بازگشت

الغيرية أو المشاركة الوجدانية


هذه صفة من الانسانية تضعها علي أقوم اوضاعها، و تجي ء منها في اهم اقساطها، و هي لا تختلف في انها تعبر عن انبل ما في الانسان من شعور، و بها


يسمو عن رتبة الأحياء الاخري. حتي قال التوحيدي في كتاب (الصديق و الصداقة) الانسان حيوان ذو عطف، و بذلك اعتبرها خاصة مميزة له رافعة للشركة. و مما لا ريب فيه أن الانسان حيوان بغيض اذا كان لا يشعر بمكان هذا الشعور او تجرد من اماليه. و هو من بين سائر النوع لا يشعر بالفردية وحدها، و انما يجد تمامه في الغيرية. و لذلك قيل في اقدم الدهر: ان الانسان مدني او اجتماعي بالطبع.

فهذا الشعور في حدوده تستوي عليه الانسانية في حدودها. فانه لولا المشاركة الوجدانية التي تخفف من حدة انانيته الجارفة، لكان الانسان اسوأ اثرا من أي حيوان. و هو بين الانانية و الغيرية في متجاذب شديد من الشر و الخير و الباطل و الحق، اذا انتصر احد الشعورين تبعه لازمه بدون تخلف او انفكاك. و لن تجد رجلا فاضلا او مدلا بخليفة الا و عنده اوفي قسط من هذا الشعور السامي.

و انا لا افهم فرقا بين الانسانية و الغيرية - مشاركة الناس في شعورهم - و لعل الاسلام هو الدين الوحيد الذي اقام كل تعاليمه الروحية و الزمنية علي اساس من هذا الشعور، و زاد مبالغة في اعتداده انه جعله قاعدة الايمان. فاذا كان الاسلام في اعمال الظواهر قد بني الاسلام علي خمس، فانه في المنطقة الايمانية لاي قوم الا علي تحقيق هذا الشعور.

قال النبي (ص) لا يؤمن احدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

و قال [1] ايضا: الخلق كلهم عيال الله و احبهم اليه أنفعهم لعياله.

فالاسلام قوم تعاليمه علي النفع و تبادل الحب و الاستواء في أسباب الاخاء، و بذلك جاء ليضع التصميمات الصحيحة للجمعية الانسانية الكبري.

و لقد استطاع النبي محمد (ص) ان يقدم للعالم اجمع في زمن قصير، نموذجا


للتصميم الذي غبر الانسان علي اعتباره اقرب الي الافكار الطوبوية. و جاء في تجانسه و نظامه شيئا مدهشا و طريفا معجبا. و في النهاية قدر لهذا العالم أني فتح عينه علي الحقائق فتسارع في دين الله الذي هو لبانة كل نفس.

و ربما كان أدهش ما حفظ مما جاء علي لسان صاحب الشريعة (ص) قوله لجرير بن عبدالله البجلي حينما جاء يبايعه علي شهادة أن لا اله الا الله و أن محمدا رسول الله. فقال النبي (ص) و النص لكل مسلم. هذا الحديث من روائع الاسلام حين جعل المشاركة الوجدانية صنوا لكلمة الشهادة، و لعل دينا من الأديان لم يبالغ في اعتبار و تقييم هذا الجانب اعتبارا عمليا مثل دين محمد و شريعة محمد.

و بذلك جاءت صحابته (ص) في دقة الشعور بالغيرية، كالموازين لا يفوتها شي ء الا ما ليس منه شي ء في الحساب. و في قصص عمر (ض) عبرة و ذكري و خطة فوق مناهج الناس.

و الحسين (ع) جاء بمقتضي الفطرة و تعاليم الدين مثلا نادرا من حيث الشعور بالغيرية. و ندع الآن الحديث لرواة فيما حفظوا من آثار الحسين في هذا الجانب.

روي ابن عساكر في التاريخ الكبير عن أبي هشام القناد انه كان يحمل الي الحسين بالمتاع من البصرة، و لعله لا يقوم حتي يهب عامته.

