بازگشت

يوم الدولة


أصبح النبي و قد جمع اليه جزيرة العرب الا قليلا، علي ان ذلك القليل كان ذاهبا ايضا في طريق سائرها، كما تذهب الرحي راسمة خط دائرتها في غير توقف. و كان لابد لهذه الرحي، و فيها انطلاق و فيها حياة، أن ترسم دوائرها واحدة في اخري اوسع منها، حتي تتصل أبعد ما يكون الافق المطبق، الذي هو في نفسه اقصي الدوائر في طاقة الحياة.

و النبي الي هذه البرهة من الزمن كان قد قذف الدين في حياة العرب روحا، و سوي الدولة قطب الرحي في حركة الحياة الجديدة، فانطلقت و لم تقف و تفرجت و لم تنكمش. و ابدا يقع مقياس الحياة الشامخة في الحركة بمقدار ما تستطيع ان تخط خطوطا جديدة دائما، و تنثر في مدي خطوطها حيوات لا تغيض دفقاتها و لا تخبو اشعاعاتها و لا تبهت الوان احلامها...

كانت سنة سبع و كان الناس يستقبلون بها عهدا جديدا، فقد هيأ النبي الاسباب للاعلان عن ولادة دولة جديدة في المنأي البعيد المجهول القوي و الممدود الرغبات. فنظم طائفة من الرسل الي ممالك العالم القديم تحمل رسالة الدين و الدولة جميعا، فقد اضحي نبي فكرة و زعيم دولة.


و كانت الفكرة التي انبجست من ينبوع النبوة قد امتدت و هي تمتد، فكان لابد للدولة و قد تركزت ان تتحرك لتمتد ايضا. و دائما تظل الفكرة في احساس التاريخ هزيلة، اذا لم ترافقها الدولة التي تجعلها خلاقة و مغيرة، و الفكرة لا تكون قابلة لتقوم علي اساسها الدولة دائما، و انما هي فقط الفكرة التي اجتمعت [1] فيها كل قوي التاريخ و قابلياته الراكدة، و انبعثت فيها علي شكل من الحياة، و بذلك تكون في اعتبار الزمن أنها منه، و مصير الافكار الاخري أنها تستحيل الي نأمات غامضة في أذن الدهر و سمع التاريخ.

و من طبيعة الفكرة التي تجتمع فيها قوي تاريخية كبري و تنجح في اقامة دولة جديدة و خلق تاريخ جديد، أن تكون فيها عناصر الثورة كاملة، الثورة التي هي ظاهرة من يقظة قوي التاريخ الراكدة.

و لأن تعاليم النبي من هذا النوع الذي اجتمعت فيه قوي التاريخ، كانت لا تتصل بمجتمع الا و تعمل فيه عملها فتلهبه و تحرق عليه زيوفه و تغيره تغييرا تاما، حتي كأن ما ليس منها ليس من الحياة. بذلك نجحت نبوة محمد و نجحت دولته، و فيها القوي لتنجح كلما حركت و انبعثت.

و كانت كتب النبي الي الملوك أول دعوة من نوعها في التاريخ، دعوة دولية عامة للدخول في النظام الجديد، وجهت علي شكل كتاب رسمي. كما كانت اعلانا بولادة دولة الاسلام و العرب التي في ضمير الزمن عنها: أنها كلما ولدت يتغير وجه التاريخ.

في هذه الفترة كنت تحس في كل نحو من أنحاء المدينة بحركة نشاط غريبة،


و تسمع همسات مستطيلة متصلة الهمهمات، و لم يكن للناس حديث الا حديث الكتب، و ماذا سيكون رجعها ورد الملوك عليها؟ و كان في الطريق الآخذ الي العوالي، جماعة انتحت بنفسها ناحية ظليلة تكاثفتها أوراق الأغصان الوارفة.

فقال قائل: أما ترون أنها محاولة خطرة، قد تؤلب علينا جماعات الأمم و هي تحيط بجزيرتنا احاطة السوار بالمعصم، فان نفسي تنتاشها المخاوف و تتقسمها شعاعا.

