بازگشت

العظمة الشخصية في الشخصية العظيمة


أرأيتم الي الرجل يقوم علي اسم الله و يمضي علي اسم الله و يموت علي اسم الله، كيف تسمو به الغاية و يعلو به الهدف. هو هدف و لكن ليس من شهوات النفوس، و غاية و لكن ليست كمثلها الغايات، غاية تحقر كل ما في الحياة من أشيائها، و لا تري سوي الملكوت الاعلي هدفا و دون السماء مستقرا؛ لانه مهدها فلا بدع أن حنت اليه و طلبت اللحاق به، فللناس أوطانهم، و للناس حنينهم، و لمثل هذه الشخصية وطنها و لها حنينها.

فهي تشق طريقها بين الجلامد و الصخور، راضية مرضية و ماضية مطمئنة، لأنها تناجي الأمنية السامية و تنشد المثل الاعلي، و هل وراء الله مطلب؟. و هل الي غير الله مصير؟. و هل بعد الله حقيقة؟.

هذه مبادي ء الرجل المصطفي، و الرجل المختار. فلا عجب أن راح يطلبها في كل شي ء، و لو حال الموت دونها فهو يستعذبه، لانه الطفرة التي تصل به الي أعذب الاماني، و هل مع الأماني العذاب، شعور بمريرات العذاب.

و قديما ارتفع صوت المسلم في اقدام و مضاء، بالكلمة الرهيبة عند الناس و الأغنية عنده:




و لست أبالي حين أقتل مسلما

علي أي جنب كان في الله مصرعي



الشخصية الكبيرة من الناس، و لكن بما فيها من المعني الآهي و السر القدسي و القبس العلوي، تنير السبيل للانسانية في حالكة الظلم و في الليل الأليل الأدكن (الله نور السماوات و الارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري). و كذلك تكون في حياتها دليلا أمينا، و بعد مماتها أمثولة رائعة، فيها من كل عناصر الخلود و السمو. و تاريخ كل أمة انما هو في الحقيقة تاريخ عظمائها، فأمة لا عظيم فيها لا تاريخ لها، أو ليست جديرة بالتاريخ.

و نحن اذا قدمنا حسينا بين العظماء، فانا لا نقدم فيه عظيما فحسب، و انما نقدم فيه عظيما دونه كل عظيم، و شخصية أسمي من كل شخصية، و رجلا فوق الرجال مجتمعين.

و لا بدع فكل من عرفهم التاريخ و عرفناهم، قضوا دون غاية من أمجاد الارض، فكان من قضي دون مجد من أمجاد السماء أسمي.

و الآن سأخوض في بيان نواحي العظمة التي امتاز بها الحسين (ع) في كل ميدان، حتي يبدو امة بين العظماء. فقد عرفنا العظيم في ثوب الشجاع، و عرفنا العظيم في ثوب البطل، و عرفنا العظيم في ثوب الضحية الشهيد، و عرفنا العظيم في ثوب الزاهد، و عرفنا العظيم في ثوب العالم. و أما العظمة في كل ثوب، و العظمة في كل مظهر، حتي كأنها تآزحت من أقطارها فكانت شخصا ماثلا للناس يقرأونه و يعتبرون به. فهذا ما نجده في الحسين (ع) وحده، و هذا ما نلمسه فيه فقط، حيث هو من نفسه و حيث هو من نسبه، فلقد يكون ابوه مثله، و لكن لا يجد له أبا كمثل نفسه.

فرجل كيفما سموت به من أي جهاته انتهي بك الي عظيم، فهو ملتقي عظمات و مجمع أفذاذ. فان من ينبثق من عظمة النبوة (محمد)، و عظمة الرجولة (علي)، و عظمة الفضيلة (فاطمة)، يكون امثولة عظمة الانسان، و آية الايات


البينات. فلم تكن ذاكراه ذكري رجل بل ذكري الانسانية الخالدة، و لم تكن أخباره أخبار بطل بل خبر البطولة الفذة.

فالحسين (ع) رجل و لكن فيه آية الرجال، و عظيم و لكن فيه حقيقة العظمة. فرعيا لذاكراه. و رعيا للعظة به.

