بما قد عهد عليه النبي و بما قد سمعه منه و وعاه بين يديه، و لكن بعضا من الناس كانوا قد استناموا الي هذا الجديد و تذوقوه و لذتهم اشياؤه، فأبوا عليه و أبي عليهم، فانطلق لا يبالي غضبا و لا رضي.

و كان أبوذر يري أن فكرة الحياة الانسانية هي الفضيلة، و الانسان هو الفاضل فقط. فعلي الناس اذا أن يحلوا أشياء الفضيلة بينهم، و أن يوفروا كل جهودهم علي تحقيقها و انتهاج سننها و أساليبها. و أما أولئك الذين يجمعون أكبر جهدهم و همهم علي التزيد من مخارف الحياة الناعمة و أسباب العيش الرفيه، فانهم لا يفضلون في اعتباره عن سائمات وجدت سبيل حظوظها. و الانسان عنده اذا جمع همه هذا الجمع فانه ينقلب حيوانا فقط ميزته أنه أقدر علي التحيل بما فيه من الفكر، و أما الانسانية فانها عنصر غريب عنه. و لكي يكون انسانا و يظل كذلك لابد له من حياة أخري مادتها الفضيلة، و الفضيلة في نظره هي التجرد و العمل.

هو يريدنا أن نعمل و نكافح بما استطعنا الي ذلك، كما يريدنا أن نتجرد أيضا فلا ننغمس في مدي الفتوة، يريد منا سيرا بما فينا من حياة عضوية ذات حرارات، و استعلاء بما فينا من روح لا تفتأ تنشد السمو.

و ليس أضر علي الكائن الانساني من أن يسير بالحياة فقط، اذ بهذا


يشبه سير الرحي تتحرك و هي قابعة بمحلها. و فرق ما بين الانسان و الحيوان أن الثاني تسير به الحياة و الاول يسير بالحياة و يستعلي دوما بالروح التي هي فكرة الحياة و غايتها و ضميرها و أخلاقيتها. و اذا كانت الحركة ضرورية للحياة، و الفضيلة التي هي التجرد ضرورية للانسانية، فلكي نكون أحياء انسانيين يجب أن نعمل و يجب أن نتجرد، و أما اذا عملنا فقط فقد نحرنا عنصر الانسانية فينا و أسففنا، كما تتعقد الحياة حين نضعها في معترك أطماعنا و شباك شهواتنا. فكان يوصي و يلح أن نعمل و أن نتجرد أي نعمل و لا ندخر، فحض بأقسي أسلوب و أعنفه علي عدم الكنز، و لوح ما شاءت له فكرته و شاء ضميره بقوله تعالي:

(و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكون بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).

و هو يري أيضا ان الدولة كالفرد سواء بسواء، فاذا كنزت و لم تتجرد انحطت و تولدت لديها الاطماع، فتحدي الدولة كما تحدي الافراد، و حارب الكنز الاجتماعي كما حارب الكنز الفردي. و شنها شعواء علي دنيا القصور و حياة الترف، فقد نظر اليها نظره الي مأتم للمثالية العليا و الأحلام السامية، فموكب الانسانية لابد أن يتوقف و يتوحل، و ينقلب موكب رجم اذا شئنا الولوج به في دنيا الشهوات.

و من ناحية أخري أحس بآلام البؤس في الناس، و أحس أن الدولة تتوسل بالتسميات القانونية الي انتهاب المسميات الحقوقية من أربابها و الاستحواذ علي الثروة الاجتماعية و تبديدها دون مستحقيها، فقدر و استنتج أن الحكومة المنتخبة هي ذات الحق الاول في التصرف بالاموال الشائعة. فتسميتها مال الخزينة بمال الله التي يراد منها الشيوع، وسيلة اذا للتلاعب و الاستحواذ، فحمل حملة نكراء علي هذه التسمية المغلوطة و نادي أنها مال المسلمين، هذه التسمية التي تؤدي في تسلسلها المنطقي الحقوقي الي منع حرية التصرف، و الي وجوب توزيعها عليهم و تعلق حقوقهم بها.


