بازگشت

نظام الحكم


نتعرض لصعوبة حقيقية حينما نريد أن نحدد من أي نوع من أنواع الحكومات كانت الحكومة الاسلامية في أطوارها الاولي. و لنكون أكثر قصدا في بحثنا يحسن أن نقدم بين يدي الموضوع توطئة في الدولة [1] و وظائفها علي ما هو معروف عند علماء السياسة.

يري ارسطو أن أنواع الحكومة تتمايز بعدد الاشخاص القابضين علي زمام


السلطة، فالدولة التي يدير شؤونها فرد واحد تسمي ملكية، و التي يدير شؤونها جمهور الامة تسمي جمهورية، و التي يدير شؤونها جماعة قليلة تسمي ارستقراطية.

و هذه الانواع الثلاثة اذا كانت الدولة صالحة أي كان الغرض منها رعاية مصالح الامة؛ فاذا ظهر فيها الفساد، و أصبح هم الحكام تحقيق مطامعهم الشخصية، سميت الحكومة من النوع الاول استبدادية، و من النوع الثاني استئثارية، و من النوع الثالث حكومة الغوغاء. ثم يذهب الي ان هذه الأشكال تتعاقب علي الدولة الواحدة في سنة اجتماعية دائمة تقريبا. فالدولة تكون في بدايتها ملكية صالحة، حتي اذا فسدت طباع الملك انقلبت استبدادية، غايتها تحقيق شهوات الحاكم، فاذا تغلب عقلاء الامة علي الملك و تقلدوا زمام الاحكام أصبحت ارستقراطية، فاذا خلف من بعدهم خلف و جهتهم الاستئثار بالسلطة و المنافع تحولت الي حكومة استئثارية، فاذا هبت الأمة لتذود عن مصالحها و تولت أمورها بنفسها أصبحت جمهورية، فاذا جاوز الافراد حد المعقول في استعمال السلطة و تنازعوا أمرهم بينهم اضحت الحكومة فوضي، و في هذا الظرف تعود الي الملكية كما بدأت. و قد كانت الثورة الفرنسية مصداق نظريته من كل الوجوه.

و ذهب مونتسكيو الي أن الحكومة لا تخرج عن أن تكون ملكية أو جمهورية أو استبدادية، فالملكية عنده ما تولي الحكم فيها فرد بمقتضي قوانين ثابتة، و الجمهورية ما كانت السيادة فيها للامة أو بعضها، و الاستبدادية ما كانت السلطة فيها بيد فرد يتصرف فيها بارادته و أهوائه.

و قسم روسو الدول باعتبار عدد الأشخاص الذين يتولون الأمر، الي ملكية و هي التي يدير شؤونها فرد واحد، و ارستقراطية و هي التي يدير أمورها فئة قليلة، و ديمقراطية و هي التي تستمد سلطتها من عامة الشعب. و الديمقراطية نوعان مباشرة و هي لا تكون الا في الجماعة القليلة العدد المحدودة المطالب و الحاجات، و غير مباشرة او نيابية.

و زاد بعض كتاب الالمان نوعا آخر أسماه الثيوقراطية و هي التي يستمد فيها الحاكم نفوذه من السلطة الالهية.


و هناك نظريات مختلفة في وظيفة الدولة و هي ترجع الي ثلاث، اذا نحن أبعدنا النظرية الفوضوية التي ترمي الي القضاء علي الحكومات باختلاف أنواعها.

(1)النظرية الفردية: و هي ترمي الي قصر عمل الحكومة علي رد الاعتداء عن الأفراد؛ فعملها سلبي، و تكون وظيفتها الخارجية المحافظة علي سلامة الدولة من الاعتداء، و وظيفتها الداخلية المحافظة علي الامن العام، و كل عمل تأتيه وراء ذلك يكون خروجا عن الاغراض التي وجدت لأجلها. و كان سبنسر من أكبر ذعاة هذه النظرية، و قد انتشرت في أواخر القرن الثامن عشر.

(2)النظرية الاشتراكية: و هي ترمي الي ضرورة تدخل الحكومة في جميع الأعمال، توصلا الي زيادة هناءة الفرد و رفاهيته؛ و أصحاب هذه النظرية يهتمون بالحرية الفردية أيضا، و لكنهم يرون ان صيانتها أتم من طريق تدخل الحكومة، و لم يتفق أنصار هذا المذهب علي مدي تدخل الحكومة في شؤون الافراد، فهناك متطرفون و معتدلون.

(3)النظرية المتوسطة: و هي ليست فردية بحتا و لا اشتراكية بحتا.

و الآن نتناول حكومة النبي (ص) و حكومة الخلفاء، حتي نقع علي الشبه الذي يردهما الي نوع من أنواع هذه الحكومات المذكورة.