و روي أيضا [2] . أن سائلا خرج يتخطي ازقة المدينة حتي أتي باب الحسين، فقرع الباب و انشأ يقول:



لم يخب اليوم من رجاك و من

حرك من خلف بابك الحلقة



أنت ذو الجود أنت معدنه

أبوك قد كان الفسقة




و كان الحسين (ع) واقفا يصلي فخفف من صلاته و خرج الي الاعرابي فرأي عليه اثر ضر وفاقة، فرجع و نادي بقنبر فأجابه لبيك يا ابن رسول الله، قال ما تبقي معك من نفقتنا قال مائتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك، فقال هاتها فقد أتي من هو أحق بها منهم، فأخذها و خرج يدفعها الي الاعرابي و أنشأ يقول:



خذها فاني اليك معتذر

و اعلم بأني عليك ذو شفقة



لو كان في سيرنا عصا تمد اذن

كانت سمانا عليك مندفقة



لكن ريب الزمان ذو غير

و الكف منا قليلة النفقة



فأخذها الاعرابي و ولي و هو يقول ألله أعلم حيث يجعل رسالته:



مطهرون نقيات جيوبهم

تجري الصلاة عليهم اينما ذكروا



و أنتم انتم الأعلون عندكم

علم الكتاب و ما جاءت به السور



من لم يكن عاويا حين تنسبه

فما له في جميع الناس مفتخر



و مما رووا ان الحسين (ع) دخل علي اسامة بن زيد، و هو مريض و هو يقول و اغماه، فقال له الحسين (ع) و ما غمك يا أخي قال ديني و هو ستون الف درهم، فقال الحسين هو علي، قال: اني أخشي أن أموت، فقال: لن تموت حتي اقضيها عنك، فقضاها قبل موته.

و روي ابن قتيبة. أن رجلا اتي الحسن بن علي يسأله. فقال الحسن ان المسألة لا تصلح الا في غرم فادح او فقر مدقع او حمالة مفظعة. فقال الرجل ما جئت الا في احداهن، فأمر له بمائة دينار ثم اتي الرجل الحسين ابن علي فسأله فقال له مثل مقالة أخيه فرد عليه كما رد علي الحسن فقال كم اعطاك قال مائة دينار فنقصه دينارا كره ان يساوي أخاه. ثم أتي الرجل عبدالله بن عمر فسأله فأعطاه سبعة دنانير و لم يسأله عن شي ء، فقال له الرجل اني أتيت الحسن و الحسين؛ و اقتص كلامهما عليه و فعلهما به، فقال عبدالله ويحك! و اني تجعلني مثلهما انهما غرا العلم غرا المال.


و روي البحراني [3] . أن الحسين (ع) كان جالسا في مسجد جده رسول الله (ص) بعد وفاة أخيه الحسن (ع) و كان عبدالله بن الزبير جالسا في ناحية المسجد و عتبة بن أبي سفيان في ناحية اخري، فجاء اعرابي علي ناقة فعقلها بباب المسجد و دخل و وقف علي عتبة بن أبي سفيان فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال الاعرابي اني قتلت ابن عم لي و طولبت بالدية فهل لك ان تعطيني شيئا. فرفع رأسه الي غلامه و قال ادفع اليه مائة درهم، فقال الاعرابي ما أريد الا الدية تماما ثم تركه و اتي عبدالله ابن الزبير و قال له مثل ما قاله لعتبة فقال عبدالله لغلامه ادفع اليه مائتي درهم، فقال الاعرابي ما أريد الا الدية ماما ثم تركه و أتي الحسين فسلم عليه و قال يا ابن رسول الله اني قتلت ابن عم لي و قد طولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئا، فأمر له الحسين بعشرة آلاف درهم و قال هذه لقضاء ديونك و عشرة آلاف درهم اخري و قال: هذه تلم بها شعثك و تحسن بها حالك و تنفق منها علي عيالك فأنشأ الاعرابي يقول:



طربت و ما هاج لي معبق

و لا لي مقام و لا معشق



و لكن طربت لآل الرسول

فلذ لي الشعر و المنطق



هم الأكرمون هم الأنجبون

نجوم السماء بهم تشرق



سبقت الأنام الي المكرمات

و انت الجواد فلا تلحق



أبوك الذي ساد بالمكرمات

فقصر عن سبقه السبق



به فتح الله باب الرشاد

و باب الفساد بكم مغلق



روي ابن قتيبة [4] . ان معاوية لما قدم المدينة منصرفا من مكة بعث الي الحسن و الحسين و عبدالله بن جعفر و عبدالله بن عمر و عبدالله بن الزبير و عبدالله بن صفوان ابن أمية، بهدايا من كسي و طيب و صلات من المال ثم قال لرسله: ليحفظ كل رجل منكم ما يري و يسمع من الرد، فلما خرج الرسل من عنده


قال لمن حضر: ان شئتم انبأناكم ما يكون من القوم، قالوا اخبرنا يا اميرالمؤمنين قال:

أما الحسن فلعله ينيل نساءه شيئا من الطيب و ينهب ما بقي من حضره و لا ينتظر غائبا.

