بازگشت

دموع


كثيرا ما كان النبي يري، في أخريات أيامه، بين ذويه و ابنائه يؤانسهم و يطمئن في نشوة خفية الي اشياء لهوهم البري ء و مرحهم الحلو، و يعاطيهم اسباب هذا اللهو و هذا المرح و يمد لهم فيهما، فقد حقق حلم المجد وادي غاية الرسالة القصوي، فهو يشعر بالاطمئنان و الرضي و يحس بتزاحم سرور عميق.

و كان يأنس كثيرا الي هذا الجو الذي تشيع فيه حركات الطفولة ناعمة ببراءتها، هانئة بسذاجتها، منتشية بطراوتها... و هي رغم قسوتها احيانا تجد وقعها اللذيذ، فان البراءة جمال علي شتي صورها و ألوانها.

و الطفولة وحدها أثبت حقائق الحياة، و ماوراءها سخريات و اشباه سخريات تبدو خشنة، و كلما او غلنا في مدي الحياة تزيد خشونة و توعرا. و حين تدركنا لذتها عرضا فانما تكون في شكل من اشكال الرجعة الي الطفولة، و في انضاء زيوف ثقيلة من أثواب التكلف المرهقة.. و التكلف رياء و انانية علي كل وجوهه، و لذلك انصرف جهد النبي الي ان يضع في كل الحياة براءة الطفولة.

و نحن لا نستطيع الرجعة الي الطفولة و بعثها من جديد علي اية صورها، كما نعجز دائما عن خلق جوها المترف فنطلبها في الطفل بتشوق ملح و في نوع


من الحنين الآسر، ليغمرنا بروحيتها التي تظل فينا املا منشودا و رغبة حادة.

و النبي كان يجد طفولة حياته اللاذة في ابنائه كما كانت و علي ما كانت، فيأخذهم بصنوف اللعاب في حنان و افترار. و كثيرا ما كان يري الحسن و الحسين يصطرعان و هو يحمسهما، او يلعبان بالمداحي [1] و هو يعب الهناءة عبا و يتملأ منها، و يتذوق «حلواء البنين» التي هي النشوة الكبري في ظلال العمر.. فان لذاذة الحياة تقوم في نشوتين: نشوة بالطفولة، و نشوة بذاكراها في الطفل، و ما بقي من فصول الحياة هجير كهجير الظهيرة و لذع كلذع اللهب و حرقة تنتهي بمرارتها.

و الطفل طائر يرف بين أيدينا لنلحق به الي جو حقائقه و احلامنا، و كأن الحياة تضع الحقيقة العارية السعيدة بكل فتونها بين يدي الطفل فيغرق في خمارها زمنا، و لكنها تنأي و هو في قمة شعوره باللذة المطلقة، فيحبو وراءها في لهفات، ثم يعدو في لهثات، و هي تنأي و تنأي حتي تحور في كون من الضباب يحول الافق دونها، و ينقطع بالحي المسير فيستغرق حالما، هائما، فقد سقط في السراب تطوف به و تتنازعه احلام الماء.

و اذ يصطرعان، كان النبي يهيج حركات طفولتهما المتشابكة التي هي رمز عبث في جد، و جد في عبث تنتظمها براءة مارحة.

فيقول: «ايها حسن».

قالت فاطمة: أتستنهض الكبير علي الصغير؟!

قال: هذا جبريل يقول: «ايها حسين!».

و جبريل رمز من المطلق و اسم من المثال، و في لحظة استغراق و استعلاء


طافت بنفس النبي صورة من التجريد برزت مجسمة و مكبرة، و هي تشاركه نشوته و بهجة ما يجد حيال مرح سبطيه. و لم يكن جبريل غريبا عن جوه فهو رمز رسالته. و لم يكن حسين بعيدا عن قلبه فهو رمز حبه. و في هذا الاستنهاض التمثيلي رمزية تشير الي أن الحسين سيكون رائد الرسالة و علم الهدي، ففي اعماق ضمير صوت من الغيب يتردد ابدا: ايها حسين!..

