بازگشت

اسباب و نتائج


ثبت العرب علي شكل بدائي من اشكال الاجتماع و هو ما يعبر عنه بالقبلية، بحكم البيئة الجغرافية التي فرضتها الطبيعة في جزيرتهم. و كانت هذه القبلية واجبة من حيث انها اقصي ما يمكن ان تسمح به طبيعة الارض التي يعيشون فوقها، فهي لا تمدهم باكثر مما يتسق مع هذا النظام.

و نجد عند الأخذ في هذا البحث مسألتين لابد من فهمهما قبل كل شي ء، و هما القبلية، و ثبوتها كشكل نظامي كافل للمجتمع الخاص.

اما أولاهما، فانها ظاهرة تطورية لابد لكل شعب ان يمر بها في اثناء رحلته الاجتماعية الشاقة، و لكنه لا يلبث حتي يزايلها بما يمده الاقليم من اسباب النماء، و بما يجمع له من عوامل النضج شيئا بعد شي ء. فالانتخاب و بقاء الاصلح في الاجتماع يتبعان المكان بأكثر مما يتبعان طبيعة البناء و الدم او العنصرية [1] .


علي ان المفروض في العنصرية انها تنتقل من حالة التجانس الي التنافر او عدم التكافؤ بفعل الموضع وحده، ثم تثبت الفروق العرقية كطبيعة بتعاقب التاريخ و تلبد الصفات، فتبدو المفارقة حينئذ بصورتها المركبة كأنها ذاتية. فنحن هنا لا ننكر ما للعنصرية من خاصية في حالات الاجتماع العليا، و انما نميل بها الي التحديد حتي لا تصطنع لدي تحليل الخاصيات الادبية و العقلية في ابسط ما تكون بساطة.

و اما ثانيتهما، و هي ثبوت القبلية في محيط العرب علي انها شكل اجتماعي


كامل الارتقاء، فانها ترجع الي تأثير [2] البيئة الطبيعية التي تعهدت العرب بالانماء و التطوير. و بذلك كانوا ابعد الامم عهدا بهذا النظام و تراوحا عليه، و كانوا الي ذلك اكثر الناس شعورا بآثاره من حيث ان مجتمعهم استوي في حدوده، ثم لم يجاوز قواعده الا بمقدار لا نسمح لانفسنا ان ننعته بشي ء وراء الاندماج القبلي الجزئي.

فالذي نرغب في تعليله الآن، ليس هو تمذهب العرب في ماضيهم بالمذهب القبلي، لانه سنة تكاد تكون طبيعية او هي طبيعية بالفعل. و لكنما هو استقرار هذا النظام لديهم بحيث كان ظاهرة لازمة، لها ابلغ مساس بتصريف حياة العرب و تلوينها، و هذا ما نعلله بالبيئة الجغرافية.

و الذي نعرفه من تكوين تلك البيئة، انها مجموعة من السهوب و الصحاري، ينحسر البصر دون ان يتناهي في انتظام ارجائها، تكسوها طبقة رابية من الرمال الملتهبة التي تنديها الشمس بلعابها الحرور، و تتخللها جبال كثيرة و أوداء كثيرة مختلفة الخصوبة تتناثر بين هنا و هناك.

فطبيعة كهذه لم تكن لتسمح للعرب بالزراعة - و هي مقدمة القومية - الا في حد محدود و في بعض الانحاء، و لم تكن تساعدهم الا علي ان يكونوا قبائل رحلا ينتقلون حيث الماء و الكلاء. و عندي ان العمل في الارض بالزراعة [3] باعث لكل شعور بالوطن اذ يورث الانسان عشقا مبهما للارض التي تهبه كل ما يحتاج اليه من مقومات الحياة، و تدعوه للاندماج القومي الصحيح.


فنحن مهما بالغنا في تفتيش شعر العرب فلن نقع علي شي ء من الحنين [4] الي الارض كالذي نجده عنه الفلاح الروسي مثلا، و لن نقع بين دموعه المنظومة علي دمعة واحدة ارسلها في وداع الحقل، بينما نجد شيئا كثيرا من هذا الحنين و هذه الدموع يبثها ابله و خباءه لانهما كانا اكبر مقومات الحياة لديه.