و بلغ من شدة و طأة هذه الدعوة أن جعل الأنانيون الطامعون يفرون من طريقه كلما رأوه، و زاد في تأثير دعوته و انتشارها أقواله هذه بأحاديث مأثورة سمعها من النبي. فوجد عبدالله بن سبأ في هذه الأفكار التي يسمعها من أبي ذر ما هو العلاج الناجع لروح المجتمع البائسة و وجد فيها أيضا محض أفكاره، و فوق ذلك وجد فيها ما تتوق اليه رغبة المطالبين بالاصلاح الحائرين، فانطلق علي سنة أبي ذر يبشر و لا يحفل.

توقف في الكوفة و هو يذرع الأقطار، فرأي فيها حركة أقوي من سائر الحركات الأخري في المدن و العواصم، فانخرط فيها و نظمها، و هناك وضعت (عريضة الحق) أو «مطالب الاصلاح» فلم تقابل من الهيئة الحاكمة بالحسني بل بالاعراض، فتألبوا و كان أن توسط علي بن ابي طالب بينهم و بين الخليفة فوعدوا خيرا، و ما أن بارحوا المدينة حتي أو عزت السلطة العليا الي معاوية (بالقبض عليهم) في حمص، و بعد لأي أفرج عنهم فعادوا الي المطالبة مرة أخري، بيد أنهم استعدوا للخصومة مهما نجم عنها و مهما احتبكت ألوانها الكالحة. و كانت عريضة الحق تشتمل علي:

أ- ابعاد البطانة المشرفة علي تسيير الأمور حاليا و لا سيما مروان بن الحكم.ب- الرجوع الي سياسة الاموال التي درج عليها النبي دون السياسة التي جري علي سنتها الخليفة الثاني و لا تزال.

ج ضرب اليد علي طماعية قريش.

د- الحد من صلاحية الولاة و الامراء، فيقيد تصرفهم بالحراج و الاموال العامة.ه- الحيلولة دون الأمراء و استذلال الأهلين.

و فدت الوفود تحت ستار الحج و هي تخفي أعراضها الدامية الثورية و شاع الهمس في المدينة و انطلقت عبارات الانتقاد تؤج كالنار في الهشيم و قد اتصلت


بعلي أخبارهم فتخوف مغبة الأمر و بادر الي الاجتماع بعثمان فقال له:

«الناس و رائي و قد كلموني فيك، و و الله ما أدري ما أقول لك، و ما أعراف شيئا تجهله و لا أدلك علي أمر لا تعرفه.

انك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك الي شي ء فنخبرك عنه، و لا خلونا بشي ء فنبلغكه، و ما خصصنا بأمر دونك. و قد رأيت و سمعت و صحبت رسول الله و نلت صهره، و ما ابن أبي قحافة بأولي بعمل الحق منك و لا ابن الخطاب بأولي بشي ء من الخير منك... ثم يقول:

فالله الله في نفسك. فانك و الله ما تبصر من عمي، و تعلم من جهل، و ان الطريق لواضح بين.. فاذا اعتذر عثمان اليه بأنه يقتفي أثر عمر أجابه علي:

سأخبرك أن عمر بن الخطاب كان كل من ولي فانما يطأ علي صماخه، ان بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصي الغاية. و أنت لا تفعل، ضعفت و رفقت علي أقر بائك.. فاذا ذكر له عثمان أن معاوية كان ممن و لاه عمر مدة خلافته كلها و انه يقتدي كذلك بعمر في توليته، أبان له علي الفرق بين العملين فقال:

أنشدك الله! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر، من «يرفأ [4] » غلام عمر؟... قال: نعم. قال علي: ان معاوية يقتطع الامور دونك و أنت تعلمها، فيقول للناس هذا أمر عثمان فيبلغك و لا تغير علي معاوية».

و لكن معاوية لم يزل بعثمان يوغر صدره علي علي، و يضرب له المثل بشدته عليه فيقول:

«هكذا يستقبلك و أنت امامه و سلفه و ابن عمه و ابن عمته، فما ظنك بما غاب عنك منه؟.» و كذلك يقول سعيد بن العاص و سائر بطانته (حتي اجمع ألا يقوم دونه). و علي حيال تردد عثمان لم يسعه الا أن يقول:


(ما يريد عثمان أن ينصحه أحد، اتخذ بطانة أهل غش ليس منهم أحد الا و قد تسبب بطائفة من الارض، يأكل خراجها و يستذل أهلها).