قال المقداد بن الاسود: لا ينتفخ سحرك بالأوهام، و لا ترع، و سر عنك. ان لنا من قوانا الجميعة ما يجعلنا كتلة من الصلب من ورائها الايمان يشدنا، و من وراء الايمان الله واهب القوي و القدر؛ فلسنا نرهب عاتيا من البشر. و ان النفس التي رأت وجودها في الله، تتطاول بها القوي، و تتقاصر في مدي اعتبارها أية قوي أخري، فتنقذف و هي قلة راعدة من مصدر القوة الكبري. و حظ الانسان من الحياة كما هو في مرآة نفسه التي هي ينبوع المطلق، و ليس كما هو في مرآة الوجود التي لا تعكس الا نسبية و ظلالا خادعة مختلطة. و ان الوجود كائن بسيط و هو لا يملك الا حقائق بسيطة، و أما حقائق الوجود العظمي فهي من هبات الانسان علي الوجود. و الانسان كائنا منفصلا من الوجود فقط، بل هو أداة خلق و تكميل فيه.. فالحياة و أشياؤها و الوجود المعنوي و فكرته، بدعة هذا الانسان العجيب الذي لولاه لظل الوجود بسيطا ساذجا خلوا من الاغراء.

و الانسان الذي لا يفتأ يطلب كبرياء الوجود و يحس بنشوة وجوده في حدود هذه الكبرياء، بل لا يحس بالوجود بعيدا عنها، ليس كائنا طبيعيا؛ و الا هو، ككائن طبيعي، شي ء تافه مثل أي كائن آخر ينمو و يذوي بين فترات من الزمن.

و الايمان بالله الذي دعا اليه الاسلام، في حقيقته، ايمان بالانسان و هدم للايمان


بالوجود الصامت الذي هو و ثنية تحول بين الانسان و الايمان بنفسه و معرفتها؛ و الي هذا يرمز قول النبي الأعظم «من عرف نفسه فقد عرف ربه».

فالانسان كائن الآهي اذا فهم نفسه، و كلما رسب الي الطبيعة و آمن بقواها فقد رسب و تلاشي في غمار الوجود الصامت و عاد كحفنة هامدة من الرمال. و النبي بشر بالانسان «و لقد كرمنا بني آدم» و حارب الوثنية لأنها كفر به و ارتداد الي تأليه مظاهر الوجود الخادعة، و جاء بتوحيد الالهة لأنها كلما تعددت فقد تلاشي الانسان في ساحتها.

و ما انكسف قمر الانسان في أمة و ارتدت بعبادتها الي تقديس الطبيعة دون الانسان، الا هوت مضمحلة و كان ذلك أول علائم احتضارها، فان الانسان وحده هو الحقيقة الكبري في الحياة و الوجود (فقد خلقه الله علي صورته).

و القوة - يا هذا - كيفية لا كمية، و ليست كما هي في مرآة الوجود بل كما هي في وجدان الانسان، و الظفر دائما يكون بخيال القوة و مبالغاتها في النفس «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله». (فوالله لو قذف بنا النبي الي برك الغماد و الي كل مدائن كسري و قيصر ما ونينا و لا نكلنا) و نحن أيضا لابد ظافرون.

قال سعد بن عبادة: عهدنا بك انك بطل، فها أنت حكيم أيضا...

قال المقداد: ان البطولة معرفة الانسان نفسه، فاذا برزت في العمل قيل عنها بطولة، و اذا برزت في الفكر قيل عنها حكمة. فالبطولة حكمة صامتة، و لن يكون المرء بطلا الا اذا سبق و عرف نفسه أي كان حكيما، و النبي سبق و عرفنا بانفسنا فلا جرم أن كان كل أتباع محمد أبطالا.

و بيناهم علي تبسطهم في الحديث، عرض راكب مجد يغذ الخطي غذا، و حين حاذاهم قام اليه الجمع و حفوا به ملقين اليه رؤوسهم.

و قالوا بلهجة المنتظر: ما وراءك؟ و كان هو الرسول الذي بعثه النبي بالكتاب الي كسري.