نعلم أن النبي (ص) جمع السلطة الزمنية في يديه، الي جانب السلطة الدينية، فكان مصدر السلطات كافة. فحكومته علي ما وصل الينا من أخبارها ثيوقراطية في جوهرها، و ديمقراطية من حيث ان الأفراد كانوا يبايعونه علي اسلام الامر اليه و مده بالسلطة. و هذه المبايعة انتخاب آكد من التصويب، و كانت ثيوقراطية من حيث الصفة التشريعية.

و ديمقراطية حكومة النبي (ص) من النوع المباشر، و هذا ما يعطيه قوله تعالي: «و شاورهم في الامر»، و كانت من حيث الوظيفة أكثر انطباقا علي النظرية المتوسطة؛ فهي تحافظ علي الامن العام، و تدافع عن سلامة الدوة الفتية، و تشجع العمران و ما اليه من كل ما يتصل بالعمل الحكومي الايجابي.


و اما في عهد الخلفاء فقد عرف نظام جديد للحكم يقوم علي فكرة الخلافة؛ و الاساس الذي تقوم عليه هو أنها عقد حقيقي بين المنتخب و بين الجمهور، و ليس أمعن في الديمقراطية من أن يتعاقد طرف مع آخر علي شروط معينة، بحيث اذا اخل أحد المتعاقدين بالشروط انحل العقد. يري روسو، في نظرية العقد الاجتماعي، أن أساس الحكم فلسفيا هو عقد بين الجماعة و بين شخص، علي أن يتولي حكما لمصلحتها. و روسو لم يجلب شاهدا واقعيا علي دعواه، و انما استند فيها الي الفلسفة المحض؛ و في الخلافة شاهد واقعي صريح.

و الذي نعلم من أمر الخلافة أن المبايعة شرط ضروري فيها، فهي اذن قائمة علي الانتخاب، و أن الخلفاء الأربعة ليسوا من أسرة واحدة فهي اذا لا وراثية؛ و وجدت بينهم طبقة دعيت بأهل الحل و العقد، و يظهر من اسمها أنها كانت ذات نفوذ كبير في الشؤون كافة، مما يجعلنا ننظر اليها كطبقة برلمانية، و ان لم تكن لها الأشكال عينها، فان العبرة بالروح لا بالحرفية.

فالخلافة من هذه الناحية ديمقراطية لها شكل الملكية، و ديمقراطيتها كانت غير مباشرة، أو نيابية بعبارة اكثر مجازية. فان طبقة أهل الحل و العقد كثيرة الشبه بطبقة النواب، لانهم كانوا في موضع الثقة من الطبقات الاسلامية كلها. و بقيت هذه الصفة لحكومة الخلفاء الي زمن عثمان (ض) الذي حفت به طبقة حاكمة من اسرته، مالت بالحكومة الي الارستقراطية، و كانت وجهتهم الاستئثار بالمنافع، فان سياسة مروان الذي أطلق يده في حكومة عثمان كانت نفعية محضا. و بسبب هذا هبت الامة لتذود عن مصالحها، فأحدثت الثورة التي انتهت بمصرع الخليفة، و تولت أمورها بنفسها في عهد علي [2] ، فكان المنتخب الجمهوري بدون وساطة أهل الحل و العقد، فقد بايعه، أول من بايعه، الاشتر الثائر؛ و بذلك كانت حكومته جمهورية بكل المعني.


و كان، كما يظهر من عهده الي الاشتر، يميل، في وظيفة الحكومة، الي النظرية الاشتراكية الخالصة، فاننا نجده يوجب علي الحكومة التدخل في كل ما من شأنه أن يؤدي الي ضرر اذا ترك لحرية الأفراد، كالضرب علي أيدي المحتكرين و تسهيل السبيل للتاجر المغامر، و هو الذي عبر عنه بالمضطرب بماله، و أوجب الاصلاح العمراني و الزراعي في مقابل الضرائب. و لكن هؤلاء الجمهوريين جاوزوا الحد في التدخل، و تنازعوا أمرهم بينهم فظهرت الفوضوية - التي يقول عنها ارسطو - في الخوارج الذين قالوا: لا حكم الا الله أي لا امرة الا لله، و بذلك أعدوا الظرف الي الملكية.

من هذا نتبين أن في تسلسل الحكومة الاسلامية التي ابتدأت بالنبي (ص) و انتهت بعلي (ع) مصداقا من بعض الوجوه لنظرية أرسطو في تعاقب أنواع الحكومات. فلم يكن لدولة الخلفاء صفة واحدة، كما يظن أكثر المؤرخين، بل تشكلت بأشكال شتي، علي ما ذكرناه، فكانت:

(1)الهية «ثيوقراطية» لها شكل الديمقراطية في مدة حكومة النبي (ص)، و من حيث الوظيفة متوسطة [3] .