و من ثم كان جديرا بنا أن نستوحيه علي الدوام، كمصدر الهامي انبثق و هاجا قويا، و امتد بأنواره أجيالا و اجيالا، و لا يزال يسطع كذلك حتي ينتظم اللانهايات و ينفذ الي ماوراء الارض و السموات، و هل لنور الله حد يقف عنده أو معلم ينتهي اليه (و يأبي الله الا أن يتم نوره).

و كذلك يجد من تدبر نهايته أعظم بها نهاية، و أعظم بها تضحية و أعظم بها مثلا و ذكري نادرة. حتي كأن يد الله خطت بها علي الأبدية سطرا أحمر قانيا، هذه كلماته (الاخلاص لفظ معناه في الموت الرهيب، فمن شاء أن يكون مخلصا، فليوطن نفسه علي كل مكروهاتها):



قد خط سطرا علي الأيام نقرؤه

و كان آية أمجاد و احماسا



يا حبذا الموت دون المجد مجتلدا

و أحقرن بعيش الذل انكاسا



علي أن السبط الشهيد (ع) من وجه آخر، تمت به روعة القداسة التي ابتدأت بجده المصطفي (ع). فان للقداسة جلالها و لكن روعة القداسة لن تكون الا بالدم علي جوانبها.



نحيي الطهارة في بيتها

اطار الطهارة قدس ودم



فلتسمع الأجيال و لتستيقظ الانسانية، علي الصوت الرجاف الذي ينبعث من أعماق الرجم و من وراء القبور، حيا جياشا ينفذ الي الأعماق فتستعر له الضمائر، و ينثال الي مواطن الشعور فيحيا به الوجدان.

و علي نبرات مثل هذا الصوت فقط يتأتي للانسانية أن تغسل آثامها و تخلص من أدرانها و تتطهر من أرجاسها، حتي تعود انسانية كما أرادتها الشرائع و احتفلت


بها الاديان، و حتي تكون انسانية عمادها المثل العليا و الفضائل الصالحة و الخير المطلق و احقاق الحق، فان لهذه الخصال وحدها ضحي الحسين (ع)، و لقد كبرت كلمة أن يقال انما ضحي من أجل الملك أو الغلبة أو السلطان، و ما كان هذا من هم نفسه الكبيرة، و ما كان هم نفسه من شهوات الناس، و انما أيقظه الجور و دفعه الاعتداء و أنشطه الظلم و استثاره أنين الضعفاء و عويل المثكولين و دموع المفؤودين. و ان من بين العدوان علي الحق، و تجاهل العدوان، تنبعث الاحرار و تخرج الأبطال.

و لقد كشف الامام الشهيد عن برنامجه و خطته التي دفعته الي الثورة و الخروج، و كأنما أراد أن يسجل علي الباطل بطلانه، و أن يجعل للحق في بناء الباطل كوة يرتفع منها صوته علي الدوام، و كذلك تم الامر علي أن يتعالي من هذه الكوة الصوت الذي زلزل دولة الظالم و حطم سلطان الباغي و مزق العادي كل ممزق و أدال به الي حيث المهوي السحيق.

و لنسمع الي برنامج الامام الشهيد (ع) الذي أثاره و وطن نفسه علي نهايته، من فمه الطاهر الهادي، قال يخاطب الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان: «أيها الامير انا بيت النبوة، و معدن الرسالة، و مختلف الملائكة، بنا فتح الله و بنا ختم؛ و يزيد رجل فاسق شارب الخمر و قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق؛ و مثلي لا يبايع مثله). هذه الكلمات المعدودة نحوي برنامجا خطيرا و دستورا عمليا واسعا، و يمكننا أن نسميه «ناموس الثورة». و الحق أن فيه المبادي ء العالية لاعلان الثورة، و فيه المواد اللازمة لنقد الخليفة أو الملك.

و لست أرسل الكلام ارسالا، بل أقول ما أقول و ملؤه التحقيق، و لذا كان جديرا بنا أن نتفهم، قبل الخوض في بيان نواحي العظمة عند الحسين (ع)، هذه الكلمات التي يأتلف منها برنامج ثورة الامام الشهيد، حتي لا تعتلج في نفس أي كان ريبة متهمة أو تهمة مستريبة، علي أنها تجلو غوامض من صفحة المجالدة التي أثارها الامويون و أذكوها مستعرة حامية، و قامت علي هذا الأوار كل دولتهم.


