بازگشت

الشجاعة


من مصححات الشخصية الشديدة البروز، و لقد يزيد اعتبارها الي درجة قصوي بحيث تكون مقوما للاستعدادات الأخري كافة.

و ربما نزلت من الاستعدادات منزلة الروح التي تنشرها كائنا حيا. و أي أمري ء مهما بلغت به استعداداته من الوفرة و البسطة و التفوق، فانه لا يكون خليقا بالنجاح الا اذا أحكمها بالشجاعة، فان معني الشجاعة اظهار هذه القوي بالمظهر الأخاذ، و المبالغة في قيمتها أو اعطائها القيمة الحقيقية. فالشجاعة أبلغ تعبير عن الكوامن النفسية؛ و أية شخصية، اذا زايلتها الشجاعة، فقدت كل قيمة، و أسرع اليها الذبول، و عراها الضؤول و تخافتت في غمضات. و الجبن علي أي اعتباراته مرض سريع الفتك بالشخصية مهما بلغت نضرتها، حتي عزا اليه علم النفس التطبيقي كل تخلف في حقل الاجتماع. و هذه المجبنة تظهر بعدة أشكال في الحياة العامة و الخاصة، و من حيث نسبة الفرد الي نفسه و من حيث نسبته الي المجموع.

و الشجاعة ضبط النفس مع أي مؤثر من المؤثرات بالغا مبالغه في الشدة و الاعناف. و هذه القدرة علي ضبط النفس هي أساس قوة الشخصية و قوة الخلق معا، و قاعدة الكرامة و الكبرياء الانسانية جميعا، و هذه الشجاعة هي في الرجل كمال الرجولة، و في الأنثي كمال الأنوثة، لأنها مظهر ثابت لا تحيك به الزعازع و لا تميله الهزاهز. فالرجولة الكاملة و الأنوثة الكاملة هما ركنا الاجتماع الثابت. و أية أمة أفتقد فيها كمال الرجولة و الأنوثة تسير مسرعة في خطة الانحلال و طريقة الفناء، فان معني فقدهما فقد الشجاعة الكافية في ابراز


الاستعدادات، و معني أن نفقد الشجاعة أنا نفقد الشخصية، و أمة لا شخصية لافرادها لا شخصية معنوية لها، أي لا وجود لها حقيقي.

و أعظم أمراض الشخصية خطورة و فتكا هذه المجبنة التي تهوم علي جوانب القوي فتذريها و تخمد فيها جذوتها المتقدة. و المجبنة علي اختلافها ملابسات ترجع اليها عن قرب أو عن بعد، و هي في سرد مجرد.

(أ) الشعور بالوجود الذاتي، و هو ينشأ عن مغالاة المرء بقيمته حتي تترسخ كصفة ثابتة تحمل صاحبها علي زيادة التحرز و التوقي و التخوف، و لا يرضيه أيما شي ء يأتي به، فيكثر منه العثار، و في خيال بعض علماء النفس أن الحشرة المعروفة باسم أم أربعة وأربعين شعرت بوجودها الذاتي، فارادت أن تشاهد كيف تسير، فتشابكت اقدامها و تلوت و تقاطعت فانقلبت علي ظهرها و لم تستطع القيام.

و من أعراض هذا الشعور كثرة الارتباك في مجلس الآخرين، و خوف الظهور في المجتمعات، و الانتقاد للذات، و الاكثار من مقارنة النفس بالآخرين.

(ب) عدم التوازن الاجتماعي و هو ينشأ من فقدان الشجاعة اللازمة في آداب السلوك العادية.

(ج) تخوف الفشل في المآتي اللازمة و المشاريع الهامة.

ثم للشجاعة مظاهر مختلفة و أشكال متعددة حتي اتخذت في معجم اللغة الفاظا مختلفات و هي في سرد تطبيقي:

(1)ضبط النفس: و هذا الشكل يتمثل جيدا، و عند الحسين (ع)، فيما رووا من أن غلاما له وقف يصب الماء علي يديه فوقع الابريق من يد الغلام في الطست، فطار الرشاش في وجهه، فقال الغلام: يا مولاي (و الكاظمين الغيظ) قال: قد كظمت غيظي، قال: (و العافين عن الناس) قال قد عفوت عنك، قال: (و الله يحب المحسنين) قال: اذهب فأنت حر لوجه الله الكريم.