فلم يكن العربي فلاحا لان بيئته لم تهي ء له ما به يكون كذلك، و ان اتباعه القطرة من المطر حيث تحل جلعته منتجعا رحالا و اورثته الاضطراب في كل سهل و حزن، و دعته للاندماج و لكن في حدود القبيلة التي يتصور فيها ان ترحل جميعا و تحل جميعا.

و هذا التكوين الطبيعي لسطح الجزيرة يرينا كيف استطاع العربان ينتقلوا من الاشكال البدائية الاولي و يقفوا عند النظام القبلي الذي هو اسمي ما تمنحه بيئة علي هذه الشاكلة. ثم توالت الحياة بالعرب و هم علي سنة هذا النظام فثبت في نوع من الارتكاز. و ان اضطرار العربي تحت عامل الطبيعة ان يتبع مساقط الغيث و مراعي الكلأ من حين لآخر، لم يهيئة ابدا للتحول عن شكل نظامه الاجتماعي. و ساعد عليه ايضا قيام حياتهم علي الانتقاص و الغزو من حيث انه ارث القبيلة و جعل منها عصبية حقودا فكانت بينهم تراث و ثارات لا تفتأ تهيج بهم علي الدوام.

و يظهر لنا من هذا ان العرب ظلوا علي النظام القبلي بحكم البيئة، و ان


التحول عنه لا يتم الا باستعداد الموضع للزراعة، و ان اساس كل قومية ثابتة يستند استنادا كبيرا أو كليا الي صلاحية الارض لتكون زراعية. و قد نجد البرهان علي هذه الدعاوي في تحول عرب اليمن و اطراف الجزيرة الي فلاحين، قد عكفوا جيدا علي الارض التي نعتوها بالسعيدة، و اختصوها بنوع من الحب و التعلق و الأمل، حتي ظهرت اشكال من امانيهم الزراعية في ديانتهم، فألهوا النخيل [5] في بعض انحاء اليمن، كما أله العرب الآخرون في المناطق الجرداء الآبار [6] ، و يذهب ظننا الي ان (زمزم) كان معبودا عند عرب الوادي، و من ذلك اكتسب اسمه الخاص الذي يعطي في السامية معني الارتعاد و الكهانة. و هؤلاء الذين وقعوا في بيئاتهم علي ما يكفل حاجتهم في شي ء من الاستقرار، اتجهوا بابصارهم نحو القومية او فكرة الامة و تلبسوا بما لا ينكر من اشكالها. فالاستقرار لا يقوم الا علي الزراعة، و القومية لا تقوم الا علي هذا النوع من الاستقرار، فحيث كان العرب زراعا كانوا اقرب الي القومية و اكثر استعدادا للتكتل؛ و لذلك عمد النبي (ص) لنقل العرب من رعاة رحل الي زراع، و هي خطوة هامة في التحضير و القضاء علي القبلية قضاء حاسما، فقد قال «خير المال سكة مأبورة و شاة مو مورة».

و يصدق وجهة نظرنا سرعة تحول [7] اليهود الذين شاركوا العرب جزيرتهم، رغم انهم حاملوا تراث داود و سليمان، الي قبيلين فيهم من عصبيتهم و حماستهم، و فيهم من كل ما يتصف به القبلي الخالص. و لا يخالجنا شك في ان


البيئة امتصت من افكارهم ما لا يتسق مع وضعها، و ما انكفت تنفث فيهم حتي تفسخوا و ارتدوا الي القبلية الدنيا.

و هناك سبب خارجي ايضا ساعد علي رسوخ القبلية فيهم، و هو كون العرب غير مهددين بعدو اجنبي يدعوهم الي التكتل القومي، فان الامم المهددة من الخارج تقاوم بفضل الامتزاج و التعاون الذي يجعل من المجموع رجلا واحدا. و نحن اذا علمنا بان العرب كانوا مهددين بعداوة بعضهم انكشف لنا السر في تكتلهم تكتلا قبليا. و قد ظهرت في أواخر جاهلية العرب تجربة من جانب الفرس دعتهم الي نوع من التعاون في غير حدود الحلف و القبيلة، فهبوا يوم ذي قار لدفع عادية الفرس في تضامن جزئي، الا انه من حيث الشعور كان تضامنا حقيقيا. حتي لنجد أثر هذا الشعور علي لسان النبي (ص)، قد اغتبط لانتصارهم و بارك كفاحهم و افتخر به. و هذا شي ء يرينا مدي تأثير الخطر الاجنبي في بعث القوميات و انه كبير.