و في الحق أن أعظم ما يهم المؤرخ الناقد، هي هذه الصفحة المختصرة، لانها توضح كثيرا من الخفايا في سير الدراسات التاريخية الاسلامية الاولي التي كانت حوادثها كنواة لكل ما ترتب و نشأ عنها من حوادث في تسلسل التاريخ الاسلامي، و في غير افاضة طويلة قد تفض من وحدة الموضوع، نأخذ في تفهم هذه الخطة الرائعة الرشيدة التي أوضح عنها للوليد؛ و هي علي وجه الاجمال صورة من صور المحافظة علي السلام و الرغبة فيه، ما لم ينقلب السلام حربا و يتجني علي الآمنين، فلا بدع أن يلجأ أشد الراغبين بالسلامة الي الحرب الذي يجد فيه حقيقة السلام و معناه.



و اذا لم يكن من الموت بد

فمن العار أن تموت جبانا



شاءوا أن يشهدوا رجل التقوي و العمل الصالح الذي ينبثق من معدن الرسالة و نجار النبوة و بيت الاصطفاء الالهي، ثم يتمثل فيه الحق بأجلي معانيه و يظهر بأروع مظاهره. شاءوا أن يروا المثل الكامل الحامي الوديقة في نصرة العدالة و الحق، ينحني بصغار و يخضع بضعة و يستسلم بذلة، لرجل الباطل و الفسوق و التجاوز و الخروج و التحدي لله و لرسوله و للمؤمنين، و المجاهرة بدون مبالاة و لا ارعواء و لا احتشام، بكل ما تفرق منه الشريعة و ترتعد له الانسانية و ترتجف به الفضيلة. شاءوا أني روا بيعة تتم علي هذا الوجه و تنتهي علي هذا الطراز الساخر. فلا نعجب اذا رأينا هذا الامام ينظر الي عهد كهذا العهد و بيعة كهذه البيعة كأنه نير من نار، أفضل منه حر السلاح في هجير الحر، فقضي كذلك مستبسلا.

قضي عليه السلام دون العقيدة شريفا مجاهدا.



قف دون رأيك في الحياة مجاهدا

ان الحياة عقيدة و جهاد



و لنسمع بعد هذا كيف يعلننا الامام برأيه الصريح في فلسفة البيعة و معني الخلافة و صفة الخليفة. يقول: واجب الخليفة أن يستحيل القانون و الشريعة في نفسه وجدانا و ضميرا و عاطفة و صدي شعوريا عميقا، و الا كانت خيانته أقرب اليه من نفسه، و دينه و تقاليده و عنعنات الأمة جميعها أهون عنده من


عطفة عنز. فاذا فسق الخليفة عاد علي رأس الأمة شريرا، يقذف دائما بالشر و الشرر، و يرمي دائما بالويل و الثبور.

و هناك واجب آخر علي الخليفة اذا تجاوزه وجب علي الامة اسقاطه و وجبت علي الناس الثورة عليه، و هو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامة، و الا فأي تظاهر بخلافه يكون تلاعبا و عبثا، و من ثم وجب علي رجل القانون أن يكون أكثر تظاهرا باحترام القانون من أي شخص آخر، و أكبر مسئولية من هذه الناحية، فاذا فسق الملك ثم جاهر بفسقه و تحدي الله و رسوله و المؤمنين، لم يكن الخضوع له الا خضوعا للفسق و خضوعا للفحشاء و للمنكر، و لم يكن الاطمئنان اليه الا اطمئنانا للتلاعب و العبث و المعالنة الفاسقة. هذا هو المعني التحليلي لقوله عليه السلام (و يزيد رجل فاسق شارب الخمر و قاتل لانفس المحرمة، معلن بالفسق).