و اما الحسين فيبدأ بأيتام من قتل مع أبيه بصين فان بقي شي ء نحر به الجزر و سقي به اللبن.

و اما عبدالله بن جعفر فيقول يا بديح اقض به ديني فان بقي شي ء فانفذ به عداتي.

و اما عبدالله بن عمر فيبدأ بفقراء عدي بن كعب فان بقي شي ء ادخره لنفسه و مان به عياله.

و اما عبدالله بن الزبير فيأتيه رسولي و هو يسبح فلا يلتفت اليه، ثم يعاوده الرسول فيقول لبعض كفاته خذوا من رسول معاوية ما بعث به وصله الله و جزاه خيرا، لا يلتفت اليها و هي اعظم في عينه من أحد ثم ينصرف الي اهله فيعرضها علي عينه، و يقول ارفعوا لعلي ان أعود بها علي ابن هند يوما ما.

و اما عبدالله بن صفوان فيقول قليل من كثير، و ما كل رجل من قريش وصل اليه هكذا، ردوا عليه فان رد قبلناها.

فرجع رسله من عندهم بنحو مما قال معاوية، فقال معاوية انا ابن هند اعلم بقريش من قريش.

ليس بعجيب ان نظهر من معاوية علي فراسة نافذة كهذه التي تعرضها علينا قصة ابن قتيبة، فقد كان له خبر و خبر عن كل الرجالات المرهوبين. و نترك ما في القصة من الجوانب التي لا تتصل بموضوعنا و نفرغ الي ما يهمنا منها.

يصور معاوية بكل صدق و حيقة ما يتصل بنفس الحسين (ع)، و ربما كانت هذه الفقرة الخاصة به اصل صورة تعكس علينا ما نريد أن نفهمه عنده.


فالحسين كان مغلوبا الي حد كبير بتأثير هذه العاطفة، فهو يشعر بشعور الآخرين، و يشاركهم ما يقع في وجدانهم، و يحس بنوع الاحساس الذي يمر في سماوة نفوسهم، فيألم اذا تألموا، و يسر اذا سروا.

و كأن له اتصالات تربطه بكل الناس، و له في كل قلب جهاز يشعره بشعوره. هذا من معاوية تمثيل للمشاركة الوجدانية القوية، و كأن الحسين (ع) لا يزال، الي تاريخ القصة، تمر في خياله صور تلك الملاحم الرهيبة التي خاضها مع ابيه (ع) بما فيها من آلام و آمال. فينبعث لمشاطرة اولاد اولئك الشهداء، حتي يشعرهم بأنهم اذا فقدوا بآبائهم عطفا و حنانا فانهم لم يفقدوا كل عطف و كل حنان. و هذا أصدق ما تكون به المشاركة الوجدانة، فهو لا يرجع الي طبيعة الجود بل الي الأسي و المواساة ايضا.

فقد كان ابن جعفر جوادا يعطي كثيرا و يهب كثيرا حتي لامه الحسين (ع) علي تبذيره، و لكنه يعطي للاعطاء، سواء وقع موقعه أم اختلف عنه - فان العطاء وحده لذة الجواد بعيدا عن كل شعور آخر. و لقد أجاد بشار حين قال:



انما لذة الجواد ابن سلم

في عطاء و مركب للقاء



فهو يشاركنا في أن الجود لذة الجواد، و هو مدفوع لطلب هذه اللذة وحدها بدون دافع آخر أو مؤثر وراءه.

و اما الحسين في هذه القصة فهو لا يعطي للجود، و لكن للمواساة و المشاركة الوجدانية.

و في تصوري ان الذي لا يشعر بالغيرية اصم النفس ليس متصل الباطن بأشياء الوجود. و بذلك يكون كأنه يعيش في عالم مهجور قفر ليس فيه حي و لا حياة. و بعبارة اخري يبدو الفردي الذي لا يشعر بشعور الناس كأنه الغي الوجود الكبير بينه و بين نفسه، فلم يعد في الوجود الواسع الا هو وحده، و في الواقع حين الغي الوجود في اعتباره، الغي وجوده في اعتبار الناس، و بذلك تكون نفسه قد ضاقت عن ان تسع معه من آحاد الناس واحدا، و من ثم يعود


اتساع نفسه فراغا و خلاء بغيضا. كالمغار يتسع للظلام و الفراغ القائم و الرهبة الموحشة.

