بازگشت

دواعي الاسراع


و ينبغي ان لا نسقط بعد ذلك حساب الارتقاء السريع بالدوافع المختلفة التي:

منها - الامتزاج الاجنبي و التزاوج الحضاري - كما اذا غلب شعب علي شعب آخر و كان للغالب او للمغلوب صفة الاكملية. و مثل هذا الارتقاء يتم بين شعوب الجيل الواحد، و لكن في الجيل كله فهو ذو نسبة واحدة ثابتة، قلما يتعداها اذا لم تصادفه حادثة طبيعية او ثورة، و الا فهو ينحرف كثيرا او قليلا


علي مقدار درجة الضغط التي ادت به الي هذا الانحراف.

و منها - استعداد العصر و قابليته - فان له دخلا كبيرا في فهم مقدار الانحراف او مقدار الارتقاء. و مثاله الزلزال الذي وقع في تركيا سنة 1940، و هدم مدنا و قري؛ فانه لو وقع في العصور الغابرة، حين كان الاستعداد بطيئا في استرداد العمران و ما اليه، فيستغرق زمنا طويلا لتستعيد الامة سيرها من جديد متصلة بخطها الطولي رسمته لنفسها، لكان يعتبر عاملا انحرافيا كبيرا، بينما هو اليوم، نظرا للاستعداد المتوافر، لا يؤبه له من وجهة نظر المؤرخ.

و منها - تصحيح المنهج التربوي - الذي اراه، علي وضعه في العالم، علة من علي الابطاء، لانه يزودنا بعقلية تستمد تفكيرها من الماضي بحكم الطابع الذي يلابسه. و تصحيحه في رأيي بشجب دراسة تاريخ العلوم و التاريخ مطلقا في دور التكوين الثقافي للناشي ء، لانه شديد الخطورة من حيث ظهور آثار هذا التكوين في كل مراحل تفكيره المستقبل. فان درس التاريخ علي شتي فروعه و تلوين الدراسات الاخري بلونه، كما هو الواقع اليوم في كل مناهج التربية التي لم تتجرد من عنصر الماضي، يحيي في نفوس ابناء الجيل صورا منه، ثم تختلط في عقله و تتركز حتي يستمد منها التفكير في المستقبل. و هذا يجعل العقل دائما يلتفت الي الماضي في حين يريد الالتفات الي الحاضر وحده، و بذلك لا يستمد تفكيره كله من حاضره الصرف، بل يفكر في الحاضر شاخصا الي الماضي فلا يري حاضره كل يجب ان يراه. و هذه علة ابطاء بلا ريب بله ما تتركه الوراثة كعامل طبيعي؛ ان المنهج التربوي يجب ان يساعد الارتقاء الطبيعي علي عمله فيقلل من آثار الوراثة.

و الخطة المتبعة اذا تركزت في عقل الناشي ء ابطأت جانب الاخلاق [1] .


و الادبيات اكثر من اي جانب آخر، لان جثوم اشباح الماضي و شخوصه في عقل كل منا يرغمه علي التلفت الي الوراء، فتجي ء فكرته علي مثل صورته في هذا الوضع، لو احتبستها عدسة لاقطة؛ و انا هنا لست اعني ان لا ندرس التاريخ، بل ان نقتلع من نفوس النش ء فرض مثلهم فيما انكشف عنه الماضي، و ان نشيد بحاضرهم قبل كل شي ء حتي يستمدوا منه تفكيرهم؛ و بعد هذا التركيز يصح ان يدرس التاريخ ليكون في الناشي ء شعورا لا عقلا. و اذا اردت مثلا فخذ الأدب، ان درسه [2] في نصوص القدماء، قبل كل شي ء و آثارهم، يجعلهم في نظر الناشي ء مثلا سامية فيحذوهم اشد حذو، و اذا نضج اقام مدرسته علي


خيالهم، و اذا استلهم ظهرت له صورهم؛ قبل كل شي ء، محاولة ان تنطق له بما يقول.

فالاصلاح التربوي يقضي بان لا نروي هذا الناشي ء الا ما انتج اعلام الحاضر فقط من آداب، و بذلك يتركز الحاضر في عقله كمصدر تفكير و الهام، و ايضا لا نجانف في نفسه بين المثل الادبية لجيله و بين المثل التي اصطنعها له منهجه التربوي. فاذا درس بعد ذلك الأدب و تاريخه استطاع أن يدرك قصوره او تماثله، لانه يدرسه بعقلية فيها بعض الغربة عنه، عدا عما يورث المنهج المتبع من تذبذب في المثل عند الناشي ء حين نرويه مثلا ادبية لعصور مختلفة اذا اختلطت اعطت مثلا غير مفهوم او مشوها.