و كان لهذا التركيز الطبيعي آثار بالغة في مذاهب ميول العرب النفسية، فقد صبها صبا فولاذيا، و اضاف الي طبيعتهم عنصر الجمود و الثبات، و افقدهم قابلية التحول و التغير، هذه القابلية التي هي مدار كل تطور و تكامل. و قد سبق لنا في بحث دواعي الاسراع أن عددنا في جملتها اهلية الشعوب للحصول علي صفات جديدة، و قلنا انه لابد لدوام الارتقاء من قدرة الشعب علي تحقيق التوازن بين تحوله و ثباته، و الا فهو مساق الي التصلب الذي يفقده الحيوية و المرونة شيئا بعد شي ء.

فالمحافظة المتزمتة، و الانفصالية المتطرفة يفضيان الي نتائج واحدة، هذا من جهة التصلب، و هذا من جهة الانحلال. و كذلك كلما زادت نسبة الثبات في الشعب وقف، و كلما اشتدت به الحركة فقد تماسكه و تبعثر.

فكان الجمود ظاهرة واضحة في قابليات العرب الاولين نتيجة لهذا التركيز القبلي الطويل، و قد انعكس اثره في بناء الدولة التي لم تقم علي تطهير نفسي شامل، فأدي الي زوالها في الجهات كافة من اندلسة الي المغرب الي الشرق. و هذا طبيعي ما


دام الائتلاف لم يقم علي تهذيب اجتماعي صحيح، بل ضمنته القوة وحدها، و سرعان ما ظهرت فيه الفتوق بانحلال الرباط الوقتي. و اي شعب يقوم علي مثل هذا الائتلاف، بمجرد انحلاله لا يستطيع ان يستعيده مرة أخري، لانه يفقد القابلية الشعبية للائتلاف.

و انا اعترف هنا بان التبعة الجسيمة تقع علي عاتق الامويين الذين ألهبوا [8] حماسة القبيلة و استغلوها؛ فقد كان هذا جزءا من سياستهم، الا انه صدع بعد ذلك بنيان دولتهم المطبوعة علي غراره، و صدع بناء الدولة عموما.

و يجب ان يفرق جيدا بين القبيلة في العهد الجاهلي، و القبلية في عهد الامويين؛ فان الثانية كانت تفاخرا و عصبية بالانساب و الاصول، بينما كانت الاولي قبلية تنظر الي القبيلة بانها رمز المصالح التي اهمها البقاء؛ هذا النظر لم يعد الحادي علي العصبية في عهد بني امية، فقد اتسع افق نظرهم و شعروا بالدولة و انها معقد المصالح و مصدرها، و لكن نفوسهم بقيت منحنية علي ما فيها من ادران.

و هذه ملاحظات دقيقة جدا و مهمة جدا، من حيث انها تشرح لنا كثيرا من الخوافي، و تعلل طائفة من الظواهر المعقدة، و تصحح اوهام نقدة التاريخ في استعدادات العرب الذاتية و قابلياتهم اللازمة؛ فقط نستطيع علي ضوئها ان نفهم لماذا كان العرب قبليين؟ و لماذا ظلوا كذلك حتي بعد ان شكلوا لهم دولة مبسوطة


الارجاء مختلطة المصالح؟ و بالتالي نتمكن من ان نكشف عن مقدار الوهم الجاثم في نظرية ابن خلدون عن العرب و مشايعيه من مستشرقة الفرنجة.

و وفاء بحق البحث، و ان يكن توسعا و خروجا، اتكلم عن اثر هام من آثار الصراع القبلي الطويل، و هو الامتياز في الكفاح.

فان التنازع [9] علي البقاء يستتبعه ابدا انتخاب الاصلح كما يقول التطوريون، و ان دوام التنازع يزيد الكائن عزما و رصانة و صبرا و صدق نظر في الحياة، الي غير ذلك من عناصر النجاح. و نحن من محيط العرب القبلي امام تنازع لا يعرف الهدنة، و غلاب لا ينتهي او ينتهي الاحياء المتنازعون. و هذا يفضي بنا الي نتيجة مهمة، و هي ان المجتمع القبلي الذي يظهر فيه عمل قانون التنازع علي صورة ابلغ تكون افراده احسن استعدادا للحياة، و اجدر بالنجاح في حومة الاعتراك السياسي و الاجتماعي، من حيث ما يجتمع فيهم من عناصر الامتياز الطبيعي.

