بازگشت

جهاد الشباب


حين كان الفتح الاسلامي يضع احدي قائمتيه في أقصي الشرق، و الاخري عند باب الغرب - يقرع عليه هجوعه و ينفض عن جفني الغرب الباقيات من رقدة الأيام، و الهباءة التي استحالت الي ظلام كثيف حالك حول مقلتيه و بين يدي حياته، كأنما لم تنعشه بعد اول اشراقة من ضحوة الشمس - ذهب حسين شرقا و ذهب غربا كأنه يضع بكلتا يديه حجر الأساس في قاعدتي قوس النصر مباركا.

كان حسين يناهز الثانية و العشرين من سنيه، حينما ذهب جنديا يلوح بشعلة البعث و الاصلاح في الحملة الي الغرب.

و كان جوا حماسيا ذلك الجو الذي صبغ المدينة، فقد تحولت من بلد ناء مجهول تحيط به الصحراء و تغمره من كل جانب - و الصحراء محيط زاخر تقوم في الرمال مقام الماء - الي عاصمة مركزية تتولد فيها الحرارة و توزعها، الي قلب عالمي تخفق فيه الحياة و ينبض بالخلجات الي كل مكان.

في هذا الجو الحماسي كان التسابق علي الجهاد قد اتخذ شكل مباراة بين الشباب و الكهول، و من دون الشباب و من فوق الكهول.


هي أمة جديدة بعثتها روح جديدة، فانطلقت و في عروقها عصارات من حيوات فائضة تجريها في جسم العالم الممدد المحتضر و تصل عروقه بعروقها، فتمشي، طائفة عليه دائرة فيه، مشي الروح التي تمسه بتيارها.

كان السائر في طرق المدينة و منعطفاتها لا يسمع الا الأصداء قوية مزهوة، هي بقايا هتافات تثير الاعصاب. و كان الغلمة يتقاذفون بالازهار، و العلية يتحايون بالعمار [1] ؛ فقد تركوا لاعصابهم المائجة بصنوف الفخار و المجد، سبيل هواها و مجالات التعبير عن ازدهائها. فقد وردت الانباء بالانتصار المؤزر في «برقة» و انكفاء البربر هناك.

و كنت لا تجد كيفما سرت و أني ذهبت الا جموعا تموج في جموع من ظاهر المدينة الي داخلها، و علي فجأة اخذ بصرم فارسا يطوي الهضاب و هو يمر بينها مرا سريعا، فشملتهم هدأة غطت علي الضجيج و ضمتهم لحظة انتباه و سكون القتهم في صموت متسائل ناطق؛ و ما حل بينهم حتي التفوا عليه و أحاطوا به احاطة السوار بالمعصم، و أخذوه بسيل من الأسئلة من كل جانب، فاستوي علي الركاب منتصبا، و خاطبهم بصوته الجهوري الحاد النبرات و المشتعل المقاطع و الكلمات:

ايها الانصار! ايها الابطال! اليوم يومكم. فقد دقت ساعة الكفاح. افسحوا لي الطريق الي المسجد الي مقر الخليفة و اتبعوني!

فتدافع الناس عن طريقه صاخبين هاتفين: اليوم يومنا. الي مقر الخليفة... وقف الرجل علي مقربة من الخليفة و وجه مقاله تارة للجموع و تارة اليه:

«ان جرجير المملك، ما بين طرابلس الي طنجة، اشب الجموع وحشد الجند من اطراف مملكته، للاحداق و الايقاع بجيش العرب - و هو يتربص بنا الدوائر،


و بات الخطب علي قاب قوسين أو ادني. و ان عقبة بن نافع قائدنا المظفر قد با في ضائقة من الامر، و لكنه مستبسل اشد استبسال «يكافح كفاح المستميت في الدفاع و الهجوم و مداورة الخصوم، و هذا يوم له ما بعده.

فالي الجهاد ايها المؤمنون! الي القيام بالتزامات العقد بينكم و بين الله علي تجديد العالم و اخذه بالمبادي ء الانسانية الفضلي: «ان الله اشتري من المؤمنين أنفسهم و اموالهم بان لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة و الانجيل و القرآن، و من أوفي بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، و ذلك هو الفوز العظيم». ان اخوانكم من قبل رووا الرمال الرابية الي افريقية بدمائهم الصبيبة و هم اسخياء، و بنوا من جماجمهم معاقل الصحراء. و ها هي دماؤهم اليوم تناديكم و تستصرخكم بصوتها الرجاف الرعود من وراء الرجم و تستند بكم الي التضحية.

فالي الكفاح! الي النصر!

و ما هو حتي اختلط صوته باصوات الجموع و ذاب في دويها العميق: بل الي الشهادة! الي الموت!... و بقيت الاصداء يرددها الفضاء و يطوف بها الاثير في كبرياء و خيلاء.