ثم ينتقل الامام بنا الي روح المبايعة، و معني العهدة و فلسفة الخلافة، و هنا يلزمنا كثير من الأناة و التفهم، لأن الامام يجمل كل معناها في كلمة واحدة و هي (و مثلي لا يبايع مثله). يعني الامام الشهيد بهذا أن المبايعة بيع النفس للخليفة الذي هو رمز الشريعة و الدين و وحدة التقاليد و العقائد و حامي القرآن كتاب الله، و ولي عهد المصطفي صلوات الله عليه. و ان المبايعة أيضا التضحية و الاستماتة في سبيل الخليفة الرمزي، و هي أيضا وقف كل مسلم نفسه علي أن يلبي نداءه قال تعالي (أطيعوا الله و الرسول و أولي الأمر منكم) فجعل طاعة الخليفة الرمزي من طاعته، لانه ينفذ أوامره جل شأنه.

اذن فالمبايعة استسلام و خضوع حتي الموت، و بعبارة اخري البيعة بيع النفس للخليفة، فهي رق اجتماعي و سياسي و ديني، و من ثم كان لزاما أن يتروي المرء كثيرا حين يبيع نفسه. فيم يبيع؟ و لمن يبيع؟ فاذا كان الخليفة فاسقا فحاشا رقيق الدين ظالما عاديا عابثا، كان معني المبايعة له بيع النفس للفسوق، بيع النفس للفحشاء، بيع النفس للظلم و العدوان، بيع النفس لمجاهرة الله بالعصيان، لأن الخليفة الفاجر صفة من هذا الخصال مجتمعة. و هي تعني أيضا خدمة أهوائه


الشريرة و ميوله الفاسقة و الموت في سبيلها، و أحقر بهذا مبدأ، و احقر بهذه مبايعة، و احقر بهذا الموت تضحية، فكان ضروريا أن يأبي الامام مبايعة يزيد علي شهواته و اهوائه و فواحشه. و أن ينكر و أن يثور و ان كانت الثورة تهلكة، مادام قد أراح ضميره، و أرضي ربه و مات دون مبدئه. و لذا رأينا نفسه الآبية كيف تغلي مثل المرجل في أشد احتدامه، فلم يصغ الي أمير، و لم يسمع من مشفق، و لم يتراخ أمام سلطان أو قوة غاشمة. و ابي أن يرضي للمؤمنين بالدنية و الخسف، فأعلن الانكار و لم يعط أذنه الي من نصحه بالبقاء دون الخروج، لأن عدم خروجه و ان تكن فيه سلامته فيه حتف المسلمين قاطبه.

فسار كذلك معلنا منكرا، ثم ختم انكاره بأمر صورة و أفظعها منظرا، و هو مطمئن الي أن قطرات دمه الزكي ستتسع و تتسع حتي تكون بحرا خضما، يبتلع اول ما يبتلع أولئك الذين أجروا هذه القطرات.

و لقد استطاع عليه السلام أن يقول بمل ء رئتيه و بسعة شدقيه و أن يرسلها صيحة داوية تصم من اذن الفجور و البطل، و تبقي تدوي ما بقيت. و هي بعد كلمة الحقيقة الخالصة. (و مثلي) في لحمة الحق و مظهر دين الله، (لا يبايع مثله) في لحمة الشيطان و مظهر الباطل.

هذا معني البيعة في منطق الحسين (ع)، و هذه فلسفتها عنده، و هي الحقيقة لمن تدبرها. و من ثم كان لها تبعات ثقيلة الاصر لا يتحملها الكبير بسهولة.

و نحن اذا فهمنا الخلافة عند الحسين، سهل علينا أن نفهم كيف هو عظيم بكل المعني و أمكننا أن نشخص عظمته من اقطارها، و أن ندرك بجلاء الجهات التي امتاز بها الامام فكان نسيج وحده، و كان آية النبالة و المثال الفذ. و نقف قليلا عند حادث كربلاء لنظهر علي نواحي عظمة الامام و هي:

عظمة المبدأ، عظمة الصراحة، عظمة المضاء، عظمة الاباء، عظمة البطولة، عظمة الاستهانة.

هذه نواح من العظمة أو عظمات متفرقة، اذا اتصف بأية واحدة منها رجل،


جعلته في مصاف الخالدين، و رفعته الي مدارج الأبطال التاريخيين، و حفظت له ذكرا عاطرا في العالمين، فكيف و قد اجتمعت في واحد، و هي بعد جانب من خلائق عظمته الحقيقة، فان عظمة الحسين (ع) الصحيحة في نفسه الكبيرة التي هي معين لا ينضب. و لنمض الآن في فهم هذه الجوانب في حادث كربلاء.