فمن اسباب تبريز العرب اذا في الغلاب الذي اخذوا العالم القديم به، و توسعهم السريع فيه بالصورة القوية الهائلة، أنهم الشعب المنتخب بفعل التنازع علي البقاء الطويل، و هؤلاء حينما أخذوا بالتهذيب الادبي الاسلامي و توسعت آفاق نظرهم، اضحوا رجالا ممتازين من كل وجه، و بذلك اعطوا النتيجة التي لا تزال محل دهشة المؤرخين، و من ثم نستنتج أن الشعب القبلي اكفأ دائما في الكفاح و التوسع، و لكنه يضعف [10] عن تعهد الحياة المدينة و توجيهها الا بعد ان


يدخل به في مراحل تهذيبية طويلة، فاذا أهمل من هذه الناحية و ترك لطبيعته، فانه يرتد الي القبلية في حدود اوسع، و من هنا أتي العرب في نظري، و من ثم ظلوا قبليين ايضا.

و نستخلص من هذا ان نظام القبيلة مرحلة اجتماعية، و ان العرب وجدوا في بيئتهم ما يساعدهم علي الوصول اليها، ثم تخلفت بهم طبيعة الارض عن قطعها و بلوغ مرحلة القوميات. و ان كل شعب مهما تكن عنصريته مقضي عليه بهذا النظام و العيش في ظله مادام في حدود بيئة كالجزيرة؛ و السلالة مهما كانت درجتها من السمو فانها، اذا لم تجد في البيئة ما يساعدها علي عمل طبائعها الادبية و الخلقية المكتسبة من تراكم الوراثات، تتقهقر و تسف حتي تتسق مع المكيفات الطبيعية الخاصة. و قد رأينا في موجات العرب القديمة ما يبرهن علي هذا، و رأينا كيف شكلت حضارات مرموقة في بابل و اشور، و كيف اكسبت العرب صفات ادبية جديدة.

و ان التركيز للصفات القبلية، و عدم العناية بمكافتها علي الطريقة التي استنها النبي (ص)، غلب الدولة بآثاره في كل عهد.

و الغريب، في نزعة الدرس الحديث لتاريخ العرب، مبالغة المؤرخين باظهار نظام القبلية بمظهر الدولة او المقاطعة و هو خطأ محض، و لعل الحادي لهم علي هذا التصنع رغبتهم في الظهور بمظهر المدافعين عن الاجتماع العربي القديم. و هم بذلك يسيئون اليه من حيث يظنون انهم يخدمونه، فان معني التسليم بان القبيلة من الناحية السياسية دولة، التسليم بان البيئة العربية تجمع المؤهلات الخاصة بالدولة. و في هذا تأكيد ما توسم به السلالة العربية من انها لا تصلح الا لنوع هذا النظام مهما اختلفت بها البيئة. و الحق ان القبيلة لا يمكن ان تعتبر كذلك، لان من خصائص الوحدة السياسية:

الارض، و الشعب، و الاستقرار، و النظام، و الاشتراك في الآمال.

و من هذا يظهر ان القبيل المتقلقلة لا يمكن بحال ان تعد مظهرا للدولة او المقاطعة، و انما هي أسرة بنظامها و مزاجها.