قال الراكب و قد ألوي رأسه حتي حاذي رؤوسهم: ان كسري بلغت به حماقته أنه مزق كتاب رسول الله مستخفا حانقا، فما أتت عليه ليلته سالما عدا عليه ابنه فقتله، و قام مقامه و شمل الناس كافتهم نوع بل انواع من الذهول و الدهشة و الاضطراب، و تركتهم و هم يموجون كالآذي العرم.. فتعلقوا بمساءلته من كل جانب، و لكنه حث مطيته و انطلق يسير، فانقلبوا الي بعضهم يتعجبون.

قال سعد بن عبادة: لقد صدق المقداد و الله حين قال، ان الايمان اذا خبا، حل محله جهل الانسان قيمته.. و المثل العليا و المعنويات الخالدة و هي تنبع من معرفة الانسان بنفسه لا يعود لها وجود في جوه و فضائه، فيسيطر عليه نوع حاد من التفاهة يقعد به عن المجد و نوع حاد آخر من الملال يهبط به الي الرغام. و فيما نقل الينا الرسول الآن من حال الفرس شاهد جد خطير؛ فهم أمة جهل الانسان فيها قيمته فلابد أن تعود و لا قيمة لها، رويد أن تشرق عليهم شمس انسانيتنا الجديدة.

و لم يكن طويلا حتي خفوا بعضهم في اثر بعض و وافوا المدينة، و كان الناس يموجون موجا، فقد هبط ايضا الرسول الي قيصر و هو ينقل مقدار احترام قيصر للكتاب، و هبط سائر الرسل الآخرون ينقلون مثل ذلك. فباركهم النبي و نادي المؤذن «حي علي الصلاة حي علي الفلاح» فاستوي النبي في مصلاه و خف الناس ينتظمون صفوفا.

قال قائل لآخر و قد توجه الناس يكبرون بالصلاة: اني ليستخفني شعور عنيف أنا معه جد مغتبط، فقد طفرنا الي قمة التاريخ و غدونا أولي فكرة اسمي ما يكون الفكر، و أولي مجتمع أسمي ما يكون المجتمع. و انه سيظل لنا تذكاران خالدان: يوم الهجرة و هو تذكار نجاح النبوة، و يوم الرسل او السفراء و هو تذكار نجاح الدولة. «و جاء حسين يشتد بين الصفوف و قد سجد النبي يصلي فالتزم عنقه فقام و أخذه بيده فلم يزل يمسكه حتي ركع»...

مضت سنة سبع و أهلت سنة ثمان، و كان الحسين قد شارف الرابعة


او عبرها، حين اتجه النبي لدك آخر معقل من معاقل الاوهام (مكة) التي هوت بالانسان الي درك التاريخ و ملأت أجواءه بالاساطير، حتي انقلب معها و هو أسطورة حية، و انقلبت دنياه التي يحياها و هي حياة في اسطورة.

هبطت جموع النبي مكة من كل صوب و دلفوا اليها من كل حدب، و برز النبي كالنسر الطائر و هو رمز فكرة و تفوق، و سار حتي دخل البيت، و من أية جهاته أوهام متجسدة «أصنام» عبدها الانسان، فكان يشير اليها بيديه كلتيهما و يهتف بكلمة الله القارعة «جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل كان زهوقا». فهوت مكبة و غاب رجع صداها في الغور السحيق، و تمجد الحق يوما في دنيا الانسان، و عرا الناس جلال الموقف، و راحوا في يقظة استغراق كانت واعية، و جري علي لسان فضالة الليثي:



لو ما رأيت محمدا و جنوده

بالفتح يوم تكسر الأصنام



لرأيت نور الله اصبح بيننا

و الشرك يغشي وجهه الاظلام



و حشدت قريش أشابات أشابات، و راح النبي يخطر بينهم، و رؤسهم قد ساوت الصدور.

فقال: ما تروني فاعلا بكم؟

قالوا: اخ كريم و ابن اخ كريم!