مع الاصيل كان في اقصي الصحراء راكب يسير بين الجد و الهوينا آخذا نحو المدينة، و هو يبدو من بعيد كرة يدحرجها الافق علي الرمال، و الصحراء هيكل ابدية مكشوفة تتمدد في النفس علي رحبها فتتمدد بها النفس لا متناهية تطالع المجهول.

و كان الراكب أباذؤيب الشاعر الحزين الذين ضفر الحزن علي هامته اكليلا تناثرت اوراقه، و بقيت اشواكه القاسية تأبره في خطرات الذكري، و خلجات الحنين، و رجفة الهوي، و تأودات الطيف.

و الصحراء ينبوع ذكريات سيما لنفس انسان محزون تكسرت اصداء الاسي في اذنيه، فهو يحس بوقرها في الخلاء ضاجا عنيفا؛ و النفس البائسة يزداد فيها صدق الحس و الحس، و تتأثر بالفواجع من بعيد و برعشات الغيب و المجهول.

عرته و المطية تتهادي به هزة شجي، و تأودت في اعطاف الصحراء أمام ناظريه طيوف رامزة. «و كان قد بلغه ان النبي عليل، و كان استشعر حزنا مذيبا، و كان قد بات بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها و لا يطلع نورها قبل ان ابتدأ المسير؛ فهوم مع السحر فسمع صوت الشاعر يهتف به في الاحلام:



خطب أجل أناخ بالاسلام

بين النخيل و معقد الآطام



قبض النبي محمد، فعيوننا

تذري الدموع عليه بالتسجام



قال: فأصحيت من منامي فزعا فنظرت فلم أر الاسعد الذابح، فأولته ذبحا يقع في العرب، و علمت ان النبي قد قبض.


فحثثت راحلتي و سرت. فلما اصبحت طلبت شيئا أزجر به، فعرض لي شيهم قد قبض علي صل هي تلتوي عليه و الشيهم يقضمها حتي اكلها، فزجرت ذلك و قلت: شيهم، شي ء هم. و التواء الصل: تلوي الناس علي القائم بعد رسول الله».

فادركتني حيرة متلظية عرض لي فيها شبح انسان مجد نفقت تحته راحلته من طول ما حملها و راح يحملها، و لم يقعد به الانقطاع بل هب في غير توقف، يخطو خطوات و اسعات، فقلت في نفسي: لامر ما جدع قصير أنفه!!

«فمددت الخطي مدا عنيفا حتي هبطت المدينة، و لها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج اذا اهلوا بالاحرام، و هم في ذهول مستطيل و وجوم.

فقلت: ما الخبر؟

قالوا: قبض النبي!

فجئت الي المسجد فوجدته خاليا، فأتيت بيت النبي فوجدت بابه مرتجا؛ و قيل: هو مسجني و قد خلا به اهله. فقلت أين الناس؟

قيل: في سقيفة بني ساعدة».

و فيما أنا في بعض طرق المدينة أمشي مشية الحزين الحائر، رأيت عارض الصحراء فتبينته، فاذا هو معاذ بن جبل عرته سحابة حزن صامت مكظوم، فتلقيته بين يدي، و قلت: أأنت؟!

فانفجر و انفجرت معه بدموع حرار تزيد الحوي لوعة و الاسي لذعا، و كان نشيجه مريرا كمن ثكل كل ذويه في ميتات متقطعة متلاحقة، لا تفصل بينها الا هنيهات و فينات. و كان الحزن يشتد به دراكا حتي لم يعد يتماسك، فاخذته الي و هو نضو يتشنج و شلو يتنزي.

و بعد لأي افاق و كانت افاقته جد مريرة، فقد هب كالممرور يطلب شيئا و انا وراءه، حتي انتهي الي كل باب يقرعه و لا يلبث ان يرتد عنه. فقد كان


يرغب في ان يري الناس ليخرج من وحدته الممضة القاتلة، و لكنه لا يكاد يري احدا حتي تزيد أزمة نفسه و تجدد له ذكري تبعث نفسه أشد التياعا.