و تدفق الناس علي التطوع، و كان في «مقدمتهم الحسن و الحسين و عبدالله بن عباس و علية لا تحصي» و خفوا راحلين:

أجمعوا امرهم بليل فلما اصبحوا اصبحت لهم ضوضاء

من مناد و من مجيب و من تصهال خيل خلال ذاك رغاء

و لم يكن طويلا حتي هبطوا مصاف القتال، فاخذوا مواضعهم و دارت رحي الحرب أمدا ليس بالقصير ضاق الخناق فيه علي البربر، فانكفأوا متمزقين يتيهون بين الحزون و السهول، و بين الاودية و الهضاب...

و بعد بضع سنين «انتظم الحسين في الجيش الذاهب شرقا الي طبرستان»


باذلا نفسه مضحيا حوباءه بسبيل كلمة الله التي عاش لها و قضي كريما تحت ظلالها الدامية و بنودها الحمراء.

كانت الانباء عن تضحية الشباب و استبسالهم، ترد الي المدينة طافحة اعجابا و بشرا. و كانت حديث اليوم بين الناس في الأندية و المنازل و في منعطفات الطرق، حيث يحلو الوقوف عند الاصيل لفئة تجد في هذا النوع من اللهو تسلية رائعة، و تحس بظمأ الي الصخب يمده الفضول أحيانا فتملأ جو نفسها المقفر بهذا اللون من الانغماس في الضجيج.

و في طرف من اطراف المدينة انفرد جمع بينهم البراء بن عازب، يتجاذبون اطراف الحديث عن ابطال الجهاد الشباب. فقال: ان الشباب معناه تفتح براعم الصبا عن حياة الجد و الواجب و عن تبعات الحياة؛ و فئة الشباب هم اشعة حاضرنا في وقدة تألقها، فاذا بدت كسيفة كليلة فقد خسرنا الحاضر و المستقبل جميعا، و كانوا اعلانا عن اننا غير جديرين بالحياة.

فان الحياة قوي سائبة كمثل الرقارق علي وجه الرمال، و لكنها تتجمع في فترة الشباب بمثل خزان الماء، فتتكسر عند حناياه القوي و تتولد فيها التيارات فتتدفق جياشه هادرة.

فالشباب مجموعة من تيارات قوي الحياة، فاذا كان الخزان مملوءا بالثقوب و الشقوق، انسابت المياه في كل وجه و تبعثرت قواها و غاضت بين الوهاد و الحزون مترسبة في مستنقعات آجنة. و حين لا يكون للشباب حصانات و مناعات يمدها شعور بالحقوق و الواجبات و حس مرهف بالتبعات، فقد عاد شبابا رخوا، افضل منه شيخوخة فانية.

و شبابنا الذين ابتعثتهم المبادي ء ابتعاثا، لا محيد عن ان تنطلق بهم تيارات القوي، انطلاقا ينتهي بالسيل الاسلامي المطهر الجارف الي غايته، فغمر حتي الربي، لينكشف، عن حياة جديدة و دنيا جديدة.


و نحن الذين قمنا بواجبنا مع صاحب الرسالة و كان ادني من بذلناه انفسنا، و ما بقاؤنا في عين اليوم الا ذكري جهاد و تمثال كفاح - لا يسعنا الا ان نبارك شبابهم الغض و جهادهم المظفر. و اذا كان لشي ء ان يأخذ بانتباهنا طويلا فانما هو ذلك الاقبال علي التضحية بسبيل المبادي ء للمبادي ء دون ما انانية رعناء و زنانية [2] حقود؛ فقد ذابت عظامية «ارستقراطية» من كان منهم عظاميا في بوقة الايمان. و الرسالة الناجحة هي التي تستطيع أن تكفل تحويل العظامية من قاعدة الدماء و الثراء، الي قاعدة المبادي ء و التضحيات.

فهذا الحسين سبط النبي له من عظامية الدم ما ليس لاحد اليوم او قبل اليوم، و مع ذلك فهو يمضي تحت راية الواجب كأي جندي تحدوه مثل غايته. و لا أراه الا معتقدا أن القديم، انما يجد روحه في الجديد ليغدو كائنا حيا رائعا، و الا فالقديم وحده ان كان يعتبر عن شي ء، فانما يعبر عن مومياء مجد فقد تظل رمزا من رموز التاريخ... فاطرق الجمع و شملهم صمت واع ثم خفوا الي رواحلهم و هم يرددون قوله:

«و الا فالقديم وحده ان كان يعبر عن شي ء فانما يعبر عن مومياء مجد فقط...»



پاورقي

[1] الأزهار و الريحان تجعل باقات و يحيا بها، قال عبيد بن الأبرص «سجدنا له و رفعنا العمارا».

[2] الزنانية ترادف الانانية تماما عند العرب القدامي؛ و الزناني: الاناني کذلک.