پاورقي

[1] هذه الکلمة يضعونها في مقابل کلمة (Racisme) و هي تعبر عن فکرة قديمة جدا الا انها عولجت في الماضي علي شکل وصفي خالص و لم تظهر الرغبة في معالجتها من ناحية تعليلية الا في العهد الجديد حين تقدمت بحوث علم الاحياء و التشريح و الاجتماع و الاثار. و اهم من حمل لواء هذه الفکرة و تعصب لها في المانيا الموسيقار الشهير (فاجنر) و في فرنسا (جوبينو) و هذا يعتبر من واضعي اسس النظرية؛ و مؤلفه المامة في تفاوت السلالات البشرية من اشهر ما الف فيها، و في انجلترا (هستون ستورات تشمبران). و هذه الفکرة ترمي الي تقرير ان البشر يتفاوتون في المدارک و العقول و القابيات الاجتماعية و الادبية تفاوتا ذاتيا بين السمو و الاسفاف تبعا العروق و السلالات و تبع هذا التصنيف القول بوجوب تحکم الاعلي بالادني و هم يختلفون اختلافا کبيرا في تحديد هذه العروق بالنظر الي الاصالة و الفرعية و کان اکثر هؤلاء مبالغة في تأييد النظرية و تقريرها علي شکلية علمية استاذ فرنسي يدعي (فاشية دو لابورج) قد ألف کتابا دعاه (الانتخابات الاجتماعية) و قسم البشر الي سلالات جعل علي رأسها السلالة الاوروبية، و انتهي بعد ذلک الي ان لکل من هذه السلالات خاصيات ذاتية متأصلة و ان علي العروق مدار کل تطور و ارتقاء سواء في الفضائل الجسمية أو النفسية. و کان من نتائج هذه النظرية الوبيلة انتحال مذاهب اجتماعية غاية في التعصب کالنازية في المانيا و جمعية (کوکلکس کلان) في امريکا، و محاولة تقرير مبدأ في علم النفس الجنائي يقضي بان مجرد اتهام فرد من السلالة الدنيا کاف في ادانته و تقرير مبدأ عدم التساوي في الحقوق المدنية.

و الحق ان هذه النظرية علي الشکل المذکور خطأ بالغ لان دعوي الذاتية في الخصائص هدم لقانون التجانس الذي يقضي به علم الاحياء و هدم لقانون التطور، کما انها لا تصلح ان تکون مقدمة تعليلية الا في فهم التنافر بين الاشکال الادبية العليا عند الشعوب، و اما الاشکال البسيطة فان تنافرها يرجع الي البيئة الجغرافية و حدها التي هي اساس کل تغاير. فاذا درسنا خاصية حب النظام عند الرجل من السلالة الاوروبية ورقة هذا الحب عند العربي نجدهما يرجعان الي تأثير الموضع من اقرب طريق. فالعربي الذي دأبه انتجاع المرعي المتباعد الشقة لن يجد في الطبيعة ما يهيؤه ليکون نظاميا، و لکننا اذا درينا حب النظام عند الرجل الاوروبي و عند الرجل الالبيني کما يسميه (لا بورج) نجد التفاوت نتيجة للعنصرية التي زاد في رقيها مد التاريخ.

و مما يدل علي فساد نظرية العنصرية، بالنظر الي خصائصها الذاتية، قابلية العناصر المفروض فيها الامتياز للانتکاس، و قابلية العناصر الدنيا لنوع من السمو تدريجا بفاعلية التاريخ. و حکم ابن‏خلدون علي العرب جاء من استناده الي هذه النظرية و ان لم تکن اخذت بعد شکليتها الحديثة.

[2] تأثير البيئة علي هذا النسق مبرهن عليه في کل انواع الکائن، فانا نري في فصائل النبات و الحيوان کيف تزودها فواعل الجو و البيئة بخصائص کان يظنها القدماء ذاتية محضا کشجر الصنوبر مثلا فقد اکتسب قوة الالياف من صموده الطويل امام الزوابع. و ابلغ من هذا في معرض المثل الحيوانات من الفصيلة الواحدة، فانها تختلف اختلافا کبيرا في الاشکال الجسدية و الاعمال العضوية بحسب البيئة فهي بين افريقيا و اسيا و اوروبا تتمايز الي حد بعيد واضح.

[3] واضح ان الاستقرار و عشق الموطن و الشعور الشديد بوجوده نتيجة لازمة للحياة الزراعية، و اري ان تعلق اليهود بالتجارة وحدها کضمان لمقوماتهم الحيوية زاد في تفسخهم و صيرهم شعوبيين و ستجد ظاهرة هذا في قريش، فان التجارة لم تنتف بهم عن علائق القبيلة.

