بازگشت

نظرية


لكي نكون أكثر فهما للنظام في عهد الخلفاء، من شتي نواحي الادارة و الحكومة و القضاء فيما يتعلق بالتفصيلات، نقدم بين يدي الموضوع نظرية لها أهيمتها لأنها كالقطب الذي يدور حوله الموضوع، و علي ضوئها نتهدي الي شرح خفياته. و أظن بأن كثيرين يشاركونني الرأي فيها.

و هذه النظرية هي أن الثورة الاصلاحية التي وضع النبي (ص) تصميمها، ثم أذكاها في المجتمع العربي الواسع علي حدوده، لم تدخل في صدور استقرار حقيقي. بل اتصلت عبر الحدود الي الاقاليم القريبة و الشعوب المجاورة، و كذلك اتسعت دائرتها في حركات تعاقبية سريعة، و ما انتهت الي سكون طبيعي الا بقيام الدولة الاموية. و معني هذا أن الثورة الاسلامية كان لها دوران، الاول حين الهبها النبي (ص) في جزيرة العرب، و الثاني حين الهبها الخلفاء في العالم القديم كله؛ و بانتهائها انتهي عهد الخلفاء.

و من طبيعة التنظيم، فيما يتعلق بالاجراءات و التفصيلات، انها لا تتم الا بعد الاستقرار، ضرورة ان الادارة و التنظيم التامين عمل تشييدي لا يكون في فترة الفتح و التوسع الا بمقدرا الحاجة و الضرورة. و الفرق بين معاطاة الفتح في عهد الامويين و بينه في عهد الخلفاء، ان الاول كان من جملة أعمال الملك المتمركز،


بينما الثاني كان كل عمل الخليفة.

و هذا يوصلنا الي أن التنظيم الكامل لم يتم في عهد الخلفاء، لأنهم لم يستقروا في حياة مدنية خالصة تدعوهم اليه، علي انهم قطعوا أشواطا في سبيل التنظيم العام. و لا يتوهمن متوهم حينما نتكلم عن النظام اننا نعني الناحية التشريعية التي كملت بالقرآن، و انما نعنيه من الناحية العملية الاجرائية أي من ناحية التشكيلات و التراتيب خاصة.

و ان الواقف علي الكتب التي عنيت بهذه الناحية من الدرس، باب الماوردي الموسوم بالاحكام السلطانية، يقع علي تجربات تقنينية و محاولات تنظيمية تمت في عهد الخلفاء، الا أنها لم تجاوز هذه الصفة أي لم تنسق علي وجه يسمح لنا باطلاق اسم النظام عليها الا في توسع و مجازية. و هذه المحاولات و التجربات ألهمت ذوي العقليات القضائية العميقة أن يقدموا دستور النظام العام بكافة ما يلزم فيه. و مما لا ريب فيه أن عليا (ع) كان صاحب اكبر عقلية قضائية نظامية في هذا العهد، فهو قد استفاد من كل ما مر بالحكم العربي الاسلامي من أشكال، و أيضا لمس حاجة المجتمع من وجه، و محاسن المحاولات التي حاولها الخلفاء قبله و مساوئها من وجه آخر. فقدم دستوره التنظيمي العظيم، في عهده الي الاشتر النخعي، بعد الاختمار و الامتحان الواقعي.

و هذا العهد يشك فيه بعض الباحثين مستندين الي أن الأفكار النظامية التي يحتويها لا تسمح باضافتها الي عصر علي (ع)، و مما ذكرنا نتبين بأنه لا محل للشك، لأن عليا موهوب في القضاء و الادارة ما في ذلك شك، حتي قيل: «قضية و لا اباحسن لها»؛ و لقد اهتم المشترعون بعد ذلك بجمع اقضيته و أحكامه و تنظيماته، فألف الترمذي كتابا في مجلدين دعاه «اقضية علي»، و الف ابن قيم الجوزية كتابا في «السياسة الشرعية» ملأه بأقضيته، فهذا يدلنا علي أن عليا كان يمتاز بعقلية نادرة في القضاء المتصل بالتنظيم. و لأن المحاولات التي صدرت من ابي بكر (ض) جاء عمر فحور فيها، و عمر (ض) كان أكثر تشبثا بالتنظيم و ميلا


اليه، فكثرت في عهد التشكيلات نوعا ما، ثم جاء عثمان (ض) فأقر نظما و غير نظما و استحدث مثل ذلك، و علي (ع) يرقب كل هذا التطور النظامي و هو متصل بالشعب يري مقدار رضاه عن هذه الترتيبات، فاستفاد من هذه المحاولات التي مرت به الي ما عنده من فطرة قضائية خارقة. و بذلك استطاع أن يطابق بين أماني الناس، و بين النظم التي تحكمهم، و ان يعطي أيضا تشريعات اصلاحية تتصل بالاجتماع و السياسة و النظام العام، فاذا كان النبي (ص) هو المشرع القانوني، فان عليا (ع) هو المشترع [1] النظامي.

فعهد علي الي الاشتر النخعي ليس فيه ما يدعونا الي الشك فيه أو استبعاده عنه؛ و هو أول دستور حكومي صدر كمرسوم في الاسلام. و يظهر من هذا العهد أن عليا (ع) كان يرمي، في مدة خلافته، الي أخذ الشعب الاسلامي الذي تركب بما شمل من الامم المختلفة بعمل تشييدي عظيم، و كان عملا موفقا جدا و نظاميا جدا، لانه الطلب بأدواء المجتمعات من النواحي التشريعية. و لكن الثورة الداخلية التي اثيرت عليه، و دارت حول شخصه، أعجلته و أوقفت كل حركاته الاصلاحية التي ابتدأها بحزم و شدة.

و أهم نواحي النظام التي سندير البحث عليها هي: نظام الحكم، نظام المال، نظام الادارة و القضاء، نظام الجندية.


پاورقي

[1] انما عبرنا بمشترع، و ان کانت صيغة اشتراع غير محفوظة، لان غرضنا ان نضيف الي التشريع معني الاقتباس الذي يستفاد من صيغة افتعل.