بازگشت

الالمعية أو النشاط العقلي


من الظواهر البارزة في ذوي الشخصية، وفور الاستعداد الذهني، وجودة الملاحظة، و خصب الفطنة، و حضور البديهة، و سرعة البادرة، و جمال المحاضرة. حتي يبدو أحدهم في مجال الحديث خراجا و لاجا يداور بين البديهة و الاحكام كأنه الحول القلب. و يمتلك من المجلس علي مقدار ما يمتلك من الاستعداد.

و السر في أن النشاط العقلي يرفع بقيمة المرء، و يحطه الخمول و الوهن العقليان، أن مقاييس الناس لقيم الأشياء تجتمع في الاعجاب؛ فعلي مقدار ما تترك في النفس من أثر اعجابي تكون قيمة الأشياء. و الاعجاب علي الدوام باعث من بواعث النشاط النفسي يبدد ما يعرو النفوس من الملل. و من ذلك تأتي قيمته. بينما الخمول العقلي ينتقل ميكروبه من صاحبه الي النفوس الأخري، فيسارع اليها الملال و يعروها ضرب من الخمول الشديد. و في قول أبي العلاء المعري، ما يفسر هذا.


(تثاءب عمرو اذ تثاءب خالد

بعدوي فما أعدتني الثؤباء)

و هذا أخذ وصفي بعيد عما يتطلب الأسلوب العلمي من دقة في الافاضة و الشرح، لان من قصدنا أن نخط صوة قريبة، تضم الوصف الي التعليل، و الأسلوب الشعري الي الأسلوب العلمي تطرية و تقريبا.

و النوادر في هذا الباب كثيرة جدا، حتي توفر أبواسحاق الحصري في كتابه (جمع الجواهر) علي ضم شتيتها و قد جاءت رائعة رائقة و في أقضية (أميرالمؤمنين) علي (ع) قدر كبير من هذا النشاط، و لقد عني بها الامام الترمذي فجمعها، و نقل قسما كبيرا منها العلامة ابن قيم الجوزية في كتاب (السياسة الشرعية). و في كتاب الأذكياء لابن الجوزي جزء كبير من هذه التندرات. و نثبت بعضها قصد تلوين الحديث.

ذكر الحصري أن الجاحظ حكي عن الشرقي بن القطامي. أن أبن ابي عتيق [1] لقي عائشة (ض) - و هي عمة ابيه - علي بغلة، فقال الي أين يا أماه؟ فقالت أصلح بين حيين تقاتلا، فقال عزمت عليك الا ما رجعت، فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتي نرجع الي يوم البغلة..

و دخل يوما علي عائشة (ض) و هي لما بها، فقال كيف أنت يا أماه جعلت فداك، قالت في الموت، قال فلا اذا انما ظننت أن في الأمر فسحة، فضحكت و قالت ما تدع مزحك بحال.

و من أقضية علي (ع) ما ذكره ابن القيم. أن امرأة استنكحها رجل أسود اللون، ثم ذهب في غزاة فلم يعد، فوضعت غلاما اسود فتعيرته، فبعد ان شب الغلام استعداها الي سيدنا عمر (ض) فلم يجد شهادة اثبات و كاد يتم للمرأة ما أرادت، بيد أن عليا (ع) أدرك في طرفة ما تجتهد المرأة باخفائه، فقال: يا غلام أما ترضي أن اكون أبا لك و الحسن و الحسين أخويك، فقال الغلام: بلي،


ثم التفت الي أولياء المرأة، فقال: أما ترضون أن تضعوا أمر هذه المرأة في يدي، قالوا بلي، فقال اني زوجت مولتي هذه من ابني هذا علي صداق قدره كذا و كذا؛ فأجفلت المرأة و قالت النار النار يا علي!.. و الله انه ابني، و لكني تعيرته لسواد لونه.

و مما ذكره ابن الجوزي في (الأذكياء). أن رجلين أتيا امرأة و وضعا عندها مالا، و أوصياها أن لا تعطي المال الا لهما جميعا، و بعد لأي جاءها أحدهما و طلب المال بناء علي أن صاحبه توفي فأسلمت اليه المال، و لم ينشب أن جاء صاحبه فطلب المال، فقالت دفعته الي صاحبك، فداعاها الي أميرالمؤمنين عمر (ض)، و كان علي (ع) يشهد الدعوي و قد فهم من سير الخصومة أن الرجلين يمكران بالمرأة، فقال للرجل عندنا ما طلبت و لكن ائت بصاحبك علي مقتضي الشرط، فذهب و لم يعد.

و ذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء: ان أباحامد الخراساني القاضي، قال: بني ابن عبدالسلام الهاشمي بالبصرة دارا كبيرة، و لم يتم له تربيعها الا بمسكن لطيف كان لعجوز في جواره امتنعت من بيعه، فبذل لها أضعاف ثمنه، فأقامت علي الامتناع فشكا الي ذلك، فقلت هذا من ايسر الأمر انا اوجب عليها بيعه، فاضطرها الي ان تسألك و زن الثمن.

ثم استدعيتها فقلت: يا هذه ان قيمة دارك دون ما دفع لك و قد ضاعفها أضعافا فان لم تقبليه حجرت عليك، لأن هذا تضييع منك. فقالت جعلت فداك، فعلا كان هذا الحجر منك علي من يزن فيما يساوي درهما عشرة، و تركت منزلي ما أختار بيعه. فانقطعت في يدها.

و ذكروا في كتب الأدب أن تميم بن جميل السدوسي، كان قد خرج علي المعتصم فبينما كان يجوس خلال الفرات اختتله جند المعتصم و أحضروه اليه، فأمر بالنطع و السيف و لكن رآه جميلا و سيما، فأحب أن يعرف أين لسانه من منظره، فقال: يا جميل لم خرجت علينا.


قال يا أميرالمؤمنين ان الذنوب تخرس الألسنة الفصيحة و تعيي الأفئدة الصحيحة، و لم يبق الا عفوك أو انتقامك و ارجو ان يكون اسرعهما الي و اقربهما مني اشبههما بك و اولاهما بخلقك، ثم أنشأ يقول:



أري الموت بين السيف و النطع كامنا

يلاحظني من حيثما أتلفت



و أكبر ظني أنك اليوم قاتلي

و أي امري ء مما قضي الله يفلت



و ما جزعي من أن أموت و انني

لأعلم أن الموت شي ء موقت



و لكن خلفي صبية قد تركتهم

و أكبادهم من حسرة تتفتت



فان عشت عاشوا خافضين بعزة

أذود الردي عنهم و ان مت موتوا



فقال المعتصم: كاد و الله يا جميل ان يسبق السيف العذل، و لكن اذهب فقد غفرت لك الصبوة و تركتك للصبية.

و ذكر الحصري أن الوليد بن يزيد قال لبديح، و كان أحلي الناس و أذكاهم، خذ بنا في الاماني فاني اغلبك فيها، فقال له: يا اميرالمؤمنين أنا أغلبك لاني فقير وأنت خليفة و انما يتمني المرء ما عسي أن يبلغ اليه و أنت قد بلغت الامال، قال لا تتمني شيئا الا تمنيت ما هو أكثر منه، قال فاني أتمني كفلين من العذاب، و أن يلعنني الله لعنا و بيلا، فقال اعزب لعنك الله دون خلقه.

و يروي أن أحد النواب الامريكيين كان مرشحا عن منطقة ضد آخر، فبينما هو يخطب داعيا الي تأييده علي برنامجه الانتخابي جاء بعض نصراء الخصم بحمار حتي اذا نهق قطع علي الخطيب، فقال النائب ببداهة نادرة أرجو من جمهوري الاصغاء الي ما يريد ان يقول زعيم الخصوم.


مالنا و للحديث عن الناس؛ لنفرغ الي تشخيص هذه الناحية عند الحسين (ع) في آثار ما نطق به لسانه.

روي ابن حجر [2] ان الحسين قال: اتيت عمر و هو يخطب علي المنبر، فصعدت اليه فقلت: انزل عن منبر ابي و اذهب الي منبر ابيك، فقال عمر: لم يكن لابي منبر: و اخذني فأجلسني معه اقلب حصي بيدي، فلما نزل انطلق بي الي منزله فقال لي: من علمك، قلت: و الله ما علمني احد؛ قال بأبي لو جعلت تغشانا. قال فأتيته يوما و هو خال بمعاوية و ابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر فرجعت معه، فلقيني بعد، فقال لي: لم ارك، فقلت يا اميرالمؤمنين اني جئت و انت خال بمعاوية فرجعت مع ابن عمر، فقال: انت احق من ابن عمر فانما انبت ما تري في رؤوسنا الله ثم انتم.