فقال و قد جمع نبل الانسان من اطرافه: اذهبوا فأنتم الطلقاء!...

و ردد الصدي في كل مكان «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، الذي كان اعلانا للبشرية بان هذا يوم حريتها. فلم تكن حرب النبي عتوا و اضطهادا و قد وجد سبيله اليهما، و انما كانت خلاصا و تحريرا لكي يتنفس الانسان بمل ء رئتيه في العراء...

و تردد في الدهر أن محمدا أطلق القفير، و كسر قيوده...

و راح الفراش يطن في الحقول تتحاضنه أيدي الزهرات.


قفل النبي راجعا الي المدينة و قد ازدهت ببهجاتها، و اصبحت و في كل بيت صدي فرحة انطلقت متماوجة و كبيرة، و كان النبي يلبي دعواتهم و يشاركهم مراح الظفر و فخاره.

قال يعلي بن مرة: «خرج رسول الله الي طعام و انا معه، فاذا حسين في السكة مع غلمان يلعب. فتقدم النبي امام القوم و بسط يديه، فجعل الغلام يفر هاهنا و هاهنا، و جعل رسول الله يضاحكه حتي اخذه، فوضع احدي يديه تحت قفاه و الاخري تحت ذقنه و قبله، و قال:

حسين مني و انا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، و حسين سبط من الاسباط».

نحب النبوة لانها خلود للذات...

و في الحسين كان النبي يري خلود ذاته...

فلاجرم ان كان يغمره بهذا الحب لانه استمرار ذكري النبوة...

ضمه اليه مليا بين الحب و المجد...

و حنا طويلا عليه بين القلب و الفكر...

فكان له من قلبه و فكره جميعا...

و ظل أبدا رمز مجد شامخ، و قبلة حب كتنفس ازهار السحر و عبق الخلد!...

الحب شعور الي شعور، و خفقة قلب الي خفقة قلب...

و الشعور جوهر فرد ليس ينقسم...


فكان حسين منه و كان من حسين!...

اذهبوا فأنتم الطلقاء!...

خطاب لقريش مشيرا الي كل انسان في كل مكان...

ليقف شاعرا بوجوده علي حطام الاغلال و رفات ارباب القيود...

فهذا صوت من السماء يؤذن بالحرية و ينادي بالخلاص...

اذهبوا فأنتم الطلقاء!...

كلمة صدرت من رسالة محمد و بيت محمد...

فكانت ايذانا بان موكب الحرية من هذا البيت يسير، و في الطليعة ابدا يكون...

و طبيعة الطليق، لا تجعله باعباء هذا الامر خليقا!...

فأبناء الاسار ينطبعون علي شهورة الأسر!..

فقد عششت القيود في روحيتهم و تولدت منها عقليتهم!...

و لكن حاول الطليق الانتهاز و كان...

فعادت قيود السجن و السجان...

فحمل حسين - هو راموز بيت الحرية و حارسها - الشعلة المقدسة الي كل مكان...

فقد سمع زمجرة تحرق الأرم من وراء القبور، فأعلن النكران...

و هب تحت صوت الواجب يغالب البحران... و هو و ان لم يكبح جماح الطغيان...

فقد ترك فب جنبه ثورة البركان...



پاورقي

[1] و معني اجتماع قوي التاريخ الراکدة في الفکرة ان تشتمل الفکرة الجديدة علي کل الضرورات الاصلاحية سواء في الاخلاق و الحياة و الاجتماع، و مثاله: ان القوي التاريخية التي ظهرت في دولة فارس ثم تخلفت، و کذلک في دولة الرومان و دول الارض اذ ذاک، وجدت سبيل ظهورها و قابلية انبعاثها في الفکرة الجديدة التي دل عليها النبي محمد، فانبعث فيها کل قوي التاريخ التي کانت قد رکدت في الامم حينئذ، و کذلک کل فکرة في کل دور لا تملک قوة الامتداد و الحياة و السيطرة الا اذا کانت فيها قابلية لا نبعاث القوي التاريخية فيها التي تخلفت في اوضاع الامم الاخري.