و كان عمرو بن العاص في هذه الأثناء يحرض الناس علي عثمان و يجبه سياسته علانية و يتجسس عليه و يفضح الاحاديث التي تجري داخل داره، و لا يلقي أحدا الا أدخل في روعه كراهيته و يستغل المناسبات و الظروف حتي قال يصف نفسه:

«أنا ابوعبدالله اذا حككت قرحة نكأتها، ان كنت لألقي الراعي فأحرضه علي عثمان».. و هذا عثمان يستشيره في جماعة من صحبه فيقول له عمرو:

«أري انك قد ركبت الناس بما يكرهون، فاعتزم أن تعتدل، فان أبيت فاعتزم أن تعتزل، فان أبيت فاعتزم عزما وامض فيه قدما».. و يقابله حينما خطب عثمان علي ملأ من الصاخبين المتمردين بقوله:

«يا أمير المومنين: انك قد ركبت نهابير و ركبناها معك، فتب نتب».. و هذه عائشة تجتري ء و هو يخطب فتقول و قد نشرت قميص النبي:

«هذا قميص النبي لم يبل، و قد أبليت سنة»... و هذان طلحة و الزبير يعينان الثائرين بالمال.

و الجموع المتألبة الوافدة من كل مكان، حيال ما تري و حيال ما تحس به من آلام في قرارتها، تفتحت ثائرتها و مضت في اندفاعها متنمرة غاضبة. فبذل علي كل جهد لتخفيف ثائرتهم و تبريد غلوائهم، و حمل عثمان علي اعطائهم مهلة ثلاثة أيام. فلما انتهت اجتمعوا علي بابه (مثل الجبال) علي حد تعبير المؤرخين؛ قال عثمان لمروان «أخرج و كلمهم فاني أستحيي أن أكلمهم» فخرج مروان الي الباب (و الناس يركب بعضهم بعضا) فقال:

«ما شأنكم قد اجتمعتم كأنما جئتم لنهب؟. شاهت الوجوه، كل انسان آخذ باذن صاحبه؟. جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟. أخرجوا عنا. اما


و الله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر لا يسركم، و لا تحمدوا غب رأيكم. ارجعوا الي منازلكم و الله ما نحن بمغلوبين علي ما في أيدينا».

كانت هذه الخطبة المملوءة حمقا و رعونة، شرارة شديدة الأثر في اذكاء الثورة و تقريب خطواتها؛ و مروان لم يفلح فيها باثارة الناس فقط، بل أفلح أيضا باثارة علي نفسه الذي ضمن للجمهور تسوية الامور علي ما يرغب، و قد أسقط في يده حقا و ما وسعه تحت عاصفة نفسه و عاصفة الجمهور المائج الا أن يقول مقالته المشهورة:

«ما رضيت من مروان و لا رضي منك، الا بتحرفك عن دينك و عن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به. و الله ما مروان بذي رأي في دينه و لا في نفسه. و ايم الله لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، و ما انا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك و غلبت علي أمرك».

و دخلت عليه امرأته نائلة ابنة الفرافصة، فقالت:

«أتكلم أو أسكت».. فقال: تكلمي. فقالت:

«قد سمعت قول علي لك و انه ليس يعاودك، و قد أطعت مروان يقودك حيث شاء»... قال: فما أصنع؟... قالت:

«تتقي الله و تتبع سنة صاحبيك من قبلك، فانك متي أطعت مروان قتلك. و مروان ليس له عند الناس قدر و لا هيبة و لا محبة، و انما تركك الناس لمكان مروان منك، فارسل الي علي فاستصلحه فان له منك قرابة و هو لا يعصي»... فأرسل عثمان الي علي فأبي أن يأتيه و قال: «قد أعلمته انني لست بعائد»..

