بازگشت

تصدير


أظنني صادقا أو غير بعيد من الصدق، حينما اقول و اطلق القول، بان جمهرة المؤرخين المحدثين في العربية لم توفق الي اقامة التاريخ العربي علي سنة منطقية، و قاعدة نقدية تحتفل بتبيان الدوافع و العوامل التي من شأنها ان تهي ء ظروف التاريخ المختلفة، و تحدد له الاتجاهات، و تفرض عليه الحركة حين يجب ان يتحرك، و السكون حين ينبغي به ان يسكن، هذه الدوافع التي نصل بها الي تمام الغرض العلمي اذا ما اعطيناها كلمة «الحيوية التاريخية».

و هذه الحيوية، كما ندعوها او فلسفة التاريخ كما يدعوها الآخرون، ضرورية [1] .


لمن يريد ان يشخص عصرا او جيلا، و يعبر عما مار به و اجتمع عليه. و انما كانت حرية بالتمثيل من حيث انها تقودنا الي ان نعايش ذلك الجيل من الناس و نمتزج بهم و ننفذ الي خلجات ضمائرهم كما لو كانوا يعبشون بيننا اليوم.

و من ثم تنكشف لنا جوانب من ذلك المحيط، كانت خفية و ادق من ان يحصيها اولئك الاخباريون البسطاء، الذين درجنا علي اخذ التاريخ عنهم و اعتمدناهم اعتمادا تعبديا. أنا لا اقول بان علي المؤرخ ان يطرح ما نقل الينا هؤلاء، و يرخي لنفسه العنان في ان يرتجل التاريخ بعد ذلك ارتجالا. و انما اريد أن اقرر شيئا آخر له اهميته [2] و قيمة في متن التاريخ، و له الي جانب هذا خطر في الناحية الدراسية من حيث الاطمئنان الي ما يفرض و يقضي به هذا الاسلوب، حين نكون قد اجتهدنا بقدر ما في تصحيح الوسائل و الوسائط [3] . و هذا الذي انوه به و ارفع من شأنه هو الارتداد بنا الي السند مرة اخري، كما كان يفعل المحدثون [4] القدماء في نقل السنة، و ان كان ادركهم بعض التلفيق في اواخر عهدهم، حتي ليخيل للناقد بانه لم تكن [5] لهم مقاييس


ثابتة للصحة و الضعف. و بذلك يكون جديرا بنا أن نغربل السنة وفق موازيننا الجديدة، و أن نعود الي درس شخصيات الرواة مرة اخري علي مقتضي معارفنا النقدية الحديثة البعيدة عن المبالغة و التعميم اللذين نقع عليهما في دراسات الأقدمين. و انا لا ازعم هنا بان الاولين لم يكونوا موفقين، و ايضا لست اقصد تجريدهم عن نزعة التحري، و انما اريد ان أقول بانهم وفقوا الي حد ما، و حققوا شيئا من التحقيق؛ و هذه سنة التسلسل العقلي الدائمة، فهي تعطي المتأخر لتأخذ منه فلا تنفصم الحلقات.

لم يكن من مستطاع الاوائل او أية جماعة اخري ان يقولوا كل شي ء، و ليس في وسعهم أن ينتهوا بدراسة فتنتهي ايضا في اعتبار الناس. فعلينا ان نصل ما انقطع من جهود القدماء بمؤتمرات للسنة و التاريخ تأخذ علي عاتقها القيام بتحقيق هذه الاهداف، حتي تضع تحت الايدي خلاصات موثوقا بها ثقة تتناسب مع ما نجتهد ان نفضي اليه من دراسات. و يجب بذل هذا الجهد لشي ء آخر و هو تخليص موسوعات القدماء من التشويش الفضيع الواقع، فهم لا يكادون يتفقون علي تعديل رجل او جرحه.

و بما انه قد اجتمع لدينا من الموازين و المعايير ما هو ادق من موازين و معايير القدماء، بل سنكون اكثر تحقيقا و اوثق نتائج. فنحن لا ندرس الرواة من وجه ما عرف عنهم و اشتهر فقط، بل نعود الي درس بيئتهم و مجتمعهم و منزلتهم فيه، و مقدار اتصال هذه المنزلة بما يروون من الاخبار.

و شي ء آخر أيضا و هو تحقيق النص، فانه ثبت لي امر المح اليه قدماء المحدثين الماحا، و هو ما اسميته بالتدليس الخفي و انبهني اليه ما جاء في الجزء العاشر من مسند عمر للحافظ ابن شيبة فقد ذكر ان احمد بن زيد قال «سمعت حديث عمرو بن دينار بيننا مراجعة، قال محمد بن المنهال مراجعة تذاكر بينهم، يذكر هذا نصف الحديث و هذا نصفه. يسمعون من عمرو بن دينار فيحفظ بعضهم نصفا و بعضهم ثلثا فيتذاكرونها بينهم ثم يكتبونها.»