و لقد بالغ الباحثون باضافة هذه الاثار الي الوراثة، و هو خطأ؛ لان الوراثة تجد في المناهج [3] المتبعة ما يساعدها من حيث يتقمص الماضي فيها علي شكل بارز، و انا اقرر هذا هنا كعلة ابطاء في سير الجيل من وجهة تاريخية خالصة.


پاورقي

[1] و شاهد هذا ان علماء التربية اتخذوا التاريخ وسيلة الي غاية اخلاقية. من الخيران انقل عبارة الاستاذ هرنشو في الفصل الذي خصه بالتاريخ قال (ان الفائدة الاخلاقية هي بالدقة ما يجعل للتاريخ قيمة من حيث التربية. يقول بولنجبروک قد بان لي ان دراسة التاريخ دون سواها اصلح الدراسات تعويد الانسان الفضائل الخاصة و العامة. و يستخدمونه لفائدة اخري و هي اعداد الفرد للحياة المدنية والحياة السياسية. راجع ص 158 و 160 يظهر من هذا ان الغاية من التاريخ هو اعداد الفرد، و هذا الاعداد لن يکون بالضرورة مستمدا من الحار و لا معبرا عنه في شي‏ء کذلک ما يلقنه التاريخ من المثل الاخلاقية. و عليه فان تلقين التاريخ في دور التکوين الناشي‏ء يعني اقامة تصميم راسخ في ذهنه لن يزول بسرعة فوجب علينا ان نکون الناشي‏ء تکوينا يستمد معه کل مثله الاخلاقية و العلمية و الادبية من حاضره وحده و بذلک نستطيع ان ندعه يسير بسرعة ناهيک انه يکون صورة صادقة عن الزمان و المکان اللذين اشتملا عليه. و عندي ان مهمة التاريخ التربوية هي تأليف الافراد في جماعة متکافئة علي معني ان يکون عمل الافراد في الکائن الاجتماعي مثل عمل الاعضاء في الکائن الحي لکل منها وظيفة خاصة تکافي‏ء وظيفة العضو الآخر و تتممها. فان اية جماعة انسانية لا ترقي متساندة مع فقد التکافؤ، فيجب اذا اردنا ان نقيم جمعية صحيحة بذل الجهد بتأليف الفرد مع الآخر بحيث يعطيان صفة التکافؤ ضرورة ان الجمعية المؤلفة من افراد غير متکافئين في وظائفهم يسرع انحلالها و کذلک نجد في الکائن الحي فان العضو اذا لم يقم بوظيفته تماما يضمر شيئا بعد شي‏ء و يتلاشي ثم لا يبقي الا زائدة اثرية او اذا قام بوظيفة غير متکافئة فانه يورث الاعراض المرضية. و هذا التأليف يأتي من جانب التاريخ بما يولده من الشعور المشترک بين الافراد، و اما الاعداد الذي يتصل باسباب التفکير و المثل فانتکاس.

[2] المعروف في طريقة درسه انا نروي الناشي‏ء نصوص جرير و الاخطل و بشار و من اليهم؛ فاذا ترکزت طرائقهم في نفسه لم يجاوزها الا في جهد شاق کما ان نموه الادبي يکون غير طبيعي لانه لم يبدأ من حيث انتهي آخر اديب بل يبتدي‏ء معه من حيث ابتدأ، فقصاراه اذن ان يجي‏ء بمثل ما جاء به او ان يزيد عنه في مقدار قصير. و سببه ان تکوين الادباء في کل جيل يتبع عين الطريقة، فالنصوص التي کونت ادب المتنبي هي التي کونت ادب شوقي، فلا بدع اذا وجدنا خطي التجديد قصيرة الغاية.

[3] و خطأ المنهج التربوي اکبر ما يظهر في درس القانون بحکم انه يستمد من قوانين قديمة تستند الي العرف و العادة و من قضايا سابقة اخذت فيها احکام قضائية. رغم ان مفهوم العدالة و الظلم و الجريمة و العقاب و ما يتفرع عنها يتغير دائما بتغير الصفات الادبية العامة، و عليه فليس من الجائز ان تبقي التعميمات في القانون حافظة لشکليتها و روحها، کما لا يجوز ان تجعل منابع التفريمات فيه منحدرة من الماضي الذي لا يسانده الحاضر. و هذا تعليل بطء تطور القانون بالخصوص و تخوف القانوني من اية محاولة تشريعية جديدة، لان دراسته له علي هذا الشکل دخل في فطرته نوعا من التمسک و الحذر، رغم ان احکامه تبعد کثيرا عن حاضر الناس.