كبر علي علي مثل ذلك المنطق الذي فاجأ به الجموع، مروان بلسان الخليفة، و هو يعلم انه لم يكن بينهم في هذه المرحلة العصيبة و بين التلظي و التهام الوضع القائم، الا كلمة رعناء كالتي فاه بها مروان؛ علي أنها هدمت قيمة وساطته و ألقت في روع الناس ارتيابا حقيقيا حادا في جدوي مداخلته، لهذا - و هو في مقياس كل عصر


مبرر - تنحي و اعتزل و اعتصم في حدود هذا التنحي و الاعتزال. و لكن عليا مع كل ما هو عاتب و واجد، لم يزل يقدر و يذهب في مدي تقديره بعيدا فينتهي الي الكارثة و يتراءي له شبحها، فيرهب هولها و يخشي وقوعها؛ يجب اذا أن لا يظل بعيدا، و ان تواري من الميدان ازاء موقف بطانة عثمان من الجمهور هذا الموقف النابي المثير، فبادر الي تقديم ولديه - لاعتباراتهما التقديرية - و مواليه، ينهنهوا عوادي الأحداث و طائشات الخطوب. و حين بلغه (أن الناس حصروا داره و منعوه الماء بعث اليه بثلاث قرب، و قال للحسن و الحسين: اذهبا بسيفيكما حتي تقوما علي بابه و لا تدعا أحدا يصل اليه بمكروه، و كان أن خضب الحسن بالدماء و شج قنبر مولاه).

و بات علي مطمئنا فقد رتب الأمور جيدا، و هو واثق من أن مجري الحادث سيسير علي هذا الشكل: يضطر عثمان تحت ضغط الجمهور الي اجابة مطالب الاصلاح و تنحية بطانته و لا سيما مروان، و لوجود ابنيه و مواليه اطمأن من عدم دنو الخطب منه. فان وجودهم يعبر عن معارضة عملية أكيدة من جانبه، فلا يتصل به مكروه دام يضع حدا لحياته، و انما كل ما في الأمر أنه سيضع حدا لأساليب الحكم الاستبدادية و مهازله العابثة. و ما كان يدري أن المغرضين ذوي المآرب كانوا قد اندسوا في الجمهور الذي غدا جد حساس وجد متأثر، فتدفق السيل جارفا و (جري الوادي فطم علي القري).

هذا ما عرف التاريخ عن علي و بنيه ازاء المصرع، بينما عرف من ناحية ثانية أن عثمان و هو محاصر كتب الي معاوية و هو بالشام:

(ان أهل المدينة قد كفروا، و أخلفوا الطاعة و نكثوا البيعة فابعث الي من قبلك من مقاتلة أهل الشام علي كل صعب و ذلول) فاذا بمعاوية حينما جاءه كتابه (يتربص به فقد كره - علي حد دعواه - مخالفة أصحاب الرسول و قد علم اجتماعهم علي ذلك).

و من تهكمات القدر أن يحرض عمرو بن العاص علي قتل عثمان، و تجبهه


عائشة علانية، و يتخلي معاوية عن نجدته، و يعين عليه طلحة و الزبير كلاهما؛ثم ينفر هؤلاء أنفسهم هنا و هناك، يطالبون بدمه علي بن ابي طالب الذي أخلص له النصيحة و حذره من هذا المصير، و كان مجنه دون رواكض الخطوب.

بين حق و باطل و مستصرخ و ناكل، تراقص المحيط مضطربا مترنحا كبحر استقبل بين حناياه العاصفة...

فقد عبثت العاصفة بأبدية السكون الجاثمة عليه، و هدوء اللانهاية الغامضة الحائمة فيه...

شعر البحر [5] الشامخة في أرجائه ليست من طبيعته...

فاستدار عليها يزمجر ثائرا هادرا، فقد أيقن أنها مكمن العاصفة فهو ينوء باقتلاعها...

و حين طاولته طما عليها و تجاهل وجودها...

و هو، و ان لم يقتلعها، ردها الي حيث لا يكون لها حساب في كبرياء الوجود...


ان كبرياء الواحد تجاهل لوجود الآخرين...

و لكن وجودهم في حس الواقع، أكبر من وجوده في حس الخيال...

فان وجوده قبضة من الظلام، و وجودهم قبضة من الشعاع...

و ما تقابلا الا ذاب الأول في الثاني دون ما أثر يقفو...

ان الكبرياء صفة ذاتية للكثرة، و هي تشير الي العدد...

و اذا نجح الفرد في ابتلاع الكل أحيانا، فانه متعرض الخطر التمزع دائما.