و هذه العبارة تض بين ايدينا شيئا يبعثنا علي الشك في النص، و يحملنا علي زيادة التحقق بان ما يعزي لقائل هو ما قال بعينه.


پاورقي

[1] اعلن هذه الضرورة اللورد اکتن في محاضرته التي القاها سنة 1895 حين قال «ان اختصاصنا يتناول ما هو ابعد مدي من شؤون السياسة ان من واجبنا ان نحيط بحرکات الافکار التي هي علة الحوادث العامة لا نتيجتها و أن نجعلها نصب اعيننا دائما» و کذلک اعلن دولنجر الالماني حين اکد ما للدين من قوة مؤثرة في التاريخ، و اعلنت مدرسة کارل مارکس الاشتراکية التصور الاقتصادي او المادي التاريخ، و اعلنت مدرسة کارل لمبرخت الالماني سلطان العقل الباطن و ما الطبيعة البشرية و الجماعات المنظمة من الدواقع الغريزية، و جاء فلاسفة المؤرخين في العصر الحاضر و اعلنوا بان عاملا واحدا لا يستقل بتفسير ما للمجتمع الانساني من ظواهر متعددة و ان لکل من الخلق و البيئة نصيبا من ذلک التفسير خاصا به و ان کلا من الجبر و الاختيار ليس بمعطينا بمفرده الحق من حيث بيان مصدر اعمال الانسان و ان الافکار و الدوافع الغريزية و الروح و الجسم کل اولئک حقائق نهائية لا يتأتي التعبير عن بعضها بنفس الالفاظ التي يعبر بها عن البعض الآخر. راجع ص 140 و 141 من کتاب علم التاريخ للاستاذ هرنشو.

[2] يذهب بعض الغويين الي تخطئة هاتين الکلمتين بالنظر الي العرف اللغوي، و نحن لا نري مانعا من استعمالها ذهابا مع رأي جمهرة من الغويين بان الخطأ المشهور اذا کان خاضعا للقياس اللغوي فلا مانع من استعماله.

[3] يذهب بعض الغويين الي تخطئة هاتين الکلمتين بالنظر الي العرف اللغوي، و نحن لا نري مانعا من استعمالها ذهابا مع رأي جمهرة من الغويين بان الخطأ المشهور اذا کان خاضعا للقياس اللغوي فلا مانع من استعماله.

[4] انما ملت بالکلام نحو السنة لان قواعد المحدثين اعتمدها المؤرخون في نقل الاخبار و ان لم يبلغوا مبلغ المحدثين في دقة تطبيقها.

[5] راجع کتب الموضوعات کمؤلفات ابن‏حجر و ابن‏الديبع و السوطي و القاري و الشعراني و العجلوني، و هؤلاء ذهبوا مذهب اللغويين في التحيل و المداورة حتي يصحح هؤلاء الغلط و اولئک الحديث او علي الاقل يستلونه من دائرة الوضع. و هذه الحمي عرت متأخري المحدثين کما عرت متأخري اللغويين بينما اذا ارتقينا بالنظر قليلا نجد کتاب الموضوعات لابن‏الجوزي الذي لا تحتجزه حرمة کتاب او اشتهار حديث من تخريجه علي اصوله الدقيقة و الطعن عليه، و نجد کتاب المستدرک الحاکم الذي يتساهل بافراط و نحن لا نظن به کما ظن الحافظ الذهبي من ان الغفلة ادرکته، و انما نري انه و ابن‏الجوزي زعيما مدرستين في السنة لهما تعاليمهما و اصولهما في الصحة و الضعف، و کانت ميزة مدرسة ابن‏الجوزي التشدد و ميزة مدرسة الحاکم التساهل و لکن المدرسة الثانية انتصرت في النهاية و عمت، و من هنا جاء الاختلاط الذي نشهد اثره في کتب الموضوعات. و علينا انتصرت في النهاية وعمت، و من هنا جاء الاختلاط الذي نشهد اثره ي کتب الموضوعات. و علينا ان نتلمذ لابن‏الجوزي و نحيي معالم مدرسته التي عفت رسومها، و کأنما کبر علي متأخري المحدثين ان يسقطوا ثروة کبيرة من السنة باعتماد اصول ابن‏الجوزي فوجروها حيث و لدت.