[4] لا يؤخذ علينا بما يوجد في الشعر العربي من الحنين الي الاوطان حتي الف الجاحظ رسالة بهذا الاسم جمع فيها طائفة من الاقاصيص و طائفة من الشعر، لانها دمعة اجراها ذکر الصبا و عهود الانس. و اما الحنين الذي نعنيه فهو تلک العاطفة التي تثيرها الارض باعتبارها شيئا عزيزا يتصل باسباب الحياة حتي ليفضل المرء فراق الحياة علي فراقها. علي ان الشعر العربي يعرفنا ان العربي علق الرياح باکثر مما علق الارض لانها کانت تحمل اليه شيئا من الطراوة و الخفة و النشوة بنسبة لا يجدها في الارض، و انا نکلف الجاهلي شططا اذا طالبناه بشعر العاطفة السامية و شعر الروح، و بيئته تسدعليه المنافذ الي العاطفة و الروح، ان العربي عبر باصدق لهجة عما وجد و شاهد. و اني الفت نظر نقاد الادب الي ان کل شعر للجاهلية يذهب مذهب السمو الروحي او بتعميم اصح کل شعر ينسب للجاهلي و لا تساعد عليه البيئة فهو منحول. و الا فنحن نتهم معارفنا و نؤمن بالمفارقات.

[5] راجع کتاب تاريخ سوريا للمطران الدبس ج 1.

[6] عرف هذا النوع من التأليه في طوائف صحراوية عديدة، و لکن الشي‏ء الوحيد هو دعوي عبادة (زمزم) فليس بين ايدينا نصوص تشايع هذا الظن و تدل علي انه کان معبودا او الاها و انما جل اعتمادنا فيه علي تحليل الاسم و وجود قبيلة کانت تنتسب اليه او تحمل اسمه في بعض نواحي مدين (راجع تاريخ لبنان للآباء اليسوعيين) و هو ظن قريب من حيث ان عبادة الآبار مألوفة و من حيث انه يفسر حقيقة التقليد المروي في الآثار من انه تفجر بغمزة جبريل للارض.

[7] عرض الي تعليل تحول اليهود الي هذه الشاکلة الدکتور و لفنستون في کتابه (تاريخ اليهود في بلاد العرب) و لکنه لم يقع علي شي‏ء يمطأن اليه.

[8] في کتب الادب و التاريخ اقاصيص شتي و اخبار کثيرة عن اهتمام بني‏امية بهذا النوع من المنافرة و المفاخرة، و عنايتهم باذکاء العصبيات الحطيمة و افساحهم المجال للمطارحات التي تدور علي هذا اللون؛ و اخص منها خبرا ذکره صاحب الاغاني في ترجمة الفضل اللهبي ج 15 ص 8، و خبر مجالس معاوية في کتاب المحاسن و الاضداد لابن‏قتيبة. و للحصري في جمع الملح طرفة نادرة تعبر عن مبلغ هذه الحماسة؛ قال لما بلغ التعصب للقحطانية و العدنانية مبلغه انطلق رجل الي بعض الانحاء فاستوقفته جماعة سألته عن نسبته اقحطاني ام عدناني؟ فخاف الرجل اذا هو قال عدناني و کانت الجماعة قحطانية ان يقتلوه، و العکس؛ فتحيل للخروج من حربه بانه من سفاح. و هي نادرة لا تحتاج الي تعليق فانها تعبر بجلاء عن مبلغ استحکام التنافر القبلي في عهد بني‏امية.

[9] راجع اثر التنازع علي البقاء في تکوين الشعب الممتاز في کتاب (مقدمة الحضارات الاولي) لغوستاف لوبون ص 113. و هذه الملاحظة علي العرب جديرة جدا بانعام النظر و توفيره، و قد فاتت کل نقدة التاريخ الذين عرضوا لبحث التوسع الاسلامي السريع، و تدلنا علي المحسنة الوحيدة التي استفادها العرب من رسوخ النظام القبلي في محيطهم.

[10] و شاهد هذا في حکومة ابن‏سعود فانها بدون شک تشبه حکومة العرب الماضية، فان القبائل تنتظمهم القوة وحدها بدون ما تعليم خاص يملأ فراغ نفوسهم بتربية دينية صحيحة او وطنية متماثلة، و القوة لا تکون المزاج العقلي و الروح الشعبية للامة؛ و بذلک نقطع بان اي امتحان يصيب القوة التي تربط القبائل و الجماعات فيها يفسخهم و يعود بهم الي نظامهم القديم، فهي نوع من الدولية القبلية. فاذا فرضنا ان دولة ابن‏سعود امتدت في بيئآت حضارية، ثم لم تعد شأنها القبلي، فليس لان العرب من طبيعتهم القبلية فلا يصلحون الملک و الدولة و انما لانهم لم يعالجوا معالج کافية الخلق الروح الشعبي و المزاج العقلي؛ راجع کتابي (ابن‏سعود) المستروليمز و آر مسترونج.