و لم يزل يدنو و ينأي في رغبة و رهبة حتي قاده المطاف الي بيت علي، و كأنه اراد ان يداوي الاسي بالاسي و يلاشي الالم بالالم. و أحس بالارتياح العميق حقيقة، فان الالم كله يذوب في مضاعفات الالم، و يتلبس النفس شعور سلبي مبهم لا يتجاوب معه في النفس غلواء الالتياع و برحاء الاحزان، فان المشاعر علي اختلافها نسبية و لا فواصل بين اطرافها، فهي اذا بلغت غايتها هبوطا او ارتفاعا تتحول او تهمد.

رغب كثيرا، و اطمأن الي ان يجابه الاسي في هيكله، ليستغرق في لحظات المرارة المطلقة التي تتجرد في الاطلاق عن معناها و وقعها الاليم، فقد غدت لا عضوية دون أعصاب تتقلص أو تتمدد، انها اصبحت خفقة روح في غير لون.

فمضي معاذ باحساس وجداني عفوي الي بيت علي، ليواجه اشد انواع الاسي في شخص النسر الحزين و فراخه الحياري، فهو يشتهي و يفضل كثيرا حيرة الاسي الاشاعرة و الغفوة في الالم علي ان يظل في يقظ الآلام.

وقف دون البيت طويلا ثم قرع الباب، و ما اشدها و امرها مصادفة فقد «برزت اليه فاطمة» تجول في مآقيها عصارة حب خالد، و تعلقت في اهدابها الواسعة دمعة كبيرة، ليتها سقطت!...

و في ناحية من البيت رأي الحسين وليد النبي المحبب منكمشا علي نفسه، يدير لحاظه فلا يري الا دموعا، فغرق في الدموع. و كان بين حين و آخر يناجي نفسه و يطارحها في حديث خفيض مسموع.

أبتاه!.. أين هو؟ لم اعد اراه! اليس لي ان اراه بعد اليوم؟ بالامس القريب كان يلاعبني؛ كيف نأي؟ لم يعد لي، بعد الآن، حنان ذلك القلب الكبير!!

فيزيد الفجيعة و يحرك النشيج، و معاذ حالم امام هذا المشهد مستغرق، انه


لم يعد يحس بشي ء، انه غدا خلاء من كل شعور...

مات محمد البشري ليخلد محمد النبي...

فاستعبر الحسين لأولهما بالعاطفة و الحنين...

و افتدي ثانيهما بالدم القاني الصبيب...

حينما حاول مس جلال الخلود، غواة محمقون...

بعد اشهر معدودات رزي ء امه الزهراء و ملاكه الآخر...

الذي كان يشع عليه بالامل الهاني و السعادة الحالمة...

فجمدت في عينه دموع و في قلبه دموع...

جعلته، في حياته كلها، ينظر الي الافق البعيد...

يود لو يذوب في الشفق الملتمع من كوي الأبديات باغراء...

مرارة قاتلة علي قلب غض، هبطت فجأة فانتقلت به من حال الي حال...

و استوي دفعة فنظر الي الحياة من فوق كوة الرغبات فرأي حمأتها...

فوجه تياره الطهور فتمددت و انتفخت متجهمة تريد الصراع...

فتقززها و استعلي، فقد ترك فيها دفقات من الينبوع الاقدس و هو لابد مطهرها.

و لم يزل يستعلي حتي لم يعد يري، الا نجما يتواري في التحليق باشعاعات و اغتماضات...



پاورقي

[1] المداحي: احجار؛ کانوا يحفرون حفيرة و يدحون فيها بتلک الاحجار فان وقع الحجر فيها فقد غلب (بفتح الغين) صاحبها، و ان لم يقع غلب (بضم الغين)؛ و الدخو رمي اللاعب بالحجر و الجوز و غيره.