فالكل قنبلة قد تبرر حينا، و لكن فيها امكانية التفجر أبدا...

في طبيعة البحر رشاقة الحركة، و في طبيعة الصخر سكون بليد و أيضا قاس متجهم...

و بينهما وقف انسان [6] فيه وعي السكون و قصد الحركة، يصل أسباب أحدهما بأسباب الآخر...

و كانت كبرياء الصخر عمياء فلم تقنع بغير وجودها، فانطلقت أعاصير البحر تزأر في مثل الفحيح.

و وقف هذا الانسان عند الشاطي ء ينظر متفجعا، فاذا الوجود المخدوع - الذي أضحي غورا - ترقص فوقه موجة مارحة... في نغمة تخبر: أنه كان هنا شي ء فيما زعموا...

مضي ذلك الانسان و قد أبصر و سمع، مطرقا مرددا: بهذا نطق الحق في صدي الموج...


و روي هذا الانسان لولده [7] أمثولة البحر، فلبث متأملا يعبر عن أنه وعي...

و لم يكن طويلا، حتي كان بنفسه رجفة رعشات و خلجات، و رجعة أصداء الموج...

و شرع الناس يروون، بعد ذلك، أمثولة ابن الانسان...



پاورقي

[1] راجع تفصيل الکلام عليه في الحلقة الثانية من هذا الکتاب، فصل الحزبية الذي هو أول بحث من نوعه في تاريخ الخلفاء الراشدين.

[2] يظن البسطاء من المؤرخين، تبعا لتقديرات استشراقية مرسلة ارسالا، أن عبدالله بن سبأ - تلک الشخصة التي هي شبه تاريخية أي خرافية من شدة غموضها الي حد يبيح لنا انکارها مرة - فتن مجتمعا باسره؛ و هذا منقوض علي ضوء البسيکولوجية الاجتماعية. و فتن اباذر الذي ساير النشوء الديني الجديد في کل أطواره. و يتبين لنا درجة ما فيها من سخف حينما نعرف أنهم بخشصية شبه تاريخية يريدون تغيير مجري حادثة تاريخية هامة، و لا شک أنها طريقة ميتافيزيقية يراد بها تعليل المعلوم بالمجهول، و ما يدرينا فلعل عبدالله ابن‏سبأ عنتر اجتماعي مثل عنتر الفروسي؟ و انا اذا کنت أستطيع أن أقر بهذا الشي‏ء المدعو عبدالله بن سبأ فانما استطيع الاقرار به علي أنه تلميذ المدرسة الغفارية، و يؤکد هذا أنه من أنصار علي بن أبي‏طالب في الجانب السياسي و الديني من أفکاره؛ و معروف أن أباذر من أنصار علي، فلو فرضنا أنه جاء بافکار مزدکية فلماذا لم يختر الا مناصرة علي، و کان اروج لدعوته لو ناصر ذکري ابي‏بکر و عمر. و السبب في نظرنا الذي أدي الي نشوء مدرسة ابي‏ذر و دعوته انما هو ذلک التورط و التهالک علي مسلک الثراء المتطرف الذي أخذت باسبابه الاقلية الاموية و أعوانها و بروزها ذلک البروز الارستقراطي و استعبادها الاقطاعي، فکان في ذلک ما أغري اباذر علي فهم الشريعة ذلک الفهم. راجع الحلقة الثانية من هذا الکتاب.

[3] تفصيل رأينا في مدرسة ابي‏ذر و تفصيل آرائه في الحياة و غايتها و في المجتمع و نظامه و في الحرية الادبية و علاقة الحي بالله تجده في کتابنا: «مدرسة ابي‏ذر و الثورة الکبري في الاسلام».

[4] يرفأ: اسم غلام و کان اذا رآه يرعد منه رعبا، فضرب المثل به في الرعب.

[5] کناية عن الشعب الذي هو في الواقع بحر حيوي يفيض بالقوي، و تاريخه سيل من الهدوء و العواصف و التيارات و التناحرات بين أحيائه.

[6] کناية عن کل مصلح انساني يعمل في وعي المبادي‏ء کعلي.

[7] کناية عن أسمي أبناء الوعي الجديد کالحسين.