(2)ديمقراطية لها شكل الملكية، في مدة حكومة أبي بكر و عمر (ض)، و من حيث الوظيفة متوسطة.

(3)ارستقراطية لها شكل الجمهورية، في مدة حكومة عثمان (ض)، و من حيث الوظيفة متوسطة.

(4)جمهورية بحتا، في مدة حكومة علي (ع)، و من حيث الوظيفة اشتراكية.

(5)فوضوية، في حكومة الخوارج الي ما قبل تأمير [4] عبدالله بن وهب الراسبي.

و لان مهمتنا هنا وصفية خالصة؛ فلا نغتر بكلمتي: خلافة و خليفة اللتين اطلقتا علي هؤلاء الاربعة، فنصف حكومتهم بصفة واحدة باعتبار وحدة الاسم كما وقع لجمهور المؤرخين. ان الحكومة، في عهد الخلفاء، تشكلت بأشكال اجتهدنا بردها الي شعبها بالمقدار الذي وضح لنا. و محاولتنا هذه لا تعدو أن تكون تطبيقا لنظرية أرسطو من أكثر الوجوه.

و في الخلافة نظريات دينية قامت علي أساسها فرق شتي في الاسلام، و لم تزل الي آخر العهد الكلامي موضعا للأخذ و الرد، حتي عقد المتكلمون لها بابا خاصا، و دعوه بالامامة، و لما تزل محلا للخلاف من وجهة النظر الديني؛ و نحن هنا لا نتعرض لشي ء منها، لئلا تجرنا المناسبة الي مناسبة أخري نخرج بها عن الموضوع خروجا كليا.


پاورقي

[1] راجع کتاب: تاريخ الدستور للاستاذ وايت ص 47 الي ص 174.

[2] لم يکن نفوذ الجمهور في دور اقوي منه في هذا الدور، و ظهر اثر قوة الجمهور في اکراه علي (ع) علي التحکيم يوم صفين، و في التصميم علي الايقاع بالبصرة يوم الجمل رغم ان رأي علي اتجه الي مطاولتها، و في اعتزال الخوارج بعد التحکيم و حروبهم.

[3] کان في دولة النبي (ص) تشريع ضاف للاسرة و هو ما نسميه اليوم (بقانون الاحوال الشخصية) حفص علي الزواج الذي هو الطريقة الوحيدة للتکثير القومي، و بين موانعه، و وضع قانون الرضاع و العناية بالطفل و الايتام، و قانون الطلاق و الارث، و ورث الطفل المستکن، و لم يکن العرب يورثونه؛ و تشريع في المعاملات و هو ما نسميه (القانون المدني) و يدور علي (أ) العقد الذي هو اساس المعاملات الشرعية (ب) طرق الاثبات کالشهود و الکتابة و الرهن (ج) عرض للمعاملات الرئيسية کالبيع و تحريم الربا و الغش و التدليس و التطفيف و بيع الغرر، و وضع آدابا للمداينة کالرفق بالمدين (و ان کان ذو عسرة فنظرة الي ميسرة) و سن التأجيل الجبري للديون (المورتوريوم). و سن (قانون العقوبات) و سماها القرآن حدودا. و المنصوص عليها في القرآن اربعة (أ) القتل مع تفصيل في العمد و غير العمد، العمد جزاؤه القتل. (ب) عقوبة السارق. (ج) عقوبة قطع الطريق. (د) عقوبة الزنا و عقوبة القذف و اللعان؛ و هي عقوبات قاسية وضعت للزجر القاطع و کل ما اوصل الي هذه الغاية من عقوبات يقوم مقامها، کما ذهب اليه بعض الفقهاء علي ما ذکره السرخسي في المبسوط، علي ان الشريعة اشترطت شروطا شديدة في اثبات العقوبة، کما ترکت العقوبة للشبهة البسيطة اي فسرتها في مصلحة المتهم؛ و ما سوي هذه الحدود تسمي (تعازير) و هي متروکة الي تقدير الحاکم؛ و علي کل فالعقوبات مراعي بها المکان و الزمان، کما يظهر من اختلاف الفقهاء.

[4] قال ابن ابي‏الحديد (ان الخوارج، کانوا في بدء امرهم، يقولون: لا حکم الا لله اي لا امرة الا لله؛ و يذهبون الي انه لا حاجة الي الامام. ثم رجعوا عن ذلک القول لما امروا عليهم عبدالله بن وهب الراسبي) راجع شرح النهج له ج 1، ص 215.