بازگشت

الحاضر اداة لتفسير الماضي


و في رأيي انه لا فرق بين المورخ و الروائي من بعض الجوانب التي تدخل في البناء الخاص بكل منهما، كعرض نفسية الجماعات، و المؤثرات التي تحركها، و تشخيص المسيرات الرئيسية بالنظر الي الطبيعة و الوراثة و البيئة. هذه الامور التي يفترض اشتراكها علميا، و بالاعتماد علي قانون [1] التطور العام في الاجتماع و المثل الاخلاقي و ما اليهما، يمكننا ان


نجعل جيلنا بما يمور فيه نقطة مركزية، ثم نشرح [2] كل جيل تاريخي علي ضوئه غير مغفلين حساب نسبة البعد عنه او القرب منه و

و هذه النسبة ذات تأثير في ابداء الثورة للعصور علي وجه الحلكة او الاسفار. و الذي يبعثنا علي الطمأنينة الي نتائج مثل هذا النظر، دقة موازين التطور النفسية و العقلية و الاجتماعية و الادبية التي بين ايدينا، حتي كادت تتماثل الي ان تكون من اشياء العلوم.


و يحسن بنا ان نعني بفهم وجهة هذا النظر، لانه بمثابة وضع قاعدة ثابتة للتاريخ، و نستخدم في شرحها اسلوب المناظرة و التمثيل.

جيلنا الحالي له وضع اجتماعي خاص، و مثل اخلاقي كذلك، و سنة ادبية بعينها، و طريقة طبيعية ذات مميزات. و لكن هذه الاشياء بجوهرها و بما تنحل اليه من البسائط تشبه امثالها التي كانت تتصل بحياة الجيل التاسع عشر و الثامن عشر، و هكذا. فالمفارقات / بين هذه الاشياء ثابتة من حيث التركيب، ثبوت الاشتراك من حيث التحليل، و هذه المفارقة اما بالارتقاء قدما او بالانحراف الذي هو نتيجة عوامل طبيعية جزئية او ثورات.

و اذا ثبت لدينا، من القضايا المبرهن عليها في العلوم البيولوجية، ان المسيرات الرئيسية للبشر واحدة او بعبارة اصح تكون دائما نسبة اشتراكها اكبر من نسبة اختلافها، ضرورة امتناع الطفرة في التطور كما يقول داروين، جاز للمؤرخ أن يدرس اجياله الماضية علي ضوء الجيل الذي يعيش فيه، و ان يوصل بعض الحوادث و ينسقها مستلهما محيطه و عصره و نفسية الجموع الذين يشاركونه الحياة و ان يصحح [3] الروايات عن الماضي علي اساس النسبة التي يقضي بها الحاضر. فبين المؤرخ و الروائي علاقة قوية في هذا الجانب، حتي ابالغ فاقول بأن من واجب المؤرخ اذا شاء التوفيق أن يكون روائيا قبل ان يكون مؤرخا.

و علي هذا القانون يمكننا أن نجعل لكل عنصر بشري دائرة خاصة، نضع فيها جيلة نقطة مركزية ثم ننتقل الي الاجيال السالفة بنسبة قربها حتي ننتهي الي ابعدها، و كلما زدنا الدائرة تخصيصا زدنا تحقيقا بلاريب. و نعني بهذا وضع ميزان بين ايدي المؤرخين حينما يفرغون للتعليل و التحليل في صدد الاجيال التي


يدرسونها، و هذا القانون النقدي يتم بالاعتماد علي تحرير الموازين النفسية و الاجتماعية و الخلاقية و فرضها فرضا تطوريا.

مثاله «الفضيلة [4] في المرأة» تعتبر هدفا اخلاقيا في القرن التاسع عشر كما هو في القرن العشرين، و لكنها تعني في العصر الاول غير ما تعنيه في العصر الثاني، فكان من جملة مظاهرها في الشرق الاسلامي، الحجاب و الخدر و مجانبة الاختلاط، و لم تزل الفضيلة هدفا في جيلنا الحاضر، و لكنها لم تعد تعترف بأن هذه الاشياء داخلة في معناها. فالذي تغير ليس هو الفضيلة من حيث كونها هدفا او مسيرا، و انما تغير الشكل العرفي فقط.