(2)محاولة التغلب علي الصعاب: و هذا مظهر يبدو في موقفه (ع) حين حاول رجالات مكة أن يصدوه عن الخروج الي العراق، فأبي و وقف حيث هو لا يحول رغم ما يري من تغول الاحداث. و أعظم ما يعبر عن هذا الجانب عند الحسين (ع) موقفه من الوليد و مروان و قد انشد حين ولي خارجا:



لا ذعرت السوام في فلق الصب

ح مغيرا و لا دعوت يزيدا



حين أعطي مخافة الروع ضيما

و المنايا يرصدنني أن أحيدا



(3)الصراحة في الاجابة رغم بواعث الرعب. روي الحصري [1] و السيد البيتي العلوي أن الحسين (ع) اعتق جاريته و تزوجها، فكتب اليه معاوية (أما بعد، فانه بلغني أنك تزوجت جاريتك و تركت اكفاءك من قريش، ممن تستنجبه للولد و تمجد به في الصهر؛ فلا لنفسك نظرت و لا لولدك انتقيت) فكتب اليه الحسين (ع): (أما بعد فقد بلغني كتابك و تعييرك اياي بأني تزوجت مولاتي و تركت اكفائي من قريش، فليس فوق رسول الله منتهي في شرف و لا غاية في نسب، و انما كانت ملك يميني خرجت عن يدي بأمر التمست فيه ثواب الله ثم ارتجعتها علي سنة نبينا (ص)، و قد رفع الله بالاسلام الخسيسة، و وضع عنا به النقيصة فلا لوم علي امري ء مسلم الا في أمر مأثم، و انما اللوم لوم الجاهلية). فلما قرأ معاوية كتابه نبذة الي يزيد فقرأه و قال: لشد ما فخر عليك الحسين؛ قال لا، و لكنها السنة بني هاشم الحداد التي تفلق الصخر و تغرف من البحر.)

هذه أهم عناصر الشخصية، و نجدها ضافية عند الحسين بكل مظاهرها فهو شخصية فوق مستوي الشخصيات، و نحن اذا أفضنا في نواحي الشخصية المقارنة عنده لا نكون الا كما جاء به المثل العربي القديم (أريه السها و يريني القمر). و آخر ما أود مقاله في هذه الحلقة ان النبي(ص) قدم في الحسين (ع) مثال المسلم الكامل، و قدم به علي (ع) مثال الرجل الكامل، فنظر الي الدنيا بغير


عينها، و من غير ناحيتها، فرآها كما هي علي الحقيقة؛ فما حركت فيه حركت فيه شهوة و لا ايقظت عنده مطمعا، و ان كان أقل ما تجي ء به في أعظيم ما تجيش به اماني الناس.

ذلك نظر من تخضبت نفسه بالروح الالهي، فكانت الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، كما هي عند الله؛ و هولاء الاصفياء في حياة الناس، كالنجم في حياة الناس، كالنجم في حياة الارض، يضي ء عليها و هو لا يفكر بكل أشيائها، او لا تمر هي و ما جمعت خاطرة في منثال خواطره.

و لقد أعطي الحسين (ع) أعظم تحليل الدوافع التي تدفع الناس في الحياة العامة بأخصر فقرة و أبلغها، و هي علي اختصارها تترك ضياء في العقل و ضياء في النفس، لا يلتبس علينا و لا يحال دوننا في فهم مبلغ السمو الانساني في كل جيل.

ان الناس عبيد الدنيا، و الدين لغو علي ألسنتهم...

يحوطونه ما درت به معايشهم...

فاذا محصوا بالابتلاء قل الديانون...



پاورقي

[1] راجع زهر الآداب للحصري ج 1، ص 39 و مواسم الادب للبيتي ج 1، ص 31.