بينما يكون الغيري أو الوجداني كأنما خلط الوجود بنفسه الذي استحال الي شي ء فيها، فهو يعيش و يعيش معه كل ما في الوجود من احياء. و بذلك يكون قد اطاف نفسه بمملكة الأحياء فوجد مكانه في كل حي، و الفردي قد اطاف بنفسه فلم يجد بينها مقاما.

و الحسين (ع) زاد به الاحساس الوجداني، حتي كان كاليد الآسية لا تمر علي شي ء الا مر عليه الشفاء.

رووا أن زينب [5] بنت اسحاق زوج عبدالله بن سلام القرشي، و الي العراق لمعاوية بن ابي سفيان كانت مثلا في اهل زمانها في جمالها و تمام شرفها و كمالها و كثرة مالها، و ان يزيد بن معاوية فتن بها، فذكر ذلك الحصي خاص بأبيه معاوية فقال الخصي لمعاوية: ان يزيد ضاق ذرعه بها، فقال معاوية ليزيد اكتم أمرك. ثم كتب الي زوجها ليقدم عليه، فأنزله معاوية منزلا اعده له؛ و أرسل الي ابي هريرة و ابي الدرداء - و كانا يومئذ بالشام - فأخبر هما بانه بلغت له ابنة يريد انكاحها، و انه رضي لها ابن سلام لدينه و شرفه و فضله، و كلفهما ذلك له عنه و انه جعل لها في نفسها شوري. فأتيا عبدالله بن سلام و ذكرا له القصة؛


و دخل معاوية علي ابنته و حضها علي ان لا تقبل حتي يفارق ابن سلام امرأته. و رد ابن سلام اباهريرة و اباالدرداء يخطبان له ابنة معاوية فأتياه فأدخلهما عليها فأعلماها، فقالت لهما ما قال معاوية لها، فرجعا الي ابن سلام و اعلماه بما قالته فظن انه لا يمنعها منه الا فراق زينب، و اشهدهما بطلاقها و اعادهما الي معاوية، فاظهر معاوية كراهة لزينب و امرها بسؤال ابنته عن رضاها، فاعلماها بطلاق عبدالله بن سلام امرأته، فصرفتهما لتسأل عن دخلة امره، ائنت علي ابن سلام.

و تحدث الناس بما كان من طلاق عبدالله زينب و لاموه علي مبادرته بالطلاق، ثم و ستحث عبدالله أباهريرة و اباالدرداء فأتيا ابنة معاوية، فقالت انها سألت عنه فوجدته اغير موافق لما تريد، فلما بلغاه كلامها علم انه مخدوع و ذاع امره في الناس و شاع و نقلوه الي الامصار و تحدثوا به في الاسمار، و قالوا خدعه معاوية حتي طلق امرأته و انما ارادها لابنه، فبئس من استرعاه الله أمر عباده، و مكنه في بلاده و اشركه في سلطانه، يطلب امرا بخدعة من جعل الله اليه امره.

فتمت مكيدة معاوية، و لكن المقادير أتت بخلاف تدبيره و بضد تقديره، و ذلك أنه لما انقضت اقراء زينب وجه معاوية أباالدرداء الي العراق خاطبا علي ابنه يزيد، فخرج حتي قدم الكوفة، و بها يومئذ الحسين بن علي (ع)، فبدأ أبوالدرداء بزيارته فسلم عليه الحسين و سأله عن سبب مقدمه، فقال: وجهني معاوية خاطبا علي ابنه يزيد زينب بنت اسحاق، فقال له الحسين: لقد كنت أردت نكاحها و قصدت الارسال اليها، فاخطب علي و عليه لتتخير من اختاره الله لها، و اعطها من المهر مثل ما بذل معاوية عن ابنه، فلما دخل عليها أبوالدرداء قال لها: قد خطبك أمير هذه الأمة و ابن ملكها و ولي عهده و الخليفة من بعده يزيد ابن معاوية، و الحسين بن بنت رسول الله (ص) و سيد شباب أهل الجنة، و قد بلغك سناؤهما و فضلهما و قد جئتك خاطبا عليهما فاختاري أيهما شئتا، فسكتت طويلا ثم قالت: يا أباالدرداء لو أن هذا الأمر جاءني و أنت غائب لأشخصت فيه الرسل اليك و اتبعت فيه رأيك، فأما ان كنت أنت المرسل فقد فوضعت أمري


اليك فاختر أرضاهما لديك؛ فلما لم يجد بدا من القول و الاشارة، قال: أي بنية، ان ابن بنت رسول الله (ص) أحب الي و أرضي عندي و الله أعلم بخيرهما لك؛ قالت: قد اخترته فتزوجها الحسين و ساق لها مهرا عظيما، فبلغ ذلك معاوية فتعاظمه، ولام أباالدرداء لوما شديدا.