و روي [3] ابن ابي طلحة القرشي ان اعرابيا دخل المسجد الحرام فوقف علي الحسن (ص) و حوله حلقة، فقال لبعض جلساء الحسن: من هذا الرجل، فقال: هذا الحسن بن علي، فقال الاعرابي اياه اردت، بلغني انهم يتكلمون فيعربون عن كلامهم، و اني قطعت بوادي و قفارا واودية و جبالا، و جئت لا طارحه الكلام، و اسأله عن عويص العربية، فقال له جليس الحسن: ان كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب، و أومأ الي الحسين (ع) فوقف عليه و سلم فرد عليه السلام، ثم قال ما حاجتك يا اعرابي، فقال: اني جئتك من الهرقل [4] و الجعلل [5] و الأينم [6] و الهمهم [7] . فتبسم الحسين فقال الاعرابي و اقول اكثر من هذا فهل انت مجيبي علي قدر كلامي؟. فقال الحسين قل ما شئت فاني مجيبك عنه فقال الاعرابي


اني بدوي، و اكثر مقالي الشعر و هو ديوان العرب، فقال الحسين قل ما شئت فانشأ يقول:



هفا قلبي الي اللهو

و قد ودع شرخيه



و قد كان أنيقا عصر

تجراري ذيليه



عيالات و لذات

فيا سقيا لعصريه



فلما عمم الشيب

من الرأس نطاقيه



و أمسي قد عناني

منه تجديد خضابيه



تسليت عن اللهو

و ألقيت قناعيه



و في الدهر أعاجيب

لمن يلبس حاليه



فلو يعمل ذو رأي

أصيل فيه رأييه



لألفي عبرة منه

له في كر عصريه



فأنشد الحسين ارتجالا:



فما رسم شجاني قد

محت آيات رسميه



سفور درجت [8]

ذيلين في بوغاء [9] قاعيه



هتوف حرجف تتري

علي تلبيد ثوبيه



و ولاج من المزن

دنا نوء سماكيه



أتي مثعنجر الودق

بجود من خلاليه



و قد أحمد برقاه

فلا ذم لبرقيه



و قد جلل رعداه

فلا ذم لرعديه



ثجيج الرعد ثجاج

اذا أرضي نطاقيه



فأضحي دارسا قفرا

لبينونة أهليه



فلما سمع الأعرابي ما أنشده له، قال بارك الله عليك، مثلك تجلة الرجال.


و روي [10] ابن عساكر أن نافع بن الازرق و هو رأس الازارقة الخوارج قال للحسين (ع): صف لي الهك الذي تعبد.

فقال يا نافع من وضع دينه علي القياس لم يزل الدهر في الالتباس، مائلا اذا كبا عن المنهاج ظاعنا بالاعوجاج، ضالا عن السبيل قائلا غير الجميل، يا ابن الازرق أصف الهي بما وصف به نفسه، لا يدرك بالحواس و لا يقاس بالناس، قريب غير ملتصق و بعيد غير مستقصي، يوحد و لا يبعض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا اله الا هو الكبير المتعال.

فبكي ابن الازرق و قال ما أحسن كلامك، فقال بلغني انك تشهد علي أبي و علي أخي بالكفر و علي، قال ابن الازرق اما و الله يا حسين لئن كان ذلك لقد كنتم منار الاسلام و نجوم الأحكام، فقال الحسين اني سائلك عن مسألة فقال سل، فسأله عن قوله تعالي (و اما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) فقال يا ابن الازرق من حفظ في الغلامين فقال ابوهما، فقال الحسين ابوهما خير ام رسول الله فقال ابن الازرق: قد انبأ الله تعالي عنكم أنكم قوم [11] خصمون.

الاخبار عن الحسين (ع) في هذا الباب أكثر من أن تحصي، و لقد كان يجي ء بالمدهشات في الفتيا و ما اليها من العلم. حتي قال فيه ابن عمر (ض) انه يغر العلم غرا - اي يغذي -


پاورقي

[1] کان نادرة الزمان في سرعة الاجابة و حضور البديهة و اجتذاب النکتة.

[2] راجع الاصابة ج 2 ص 15.

[3] راجع مطالب السئول في مناقب آل الرسول.

[4] ملک الروم و يريد به ارض الروم.

[5] النخل القصار.

[6] ضرب من النبت.

[7] القليب الکثير الماء.

[8] الريج الدروج التي يدرج مؤخرها حتي تري لها مثل ذيل الرسن في الرمل.

[9] التربة الرخوة.

[10] راجع التاريخ الکبير ج 4، ص 323.

[11] ذکر السمعاني في کتاب الأنساب ص 28. انه لما انتشرت الازراقة اظهرت في اتباعها ان عليا (ع) هو الذي انزل الله فيه (و من الناس من يعجبک قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله علي ما في قلبه و هو ألد الخصام).