پاورقي

[1] قال الاستاذ هرنشو: و علي الرغم مما کان بين مؤرخي القرن التاسع عشر من خلاف في تصور التاريخ، فانهم کافة و جدوا في المبدأ العظيم مبدأ النشوء الذي جاءهم من عالم العلم و الفلسفة ما و حد اعمالهم و بث فيها الحياة. الي ان قال کان مبدأ التطور عند هجل مفتاح التاريخ العالمي اذ رأي عملية النمو في الجنس الانساني سياسيا انما هي باسرها تحقيق تدريجي لمعني الحرية. و الحق ان التصور النشوئي التاريخ اصبح من خصائص المدرسة الابتداعية في مجموعها، و قد استطاعوا ان يدللوا بواسطته علي ان من العبث ان يقال مع التعقليين ان الفترة بين قسطنطين و کولمب مجرد هوة فاصلة بين عصري استنارة يرجعان الي اصل واحد. و ان الواجب ان نلحظ وراء مظاهر الاشياء غرضا واحدا ثابتا يعمل علي التجدد و الظهور بنفسه ببطء في ذلک العصر و في کل عصر اخر. الي ان قال: و لما کان يصاحب جميع العمليات التي يمکن تتبع نشوئها، قانون ثابت بمعني اطراد تتابع العلل و المعلولات فقد ظهر ان في وسع الناس بقدر کاف من المهارة ان يصلوا الي هذا النوع من القوانين في کل ميدان من ميادين البحث و ذلک ما اجمله جون ستيوارت ميل بقوله: «ان جميع الظواهر علي الاطلاق تحکمها قوانين غير قابلة التخلف و لا تعترضها ارادة ما طبيعية کانت او فوق الطبيعة» و علي هذا الرأي جعل ميل غرضه الاساسي في الحياة ان يصل الي القوانين الثابتة التي يقوم عليها نشوء الانسان اخلاقيا و اجتماعيا، فکان غرضه من کتاب المنطق بيان الطريقة المثلي لبحث علوم الانسان کما ان تحوله الي الاقتصاد السياسي يرجع الي اعتقاده بان في العلم باحوال الانسان من حيث هو منتج للثروة و مستهلک و مبادل لها قوانين من النوع الايجابي الصحيح لا يتعذر الوصول اليها، مثال ذلک (قانون تناقص الغلة) و (قانون السکان) الملتوس و (قانون الاجور) لريکاردو. و کان ميل يقفو اثر استاذه الفرنسي اوغست کنت الذي نصب نفسه للوصول الي القوانين التي تفسر غرابة اطوار الانسان في حال التفرد و الاجتماع لکنه لم يکن مؤرخا يستقري‏ء الحوادث بل فيلسوفا يقيس الامور باشباهها ثم ظهر توماس هنري بکل فقصد ان ينشي‏ء علي مقتضي اصول فن الاحصاء علما وضعيا للاجتماع الانساني في مقدمة کتابه (تاريخ الحضارة في انجلترا) راجع کتاب علم التاريخ ص 142 و 145.

[2] يرجع الفضل في کشف هذه الطريقة من وجه ادبية محض الي الشاعر العظيم شکسبير فقد اتبع في کتابة دراماته الکبري طريقة التشخيص و تفسير الماضي بالحاضر فکان اذا اراد ان يبرز لنا صورة من صور العصر الروماني مثلا جمع من بلوطرخس و غيره الحقائق الهامة و منهم يستوعب شکل الحکومة و مقام الدين و درجة التوزيع القوة و السلطة في بناء الهيئة الاجتماعية،و بذلک يخرج تصميمه الاولي الذي يشيع فيه الحياة و النشاط علي ضوء طبيعة العصر الذي عاش فيه، مما يلاحظه.من تأثير النظم و المبادي‏ء الاجتماعية من وجه عام في عقول الناس مع احلال الفروق الجيلية بين اساليب الحياتين في الصور السياسية و الدينية. و بذلک ادرک من التاريخ ما لم يدرکه غيره و اصطنعها طريقة في بناء الرواية نري لزام اتخاذها في بناء التاريخ و عرضه.

[3] نري التاريخ حين يحدثنا عن محاکم التفتيش مثلا ينسب اليها من الفظائع و الاهوال ما لا يصدر الا عن الانسان القديم الذي کان اقل تطورا في غرائزه کالانسان الأشوري و البابلي و المصري؛ فالنظرية التي نقررها تقضي بنفي اغلب ذلک و تحکم بانها مبالغات خيالية محض لا يمکن ان تصدر عن الانسان المتطور المصقول الغريزة؛ و عليه فهذه الاخبار اخترعها المؤرخون من ذوي الاغراض، و الروائيون الذين عمدوا الي محاربة الاوضاع و الاهابة بالناس الي التحرر و الثورة.

[4] ساق العلامة البالينتولوجي ماتيو، في مقاله: اساس الحضارة المقبلة، امثلة عديدة من هذا القبيل مثل نظرية الجريمة و العقاب و تطورها في آراء المحدثين، و صفة الشجاعة و ضبط النفس؛ و انتهي الي هذه النتيجة القائلة (هنا نستطيع ان نعثر سواء في مظاهر التفکير ام في مظاهر العمل علي دلائل من الارتقاء بالغة الاثر و علي تهذيب بطي‏ء التقديم غير مفصوم الحلقات و لا مقطوع التسلسل).