و أما عبدالله بن سلام فان معاوية اطرحه و قطع عنه روافده لسوء قوله فيه حتي قل ما في يديه، فرجع الي العراق، و كان قد استودع زينب مالا عظيما فظن أنها تجحده لطلاقها من غير شي ء كان منها، فلقي حسينا فسلم عليه و قال له: انه استودعها مالا و أثني عليها و طلب أن يحضها علي رد ماله، فبلغها الحسين ذلك، و قال لها أدي أمانته و ردي عليه ماله فقالت: صدق، استودعني مالا لا أدري ما هو فادفعه اليه بطابعه، فأثني عليها الحسين، ثم لقي عبدالله و أمره أن يدخل اليها معه فأخرجت اليه البدر فشكر و خرج الحسين عنهما، و فض عبدالله خواتم بدرة و حثي لها منها فاستعبرا جميعا، فدخل الحسين عليهما و قد رق لهما، فقال: اشهد الله أنها طالق ثلاثا، اللهم قد تعلم أني لم أستنكحها رغبة في مالها و لا جمالها، و لكن أردت احلالها لبعلها، فسألها عبدالله أن تصرف الي الحسين ما كان قد ساق اليها من مهر، فأجابته الي ذلك فلم يقبل الحسين، و قال: الذي أرجو الله من الثواب خير لي؛ فلما انقضت اقراؤها تزوجها عبدالله.

هذه قصة تلقي بين أيدينا ضوءا علي احساس الحسين (ع) الشديد و انتصافه لقضية العدالة و انتصاره للمظلوم، و مضائه علي طيته بدون رعاية لجانب الا جانب الله و حب الا حب المصلحة العامة، باعتباره ساهرا عليها. فان الاسلام قد انتدب كل سلم للمحافظة علي قضايا العدل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

ثم نري الحسين (ع) يمضي تحت املاء أحاسيسه الطافحة لا ينثني و لا يلتوي. ثم يبالغ في المواساة في كل ما يستشعر ان فيه محسنة و صنيعة.

روي ياقوت المستعصمي عن أنس. قال كنت عند اللحسين (ع) فدخلت


عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيته بها، فقال أنت حرة لوجه الله تعالي؛ فقلت له: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها، فقال كذا أدبنا الله فقال تبارك و تعالي (و اذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) و كان أحسن منها عتقها..


پاورقي

[1] هذا الحديث ذکره کثيرون، و منهم الشريف الرضي في المجازات النبوية بسند الخلفاء العباسيين و هو اسناد ملوکي غريب.

[2] راجع عيون الاخبار ج 3، ص 140.

[3] راجع عقد الآل في مناقب الآل.

[4] راجع عيون الاخبار ج 3 ص 40.

[5] هذه القصة رواها عدد من المؤرخين و رجال الادب باختلاف في الاسم و الجهة فعند ابن‏قتيبة في الامامة و السياسة ج 1 ص 304 ان اسمها ارينب و وقائعها في المراق و عند شهاب الدين النويري في نهاية الارب ج 6 ان اسمها زينب و ذکر الميداني ان وقائعها في المدينة و تجد اختلافا کثيرا في انها وقعت الحسن او الحسين و ان الواسطة ابوالدرداء او ابوهريرة و ان الزوج عبدالله بن سلام او عدي بن حاتم و قد جاء ذکرها عند ابن‏قتيبة في السياسة و النويري في نهاية الارب و ابن‏بدرون في شرح قصيدة ابن‏عبدون و ذکرها السيوطي في تحفة المجالس و الشبراوي في الاتحاف بحب الاشراف و الميداني في مجمع الامثال. و هي مع اختلافها تلقي علينا بصيصا مما نجتهد بالاخذ به و رأينا الخاص ان القصة في اقرب رواياتها و ارجحها انها وقعت في العراق و ان الذي انتصف هو الحسين عليه‏السلام و لذلک اثبتناها.