بازگشت

مع خليفة


في قمة المجد العربي حينما كانت الراية الاسلامية تنسج و تنظم خيوطها من ممالك العالم القديم، و تتهادي متطاولة في الفضاء، كأنها توشح الآفاق و تطل علي عالم يمور بالخلود، و تحتضن جداول الابديات بما فيها من فتون، وقف عمر ابن الخطاب يبارك هذا المجد و يقول كلمته بلسان التاريخ، و يودع عالما يدفعه بمنكبيه و يستبل عالما بكلتا يديه.

عالم من طوبي محمد، و لكنها طوبي متحيزة تحيز الواقع و متألقة تألق الشعاع، و هي الي هذا مل ء السمع و البصر و مراد الأماني... عالم انطبع علي آفاقه وجه محمد في هالة القرآن، و القرآن هو اللوحة التي شاءت الحقيقة الخالدة ان تبرز فيها كاملة قد نضت عنها شتي الاثواب.

جلس علي اريكة هذا العالم الجديد الذي هو من عمل نبي الخلود، و لم تكن هذه الاريكة او العرش الا منبر المسجد الذي كان محمد يقف عليه و يهتف بلسان السماء يهدي التائهين، و الاثير من ورائه يردد النداء ابعد ما يتناهي، فمحا كونا و اثبت كونا، و ظل تمثال الحقيقة الباقية بين الكونين، و صوت الله في وعي العالمين متجاوبا بصدي الابد.


لم يكن في عالم محمد عرش لانه لم يكن فيه عبودية، و لم يكن فيه «بلاط» لانه لم يكن فيه ارهاب و استصناع عظمات مزيفات، و انما كان المنبر فيه هو العرش؛ و المنبر رمز يشير الي الكوة التي شع منها الهدي و انبثق منها الضياء. و كان المسجد فيه هو البلاط؛ و المسجد رمز يشير الي التلاشي في الروح، و الفناء في الاشراق، و النشوة الواعية في التأمل و الاستغراق.

وقف عمر يتكلم و كأنما زوي العالم اليه من اقطاره، و تآزح في حدود موضعه، و الناس كأن علي رؤوسهم الطير يصغون، و الكون من ورائه يسمع و يخشع.. و من أقصي المسجد جاء يخطر بين الصفوف الحسين وليد النبي، حتي بلغ مرقاة المنبر فما تهيبها، بل صعد رابط الجأش حتي انتهي الي حيث يجلس عمر فشاركه موضعه.

و كان منظرا بدا غريبا اعطي الناس لحظة انتباه شرعوا معها يتلعون رؤوسهم و يتهامسون، فلحظات ذكري انتقلت بهم من حال الي حال و من زمن يعيشون فيه الي زمن يحنون اليه، و قد ظل شائعا حيا في الخطرات الحلوة يوم كان الحسين يتخذ موضعه الي جنب جده العظيم، في هذا الشكل و هذه الصورة.

ذكري سعيدة جرت وراءها نوعا من اللاشعور، و تمددت في تأمل طويل، و كان استغراقا كله السكينة و الاطمينان و ان بدا كالوجوم الراني.

شخص الناس الي الغلام ينتظرون ما سيجي ء به و يصدر عنه، و كان الغلام أكثر منهم استغراقا و أكثر نفوذا في الذكري، فراح يملي ء ناظريه و يمتعهما ممن استيقظت نفسه علي أنه جده.

هو شديد الحنين و شديد الهوي الي أن يري جده و قد فصل عنه زمن كان طويلا في حس القلب، و كان خيالا شديد الأسر له، فلما لم يجد فيه جده و جم ملتاعا، فقد انهار ما اجتمع في خياله من لذاذات دفعة، كمن حيل بينه و بين ما يشتهي و هو في أدق فترة من لذة التذوق، فرسب فيه خيال بهتت به لذة وطفا فيه خيال استوي معه ألم.


فقال له في شي ء من التحدي الصارم: «انزل عن منبر أبي و اذهب الي منبر بيك»... فاشتمله عمر و حنا عليه طويلا ثم قال له في اشياء من ديمقراطية الحق و الاعتراف الفكه الجميل:

«انه لم يكن لأبي منبر»... و مال عمر عليه ثانية فقال له في شي ء من الترقب و الامتحان النفسي: «من علمك؟».

فقال الحسين في اشياء من الذاتية المتفتحة: «و الله ما علمني أحد»... و كأنما رد عليه: بانه شعور النفس بالنفس و تحسس الشخصية علي محلها و موضعها.

و خف الناس يشد بعضهم الي بعض يقولون: ان الحسين يطل من نافذة مقلتيه البطل...

و كان عمر قد أعجب به في غير حد، و كان قد أخذ بشخصيته القوية في غير مقدار، فرأي لزاما عليه ان يبرزه في حياة الجد الحاكمة، و ان يأخذه باسباب التوجيه و الاشراف علي تصريف المقدرات العليا، فقال له:

«بابي! لو جعلت تغشانا»... و انقضي وقت قبلما اجتمع اليه ثانية، و تخللت أحداث، فقد رفعت اليه شكوي من اطراف الشام علي معاوية، فاهتم لها عمر، و كان رجلا صليبا، فاستقدمه مع البريد مسرعا و خلا به، و كانت الطريق قد جمعت الحسين بعبد الله بن عمر فقصدا الي مقر الخليفة يزورانه، فطلب ثانيهما الدخول، فقيل له:

«انه خال بمعاوية»... فانقلب ابن عمر و انقلب الحسين معه، و فصل زمن لم يكن بعيدا حين صادف عمر، في بعض طرقات المدينة، الحسين فقال له:

«لم أرك».. فروي له كيف حيل بين عبدالله ابنه و الدخول، و كيف رجع معه، فتصور عمر بشكل الجد اشعارا بالفرق الكبير، و قال و صوت الحق يدوي في مقاله:

«أنت أحق من ابن عمر. انما انبت ما تري في رؤوسنا، الله ثم أنتم».. و صمتا يمشيان، و وقف التاريخ من ورائهما يرددها كلمة خالدة في سمع الدهر و أذن الأبد...